Al Jazirah NewsPaper Thursday  02/09/2010 G Issue 13853
الخميس 23 رمضان 1431   العدد  13853
 

رحيل غازي القصيبي «المتعدد في صيغة المفرد»(1-2)
مكتشف السر الأعظم: لا سبيل لرد الهزيمة أمام إسرائيل من الديموقراطية !
د. عبدالرزاق عيد *

 

عندما شاركت في عدد الجزيرة عن الفقيد الكبير غازي القصيبي، فقد ضبطت الدهشة التي اعترتني عندما اطلعت على إنتاجه الروائي والفكري، وأنا الذي لم أكن أعرف فيه من قبل إلا ذلك الشاعر لجميل....

لقد ضبطت دهشتي تجاه الموسوعية التي تراءت لي، ليس الثقافية فحسب، بل موسوعية تعدد الأعلام التي تسكن شخصيته، فهو عدة أعلام (شاعر وروائي، باحث ومفكر) يجتمعون في عَلَم واحد هو غازي القصيبي...إلا أن ضبطي لدهشتي مصدره حساسية مفرطة -وربما مغالية- تجاه عالم المسؤولين العرب... خشية شبهة الممالاة أو التملق...أي حساسيتي تجاه مواقع المسؤولية التي كان قد احتلها الراحل كوزير وسفير سابق...

لكن رحيله المفجع حررني من هذا القيد: قيد شبهة الممالاة بعد أن انتفت المصلحة، فأردت في تعزيتي هذه أن أعوض عما بخلت به من حب تجاه هذا الرجل في بحثي السابق عنه في ثقافية (الجزيرة)، هذا الرجل الذي أظن أن ملكة الإبداع وسطوع المواهب احتلت كل مساحاته الداخلية، فلم يبق فيها سوى الحب وقيم الحق والجمال الإنساني...

إن كل من قارب أو يقارب تجربة الكتابة عند غازي القصيبي، سيعبر عن دهشته تجاه هذه التجربة «الاستثناء»، وفق عنوان السِفر الذي أنتجته إصدارات الجريدة الثقافية، جامعة فيه عشرات الشهادات والدراسات والأبحاث التي قامت بها مشكورة لتضيء المشهد الثقافي العربي بهذا المبدع (الاستثناء) الذي مضى عن عالمنا وهو يستشعر استثناءه الحدسي باقتراب الرحيل... وذلك عندما يتمنى على رئيس تحرير الجريدة أن يتحول العدد الخاص لثقافية الجزيرة إلى كتاب..لأنه يريد من كتاب الشهادات هذا أن يترك للأولاد والأحفاد «كنزا» وبينهما كثير من الدموع..والابتسامات!

«تركتُ لهم محبة آلاف القراء»..جعلتُ فداهم!

هذا الرجل المفعم بالعطاء والسخاء الإنساني الداخلي، ما كان له إلا وأن يرد التحية بأحسن منها للجزيرة والكتاب العرب....عندما اعتبر بتواضع جليل أن هذه الشهادات هي»كنزه»...أي أن كنوزه ليست في إنتاجه الذي لا يدانيه في موسوعية تعدد ساحاته وفضاءاته وأصواته إنتاج عربي آخر في القرن العشرين إلا إذا طافت في ذاكرتنا صورة العميد (طه حسين).....الراحل الذي أتاحت لنا الجزيرة أن نقرأه في تعدده هو ظاهرة كتابية، شكلت بالنسبة لي مفاجأة وأنا الذي لم يكن يعرف إلا كتاباته الشعرية في الصحف كما ذكرت، فكانت تحضر صورته في مخيلتي الثقافية بوصفه معادلا جماليا وسيويولوجيا ومشاعريا لنزار قباني: يحتضن تشابههما ذوقا أرستقراطيا وأناقة ورفاها ودلالا وعذوبة وعنفوانا مشاعريا، وفي الآن ذاته يحتدم غضبا قوميا ودموعا ويرقّ ابتسامات وورودا ونجوما تسبح في كون مشاعري أثيري يتشكل من نوافير ورذاذ القمر، وأرجوحات معلقة في النجوم، وأكواخ مبنية على الغيم، جدرانها الظلالية وأبوابها من زهر، وخيام عطر يسكر فيها السحر...

تعالي دقائق نحلم فيها

بنافورة من رذاذ القمر

بأرجوحة علقت بالنجوم

بأسطورة من حديث المطر

بكوخ على الغيم جدرانه

ظلال وأبوابه من زهر

بخيمة عطر يعب الغروب

شذاها ويسكر فيها السحر

والمقارنة بين المرهفين الناعمين (الشامي نزار والخليجي القصيبي) تتقاطعان حتى في التجربة الحياتية، إذ كلاهما سفيران... فالقصيبي السفير السياسي في لندن كان سفير الجمال لصوت الخليج، كما كان نزار قباني سفيرا رسميا وسفيرا جماليا لصوت بلاد الشام..فكنت أعتبر قراءة الواحد منهما كقراءة قرينه، بوصفها قراءة بطر لا تتسع له خياراتي الحياتية والثقافية والسياسية العكرة والمتجهمة والمقطبة دائما..

لكني عندما طلب مني المساهمة في عدد الجزيرة الخاص، فإنها كانت فرصة لي لكي أستدرج إلى عوالم الثراء والتنوع الثقافي والأدبي والفني بل والفكري والسياسي، الذي أوصلني لتشكيل استنباط تأويلي يتيح لي أن أقارب روايته «شقة الحرية» تحت عنوان فكري يومئ إلى الدرجة النوعية التي سترتقي له رؤية راحلنا إلى العالم: «غازي القصيبي والمنظور القومي التنويري الليبرالي».

وقد كنت شديد الجدية في تقصي ملامح هذا المنظور في البنية التكوينية لخطاب الرواية، حيث هذا المنظور يمكن تقصيه بما فيها كتاباته السياسية والنظرية والثقافية، بل وفي سلوك الرجل اليومي وحياته الوظيفية كوزير وسفير ومدير شركات مهنية (كهرباء - خطوط حديدية)...وقد مارس كل هذه الوظائف والمهن وفق معايير عالمية حديثة لا تتعارض أو تصطدم بذاكرته الثقافية الشعرية ومخياله الإبداعي الذي شرب حتى الثمالة ثقافة بلاد امرئ القيس وطرفة ابن العبد والنابغة وعمر بن أبي ربيعة، كل هؤلاء يسكنون ذاكرته بالدرجة ذاتها التي يسكنها الشعر العربي قديمه وحديثه على امتداد الجغرافيا العربية... لكن العقل التركيبي البنائي الدرامي الحواري التعددي للقصيبي أتاح له أن يقابس الغرب بثقة شديدة: ثقة ذات محصنة ثقافيا وتراثيا وحضاريا لا تخشى على هويتها من الضياع وكأنها ورقة تذروها الرياح كما يتطير الخائفون من الغزو الثقافي، ولهذا تفاعل مع الآخر بنديّة دون عقد (التفوق أو الدونية)، ودون أن يكون داخله مليئا بالرمال والغبار أو صليل الكلمات الشعارية الشعبوية المدغدغة والمبلسمة لجسد أمة مثخنة بجراح الهزيمة...

إذ إن المنظور النهضوي التنويري سيتيح له أن يرى الآخر الغربي كحالة تحد حضاري يحث العقل العربي على امتلاك سر تفوق الآخر، حيث الصدمة معه هي صدمة (مهماز) محفزة على التحدي لأنها صدمة مع المتفوق ليس العسكري فحسب بل والفكري والتقني والسياسي والحضاري، وليس كما يفرضه علينا (الملالي) من تحديات التأخر التي لا تقود إلا إلى التنابذ الطائفي، أي أن التحدي مع الغرب هو تحدي الحداثة، وبالدرجة الأولى امتلاك حداثة العلم وليس منتجاته الاستهلاكية، العلم ليس بوصفه سلعة تقنية، بل بوصفه نظاما للعقل والفكر الذي ينتج التقانة، حيث التقنية فرع من شجرة المعرفة العقلانية والتنويرية...

متسائلا بألم: «هل تعرف أن العالم العربي سينفق ما قيمته عشرة بلايين دولار على الصناعة البتروكيميائية خلال العشرين السنة القادمة دون أن يتمكن من تصميم مصنع بتروكيميائي واحد؟»

إن سيرة تحولات الراحل على طريق صناعة موسوعيته، تعكس بصورة ميكروسكوبية مكثفة رحلة العقل الإنساني على طريق تعقل ذاته، إذ بدأ شعرا غنائيا، حيث الشعر سابق على النثر في تجربة الطفولة الإنسانية التي بدأها الإغريق... ثم ما بعد الشعر الغنائي كانت النقلة إلى الشعر الدرامي، فالنثر، ويحايث هذا النسق معرفيا الفلسفة البرهانية، ويتوجه النظام السياسي في صيغة التعددية والنظام الديموقراطي... بينما الشعر يوازي ويمثل صوت الأنا الفردية الواحدية الطفولية في مرحلته الغنائية ما قبل الدرامية، ويحايثها معرفيا الدين والكهانة، ويتوج واحديتها الصوتية الكهانية سياسيا: النظام الأوليغارشي الاستبدادي الطغياني....

يمثل مسار القصيبي في تجربته الكتابية معادلا للمسار الموضوعي الذي عرفه تاريخ تولد الأنواع الأدبية عالميا، وفق نموذج متوالية: من الشعر (الأنا الغنائية): أنا القبيلة أو الأمة، التي تمثلت بانحيازات (فؤاد) في رواية (شقة الحرية) إلى العروبة الناصرية....أما ما بعد المرحلة الغنائية الواحدية القومية والبلاغية البيانية بالضرورة، سينتقل القصيبي بتجربته الإبداعية إلى النثر من خلال الرواية والسرديات عموما، حيث الرواية كفن تركيبي متعدد الأصوات، يمثل المرحلة العقلانية التنويرية المفضية على مستوى المعادل السياسي إلى (الديموقراطية)...

وستتحايث التجربة الروائية المتعددة الأصوات - ورواية شقة الحرية هي رواية تعدد أصوات كما خلصنا في بحثنا المكتوب إلى الجزيرة الثقافية- مع النقلة السياسية باتجاه الديموقرطية التي ستشكل خطا خطابيا حاسما في تطور سردية نص (العصفورية)، حيث خلاصة التجربة تقوده إلى اكتشاف السر الأعظم لهزيمة العرب، وهي أن «لا سبيل للعرب في خوض معركتهم ضد إسرائيل من الديموقراطية...» أي عندما يزول حكم الفرد وتبدأ تجربة ديموقراطية حقيقية في أي مكان من عربستان -البلاد العربية- سوف تكون هذه بداية النهاية لإسرائيل حسب الجنرال الإسرائيلي موشيه...

وبالتوازي مع تجربة الرواية كجنس أدبي هو نثر الحياة الحديثة على حد تعبير نجيب محفوظ، ستبدأ تجربة الفقيد مع الكتابات النثرية الفكرية والثقافية والسياسية من خلال مساهماته في الكتابة الصحفية التي سرعان ما سيجد المتلقي نفسه تجاه باحث مفكر ينتج خطابا نظريا يستند إلى منهجية تحليلية في البحث والتفسير السوسيولوجي للظواهر الفكرية والثقافية والسياسية، قد تكون (الخلدونية -ابن خلدون) أحد مستويات مرجعياتها المضمرة، لكنها -مع ذلك وربما بسبب ذلك-الكتابة التي تحقق نفسها وتتحقق في شرط الخطاب الحداثي بلا ترهل إنشائي أو خطابية بيانية مزخرفة أو مفخفخة، رغم توفره على ميراث بياني شعري وأدبي قل نظيره، لكنه مع ذلك فهو يتقن تطبيق القاعدة البلاغية الذهبية: بأن لكل مقام مقال.... فالظواهر السياسية والثقافية لعصرنا لا يمكن أن تكتب إلا بلغة عصرنا، أي الكتابة في شرط الحداثة...ولعل من أعمق القراءات التفسيرية والتحليلية هو ما كتبه الراحل عما يسمى ب»الثورة الإيرانية»، وسنقدم مثالا على ما ذهب إليه رغم أنا لسنا في سياق بحث عن الكتابة (القصيبية)، لكنا نسوق هذا المثال رثاء وشجنا على ما فقدته الثقافة العربية بفقدان الراحل.

............يتبع

* باريس

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد