Al Jazirah NewsPaper Tuesday  31/08/2010 G Issue 13851
الثلاثاء 21 رمضان 1431   العدد  13851
 
قرار قصر الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء دعم للوحدة الوطنية.. وحماية لجناب العلماء
د. أحمد بن يوسف الدريويش (*)

 

إن الأمر السامي الكريم في قصر الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء وعلى رأسهم سماحة الوالد المفتي العام قرار تاريخي حكيم متزن عادل شاف كاف وضع النقاط على الحروف جاء في وقته وحينه ذلك أنه جاء من لدن ملك فد ملهم مبارك مدرك للمصالح والمفاسد واع لمقاصد الشريعة وغاياتها ومصالح الدين والوطن والمواطن، يستطيع بحنكته وحكمته وفطنته وبعد نظره وسعة أفقه أن يقدِّر الأمور ويضع الأشياء في نصابها، ويستخدم حقه المشروع الثابت له شرعاً بحكم ولايته العظمى على الأمة وسياسته لأمورها وأحوالها وبيعته وتخويله رعاية مصالحها ودرء المفاسد عنها، وحمايته حمى الدين والوقوف عند حدوده وحفظه من أن ينال منه أو يتجرأ عليه بفعل أو بقول على الله بلا علم ولا برهان وإنما بناء على تخمين أو ظن أو شهوة أو شبهة عياذاً بالله أو لشهرة أو بريق إعلامي خادع و(إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)، إذ حفظ الدين من واجبات الإمام، بل هو أولى من حفظ البدن وغيره.

وخادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- بهذا القرار التاريخي قد استن بمن قبله من الخلفاء والأمراء لا سيما الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما في سنن الدارمي وغيره قال رضي الله عنه لابن مسعود رضي الله عنه: (ألم أنبأ أو أُنبئت أنك تفتي ولست بأمير؛ ولِّ حارها من تولىَّ قارها) فمنع عمر -رضي الله عنه- ابن مسعود من الفتوى وأوكل ذلك لأميره في العراق، ومعلوم من هو ابن مسعود في علمه وفهمه وديانته وكفاءته.. ومع ذلك منعه من الفتوى مع وجود الأمير.

وهذا ولا شك يظهر ميزة حكام هذه الدولة المباركة سلفا وخلفا وحرصهم على اقتفاء سيرة سلف هذه الأمة الصالح، وتطبيقهم لشرع الله الخالد منهجاً قولاً وعملاً وسلوكاً عقيدة وعبادة ومعاملة.. وتحريهم للحق، والعمل به، والبحث عن أهله لتكليفهم القيام بأمر الدين والدنيا ورعاية مصالح العباد والبلاد متعاونين ومتكاتفين في ذلك مع ولاة أمورهم وقادتهم الأتقياء الأوفياء.

فهذا القرار الحكيم جاء كالسيف القاطع والشهاب الثاقب الملجم لكل من يتعدى على مؤسساتنا الدينية ومرجعياتنا العلمية الفقهية وعلمائنا الأجلاء المنصوبين الموثوقين لينال من وحدتنا ويزرع بذور الخلاف والفرقة بيننا متذرعا بالدين ومتلبسا بلباس المفتين غير متسلح بسلاح العلم المبين والشرع الحكيم أو يتخذ من منابر الجمع وغيرها فرصة للخوض في أمور هي من خصائص أهل العلم الأكابر المنصوبين.. أو يؤلب على ولاتا أمرنا عن طريق إصدار بيانات غير مشروعة عن طريق النت والشبكة العنكبوتية مدعياً النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومن ثم جاء هذا القرار ليعيد لأهل العلم الموثوقين هيبتهم ومكانتهم ويثبت مرجعيتهم والثقة بهم وينزلهم منازلهم الشرعية ويرد على كل من يحاول النيل منهم، أو يسلبهم حقهم الشرعي.. أو يشكك في علمهم وقدرتهم على الحفاظ على الثوابت ومعايشة الحاضر واستشراف المستقبل.

جاء ليحفزهم على متابعة قضايا الدين والوطن والأمة في المدلهمات والمستجدات في الحوادث والنوازل وعم ترك الحبل على الغارب في هذه الأمور للمتعالمين والأصاغر وغير المتخصصين من المنتسبين للعلم أو غيرهم للخوض فيها والكلام عنها. ذلك أن العصر الحاضر قد تميز بوجود بعض النوازل والمستجدات والمتغيرات التي لم تعرف من قبل، وذلك نتيجة لتطور المعارف والعلوم، وتغير الجتمعات واختلاف ظروف الحياة وأنماطها، وذلك في مجالات متعددة علمية واقتصادية وصحية واجتماعية وتقنية وتطبيقية.. الأمر الذي يستدعي استنهاض علمائنا الأجلاء الأكفاء لأداء دورهم المناط بهم ولإسهام الفاعل في إيجاد الحلول الشرعية المتفقة ومقاصد الشريعة وغاياتها ويسر الإسلام وسماحته وعدالته ونزاهته.. وإثبات أنهم لذلك أهل -وهم كذلك- وقطع الطيق على من سواهم ممن لم يجمع علم أولئك وورعهم وديانتهم وزهدهم وكفايتهم، وقدرتهم على مسايرة عصرهم، جامعين بين الأصالة والثوابت الراسخة، والقيم الفاضلة، والتقاليد الأصيلة، والمنهج الحق السديد، والسلامة في القول والفعل والمعتقد، وبين معايشة الحاضر وواقعه ومستجداته، واستشراف المستقبل لهذا الدين وهذا الوطن بل والإسلام والمسلمين بعامة.

ما جاء هذا القرار ليعطي الفتوى أهميتها باعتبار أنها (إخبار عن حكم الله تعالى في إلزام أو إباحة) أو هي: (توقيع عن الله عز وجل) كما قرر ذلك أهل العلم: فالمفتي مخبر عن حكم الله تعالى في المسألة أو الواقعة التي يسأل عنها، ومن يجرأ على الفتوى بغير علم أو دليل بيّن فقد افترى على الله وتعدى حدوده قال عليه بل علم وارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، قال الله تعالى: ?وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ?، وقال صلى الله عليه وسلم: (أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالا فسألوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من أفتي بفتيا من غير تثبت -أو بغير علم- فإنما إثمه على من أفتاه).

فالفتوى لها شروط وحدود وضوابط مفصلة في مضانها من كتب أهل العلم لابد أن يتقنها من يتصدى لها، ويضطلع بها؛ لأنه من الخاصة، الذين ذكرهم الله بقوله: ?قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ?، وقوله تعالى: ?إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ?، وقوله تعالى: ?وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ?.

فمنزلة الفتوى عظيمة، ومهمة الفتوى جسيمة، ودور العلماء المخلصين كبير وكبير أمام هذه المهمة الرفيعة ذات المكانة الشريفة.. فلا يجوز أن يشتغل بها من ليس من أهلها، أو يجرأ عليها من لم تتوفر فيه شروطها وضوابطها.. كما هو الحال في وقتنا الحاضر عندما باشرها ممن هو من غير أهلها من غير المتخصصين والمؤهلين والأكفاء حتى أصبحت بعض الفتاوى عبارة عن أقوال أو روايات مرجوحة بل ربما شاذة لبعض أهل العلم لا تستند إلى دليل صحيح صريح من المنقول أو المعقول أو لا تتفق مع مقاصد الشريعة ومصالحها وغاياتها.. وربما كان ذلك عن طريق (النت) أو الشبكة العنكبوتية أو غيرها من الوسائل غير المعتبرة.. أو أراد البعض من خلال هذه الفتاوى أن يلفت النظر إليه ليس إلا أو التباهي بهذا العمل وأنه أفتى كذا وكذا فتوى مخالفة لما عليه جمهور الأمة سلفاً وخلفاً و احتسب كذا وكذا وفاق غيره في ذلك.. فالله المستعان.. الأمر الذي سبب لبساً وربما تناقضاً عند عامة الناس حيث أصبحت بعض المسائل والوقائع لديهم حلال جائزة من وجه، ومحرمة ممنوعة من وجه آخر، فيحتار المستفتي بأي الفتوين يأخذ وأي المفتين يسأل؟، ثم أنها جرأت أعداء الدين والوطن على غمز هذا الدين ولمزه والنيل من مرجعياته العلمية الشرعية المعتبرة، ورحم الله العالم العلم التابعي الجليل ربيعة الرأي الذي ذرفت عيناه وقال: (من أُستفتى من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، وبعض من يُفتي ههنا أحق بالسجن من السرّاق).

ومن ثم كان الواجب هو التدخل لمنع هذه الفوضى والاضطراب في الفتوى. ولضبط الفتوى، والرفع من مكانة العلماء ومنزلتهم.

علماً أن القرار الحكيم السديد والتوجيه السامي الكريم قد فصل الأمر في هذا الموضوع حيث أشار بحكمة وحنكة أن الفتاوى الفردية غير المعلنة في وسائل الإعلام ونحوها في أمور العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية إذا كانت بين السائل والمسؤول بعية كل البعد عن الآراء الشاذة والمفردات المرجوحة فلا بأس في ذلك إذا كان المسؤول متحلٍّ بالضوابط الشرعية التي ذكرها أهل العلم في هذا الموطن إذ الأصل في الفتوى وإظهار العلم وعدم كتمانه والعموم، لكن متى ما صلحت الذمم، وساد بين الناس الورع، وقويت الذمم وتحققت الأمانة في ذلك.. أما إذا فسدت الذمم وضعفت الأمانة وعمت الفوضى.. كان التدخل من قبل ولي الأمر متعيناً لضبط ذلك وتقييده وحصره على أهله، وذلك من قبيل السياسة الشرعية، والمصالح المرسلة.

فلا يسعنا حيال ذلك كله إلا السمع والطاعة والمبادرة بالامتنثال فمصلحة الدين والوطن فوق أي مصلحة، وأن نكون قدوة حسنة لغيرها في قبول هذا القرار والعمل به.. وأن تسعى كل جهة معنية رسمية بالاضطلاع بدورها المناطب ها بحزم وكفاءة.. حفظ الله خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وجزاه الله خيراً على ما قدم ويقدم لدينه ووطنه وأمته وأعظم له الأجر والمثوبة.. على حماية بلاد التوحيد.. وحفظ الله علينا ديننا وبلادنا وولاة أمرنا وتقبل منا الصيام والقيام والصلاة وصالح الأعمال ورزقنا الصدق والإخلاص في القول والعمل والمعتقد.. إنه جواد كريم وبالإجابة جدير.

(*) وكيل الجامعة لشؤون المعاهد العلمية


 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد