Al Jazirah NewsPaper Friday  03/09/2010 G Issue 13854
الجمعة 24 رمضان 1431   العدد  13854
 

مرثية خطوات في الضباب أمام دروب التقوى
عبدالمؤمن القين

 

لم يدخر الأخ الكبير جهداً إلا وبذله في سبيل تشجيع أخيه الصغير حينما كتب أول أقصوصة له ونشرها في الصحافة بعنوان (خطوات في الضباب) معلناً فيها سقوط قدمي البطل في الوحل عدة مرات حتى لم يستطع انتشالها، ومع ذلك أعجب الأخ الأكبر بهذه الأقصوصة لا لأنها جميلة حقاً أو تدل على موهبة فذة للأخ الصغير، ولكن لمجرد تشجيعه وحبه له.. نعم كان يحبه ويحب أخاه عبدالمنعم أيضاً الذي كان يماثله في العمر تقريباً وكان يثني على رسوماته في لوحاته الإبداعية أيضاً.. كان هذا الأخ الكبير يشجعهما دائماً لمجرد التشجيع في هواياتهما وحينما يلعبان كرة القدم أيضاً بالرياض وجدة ويتوسط لهما عند والده إذا ما غضب عليهما وخبأ عنهما الكرة في حالة عدم أداء الصلاة وتقديم الرياضة عليها.. لله دره من أخ حنون عطوف!! أما في حالة رسوب أحدهما وحصوله على دور ثان في إحدى المواد الدراسية، فكان يهون الأمر عليه ويحثه على الاستذكار والاستعداد للدور الثاني.. ويحاول أن يتلمس معه خطأه ليعالجه.. وهكذا.

كان عبدالعزيز بن عبدالله القين مع أخيه عبدالمنعم وعبدالمؤمن القين اللذين يعتبران توأمين تقريباً لما بينهما من تقارب في السن فعبدالمنعم يكبر عبدالمؤمن بسبعة أشهر فقط، وهما في مرحلة دراسية واحدة وكانا معاً قلباً وقالباً إلى أن مات عبدالمنعم في حادث سير عام 2001م تقريباً.

وفي علاقة متطورة بناها عبدالمؤمن معه بعد توظفه بوكالة الأنباء السعودية بوزارة الثقافة والإعلام، أتاح له عبدالعزيز فرصة استقبال كبار الضيوف بمطار جدة الدولي حينما كان مديراً للمطار مثل الدكتور هنري كسينجر وزير خارجية أمريكا وغيره كبقية مراسلي وكالات الأنباء ومندوبي الصحف ولم يكن يسمح له بمزايا أخرى باعتبار محسوبيته كأخ.. فالعمل عمل عنده ولا فرق بين أخيه وبقية المراسلين والمندوبين.

وتمر السنوات تلو السنوات والأيام تلو الأيام والذكريات تلو الذكريات بالأخوين الحميمين، كل في اهتماماته واتجاهاته، لكن شيئاً واحداً يشدهما إلى بعضهما بالبعض الآخر..

ما هو؟ إنها الصراحة.. نعم الصراحة التي لا تهاب إلا الحق ولا تعرف إلا الحق ولا تخاف في الحق لومة لائم.. فالحق قيمة للصدق والصدق قيمة له، ومن جاء بالصدق وصدق به فهو صديق وصادق وصدوق، وليس الأمر كذلك مع الكذب والكاذب والكذوب.. وتأتي قيمة الصداقة بين هاتين الشخصيتين.. أو هذين الأخوين: عبدالعزيز وعبدالمؤمن، من مفهومي العزة والإيمان فتلتقيان في مفهوم واحد وبوتقة واحدة، العزة التي تنادي بالثبات في الإيمان والإيمان الذي ينادي بالثبات في العزة فلا عزة بدون إيمان ولا إيمان بدون عزة، قال تعالى: {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (10) سورة فاطر، والحمد سند للإيمان والعزة معاً، في قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} (111) سورة الإسراء.

إن النأي عن كل ما يشين العلاقة الإنسانية هو السر في بقاء عزها والإيمان في العز نفسه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه)، فكم كان أخي عبدالعزيز - رحمه الله - رفيقا بي، لم أسمع منه قط كلمة جارحة أو أنه ذلني بشيء ما، بل العكس هو الصحيح، كان ذليلا لي وقت ذلي وضعفي وهواني بين الناس ،كأني أتمثل به قوله تعالى: {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْا} (29) سورة الفتح، بكى لبكائي.. وفرح لفرحي.. صادقني وهو الكبير في عمر أبي، وها أنذا أقف اليوم على رأس صف عزائه في موقف مهيب يعزيني الناس فيه.. فيا لثقل المسؤلية ويا لهول الصدمة!! ويحك يا عبدالمؤمن!! أأنت أهل لكل هذا؟! أأنت الصغير في عين نفسك تصبح فجأة كبيراً في أعين الناس؟؟ سألت نفسي؟! فما وجدت غير الدموع تنهل من عيني!!).

(تأخرت على يا مؤمن؟) هكذا كان يعتب علي إذا لم أزره!! بعبارات ترسم الوحشة التي تملؤ قلبه وقلبي معه في عالم ملؤه الوحشة بفضائيات الأقمار الصناعية من حوله التي لم تستطع محو هذه الوحشة والغربة في حياة الإنسان أبداً وتحيلها إلى حنان ضاع وضاع وضاع في أعياد كنا نستلهم فيها الود مع الوالد - رحمه الله - إذا جلسنا إلى المائدة فيقول: لا يجلس عبدالعزيز إلى جانب عبدالمؤمن فهما خطر!! يقصد بذلك التهامنا للطعام وحرمان غيرنا له.. بكيت كثيراً عندما تذكرت هذا القول، لكن الأنس أحاط بي والله بتذكره.. وبكيت أكثر حينما تذكرت البحر وجلساته بجدة وعملي بالصيف أيام موسم الحج.. إلخ.. وأشياء وأشياء كثيرة.. منها الحلو ومنها المر، وكلها مع أخ كبير يكبرني بأكثر من حوالي عشرين عاماً أقف اليوم أتقبل عنه العزاء بعد أن استقر بي المقام بعد تقاعدي بجدة حيث يقيم منذ عام 1422هـ، فما بال هذه المصادفة؟ لماذا لم أعد إلى المدينة المنورة حتى الآن رغم جهودي منذ تقاعدي منذ أكثر من خمس سنوات تقريباً؟

أما عدم قدرتي على الانتقال والعودة إلى المدينة فيعود إلى ظروف زوجتي وأبنائي العملية والوظيفية، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى قد يكون الأمر متعلقاً بناحية روحية قبل انتقالي إلى جدة من الرياض، حيث رأيت رؤيا منامية أنني أزور أخي عبدالعزيز - رحمه الله - وعند باب بيته وقف يمنعني من الدخول ويقول لي: اذهب وأدخل الكعبة أولاً، وكان عنده في البيت والدي - رحمه الله - وأخي عبدالرزاق القين عضو مجلس الشورى (سابقاً) وذلك عام 1418هـ تقريباً حينما فرغ خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز من ترميم الكعبة المشرفة - وكان ولياً للعهد آنذاك - فطلبت منه أن أسلم على أبي وأخي عبدالرزاق ثم أنفذ له طلبه فسمح لي بذلك.

وفعلاً كان له ما طلب، ومشيت إلى مكة المكرمة في غرة شعبان من عام 1419هـ، تقريباً وأكرمني الله بدخول بيته الحرام والصلاة فيه والدعاء طويلاً.. طويلاً، ولولا أن السدنة قالوا ويقولون بالتخفيف لبقيت بقية عمري لا أرفع رأسي من السجود من أرض الكعبة أبداً.. أبداً!! لقد تحررت فيها من الزمان واتحدت فيها بالمكان فأحسست بما لم أحس به في حياتي من قبل ولقنني رئيس السدنة عند الخروج هذا الدعاء الجميل: (رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً).

ومنذ تلك اللحظة بدأ التغير في الخطوات.. فهي لم تعد تمشي في الضباب.. فتهوى في الفراغ تجد اللا معنى في مواقع الذل، لكنها تجد المعنى في مواقع العز. ما هو المعنى؟

هو الإيمان، وما هو العز؟ هو التقوى، بل هو الرضوان من الله عز وجل، بخ.. فبخ.. على أحسن ما تطلع عليه الشمس من وجوه نضرة.. مشرقة بابتسامات ونظرات كلها آمال تستشرف الرؤى الجميلة في عالم كله حب يلتقي هذا مع ذلك؟ كيف يأخذ هذا من ذاك؟ كيف يستمع هذا إلى ذلك؟ معادلة صعبة تبدو.. لكنها ليست مستحيلة، إذا ما عرفنا أن الأدب يترعرع في جميع البيئات وفي جميع الأحوال والظروف.. فقصص رحلات الطيران كتبها الأدباء في أنحاء العالم وأبدعت السينما في إخراجها، ولأخي عبدالعزيز - رحمه الله - قصص مثيرة في هذا المجال، نختار واحدة منها.

في موسم حج عام 1391هـ - 1971م أقلعت من مطار جدة الدولي طائرة الخطوط الجوية العراقية عائدة إلى بغداد ثم سقطت محترقة، وبعد أن بوشر التحقيق في الحادث سافرت لجنة برئاسة مدير مطار جدة الدولي إلى الطائف تحمل تقرير تفاصيل الحادث لتسليمه لصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران والمفتش العام، وكان وزيراً للدفاع والطيران ومفتشاً عاماً آنذاك فقط، وبعد التسليم اتجه مدير المطار عبدالعزيز القين ومرافقه صالح صعيدي عائدين إلى جدة بالسيارة ووقع لهما حادث في جبل الهدا وتهشم على إثره فخذ أخي عبدالعزيز وحوضه الأيسر وذلك بعد منطقة المعسل في الجبل، ونقله صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز إلى بريطانيا فأجريت له عملية جراحية كبيرة، وزرته بعد عودته فطلب مني كتابة قصة عن ذلك الحادث الأليم لأنشرها له ولكنني لم أفعل، كان يشعر أنه استمات في خدمة دينه ومليكه ووطنه حتى أصابه ما أصابه فاستعذب الألم بل الآلام فالله يؤجره إنه سميع عليم.

وكان أن كتب هو مذكرات من واقع معاناته مع مرضه قرأها علي وليتني طلبتها منه آنذاك، ولعل ابنه غسانا يحتفظ ببعض منها، وعندئذ يمكن نشر قصة أدبية كاملة عن ذلك الحادث برعاية وعناية سمو ولي العهد الأمين لأخي يرحمه الله، وإلى أن كان عام 1430هـ حينما تعرفت على العميد متقاعد الشاعر إبراهيم شطا وجمعتني به ندوة الدكتور اللواء أنور عشقي بجدة حدثني عن أخي عبدالعزيز - رحمه الله - كثيراً وعن أخي عبدالكريم وأخي عبدالبر - رحمه الله - حينما تزامل معهم في بعثة التدريب بالظهران وأطلعني على قطعة نثرية عن أخي عبدالعزيز لا أجدها الآن بين أوراقي المتناثرة ولعله ينشرها إذا رأى مقالتي هذه إن شاء الله.

هذه بالنسبة للأدب، أما الإعلام فقد كان أخي عبدالعزيز يدلي بحديث سنوي عن جهود المملكة خلال موسم حج كل عام وخدماتها في سبيل تذليل كل الصعوبات أمام حجاج بيت الله الحرام، كما أنه كان يشغل منصب سكرتير منظمة إياتا الدولية للطيران المدني مما أكسب المملكة ثقة واحترام المجتمع الدولي في هذا المجال.

حب الإرادة للإرادة (هنيهات)

ويزول الضباب من كل الآفاق وينقشع لتظهر أشعة الشمس صافية فالرجاء خلف كل صفاء جميل وليس الصفاء خلف كل الوعود الخلب مرجو، فيا رب حبيب صانعته زمناً لأكسبه فما أكسبني الزمان منه إلا شقوة، لكني أخي عبدالعزيز لم أصانعه زمناً بل لم تصانعه نفسي حباً بحب لهنيهة ومضة كانت فيما بعد مدى الزمان حب إرادة الإرادة لايجود بها زمن لزمن إلا نادراً.. فيا لزمان أنت مغادرنا أين الزمان منا يا زمان وقد غادرتنا أشجاننا ونحن في فرح من البر والطاعة يغمرنا؟ أنا وأخي.. وأخي وأنا.. صنوان قد صهرتنا تجارب حب على شاطئ محاراته صمت يتفجر بحقيقة واحدة هي الحق.. والحق وحده إذا ما الصدق ألان الكذب لينا ولينا.. لا يكسره فيصبح أشتاتاً على الطريق.. فالضباب هنا كثيف لا يرى منه أفق من آفاق الحب كله مزق في مزق.. ترهات تملؤها ترهات.. سفاسف قول لا معالي أمور ترقى بالفكر فتصل به إلى المجد، ويل لكل من يقول: آه.. آه.. آه.. وأين أين المسؤول؟! لا أحد يجيب.. لا أحد يجيب!؟

هذه أجمل قصة كان يجب أن أكتبها لأخي عبدالعزيز - رحمه الله - تخليداً لحب الهنيهات أو الومضات أو الفلاشات في المصطلح التلفازي الذي أفدنا منه أزمنة كثيرة.. هنيهات صدق وحسن قيمة وتوجه وإخلاص، أعوده ويعودني، أفرح له ويفرح لي، أتألم له ويتألم لي أهنته ويهنئني.. إلخ، والأهم من ذلك يحملني وأحمله أي يستمع لي وأستمع له، لا يجرحني بكلمة، لا يفتش عن عيبي.. هو مثلي، يطبق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (طوبي لمن شغله عيبه عن عيوب الناس)، إنه نموذج من الرجال الذين يصوغون الرجال للمستقبل.. يشجعونهم مع نقد طفيف لطيف لا ضير فيه.. كان يدخل علينا بعد صحونا في الصباح مع أبنائه غسان وعصام وهشام، أما نبيل فكان - على ما أذكر - إما في القاهرة أو ينام في غرفة مستقلة فيلومنا على ترك الميكفات شغالة فينبهنا إلى ترشيد الكهرباء بنقد لطيف، وفي المساء حين نتهيأ لطلوع البحر يلومنا إذا تأخرنا.. هكذا بلهجة عتاب لا حدة فيها..

والآن أسائل نفسي كثيراً: هل زال الضباب من الطريق كلياً؟ أرجو ذلك.. وأرجو أن تكون التقوى بل الرضوان زرع هذا الطريق إن شاء الله، فالضباب كان في قصة فتى مراهق كتبها وهو في العشرينات من عمره، أما طريق التقوى فيكتب عنه الآن شيخ في الستينات من عمره يسأل أين حسن الختام ليلحق بمن أعزه الله به، فيلتحم الإيمان بالعز مجدداً ولا يستغني أبداً عن ذلك الفيض من الحنان الذي وجده في قلب أخيه عبدالعزيز كبقية إخوته الآخرين.. فيض رائع ينهمر من ماء نمير سائغ شرابه يشربه ظمآن قد تشققت شفتاه وجف حلقه من العطش.. لم يسمع كلمة ود منذ شهور ثم أصاخ فسمعها من هذا الأخ الودود الحبيب ابن الحب: (مؤمن فينك ما جيت.. تأخرت ليه؟!) كلمات عتاب ومودة.. تحمل الود وتطوي الحب كله.. لاشيء غير ذلك.. وأسأله كيف حالك.. ويجيبني: (الحمد لله) وتحمل نبرة جوابه السأم والتبرم من الحياة، فأتذكر قول زهير ابن أبي سلمى:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم

سئم زهير تكاليف الحياة الصحراوية الجافة من حوله وسئم أخي عبدالعزيز تكاليف حياة الفضاء والطائرات والسيارات والقاطرات.. إلخ، فما هناك فرق في الشعور.. الإنسان هو الإنسان حينما يبلغ الثمانين عاماً، يسرى السأم إلى عروقه سواء عاش قبل مئة عام أو عاش الآن، ومهما اختلفت ظروف حياته ومكونات عصره.. ما هي طبيعة سن الثمانين؟ لعل الأطباء يجيبون على هذا السؤال، ولا أعتقد أن السأم مقيد بسن معين فهو حالة نفسية تأتي في أي عمر كان، خاصة إذا ما عرفنا أن مرض الاكتئاب منتشر في مراحل العمر كله والسأم أحد روايات البيركامو في الأدب الحديث، أما ظاهرة القنوط في القرآن الكريم يمكن من خلالها علاج السأم والاكتئاب بالتفاؤل والأمل بالرجوع والإنابة بأدعية كشف الكرب والهم والغم من الله عز وجل.

وإذا كان الحمد تعبيراً عن الشكر الذي وعد الله عباده بالزيادة إذا ما اتخذوه مبدءاً لهم، كما في قوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمٌْ} (7) سورة إبراهيم، فإن طمأنينة القلب والحمد سكن لها هي الحنان نفسه.. والحب بعينه الذي يعود على المرء بأثر إيجابي عليه فيغمره بهجة وسعادة وغبطة، فيفيض قلبه بالحنان دون أن ينتظر مقابلاً من أحد، وهكذا كان حنان أخي عبدالعزيز لي بعد حنان أبي وأمي رحمهما الله.. لا يجب أن يسألني أحد ما سر ذلك فهو وأبي وأمي من علمني كيف يفيض الحنان دون أن ينتظر المقابل.. إنها هنيهات فقط وليست دقائق أو ساعات وأيام وشهور وسنوات يحسب لها المرء ألف حساب وينتظر فيها الفرج.. لا يا أخي.. بل هي عطاء دائم يشعر به الإنسان في كيانه كله وفي إحساسه كله وفي مشاعره دائماً بدون حدود فيفيض هذا العطاء دون شعور منه على الآخرين.. إنها - أي الهنيهات - تعادلية التعامل في المشاعر ليس أكثر، بل إنها تعادلية العطاء في الإحساس والذوق الرهيف في أرقى درجات الشعور الإنساني حينما يرتقي به الإنسان فوق أنانيته، فيستشف وحده في الحياة كلها وجداً، كلها حباً.. كلها عطاء.. كلها صفاء، فهلا فهم من لا يتجاوز علمهم ظاهر الحياة الدنيا دون باطنها الزاخر بالعطاء بعد العطاء والحب بعد الحب والبذل بعد البذل؟!

وهل ادارك - أي تكامل - علمهم بأحوال الآخرة فأيقنوا ما بها وما فيها من أهوال ما تعلموه، فالله تعالى يقول: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا} (66) سورة النمل، وهذا تهكم من الله عز وجل بكل من يدعي العلم بالإحاطة بكل شيء حادث في الآخرة أي يوم القيامة وما بعد الموت.. فالحب هنا يتجاوز الدنيا إلى الآخرة.. إنه حب قصارى القول فيه: إنه حب المحبة للنبل أو هو نبل الحب من أجل الحب نفسه، فيه التطلع إلى نيل النبل، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ولو بطرف منه إن لم يكن كله لا تكدره شائبة من الشوائب ولا يكدر صفوه شيء من الكدر.. فألا يوجد هذا النبل في علاقة من علائق العز والإيمان.. تلك العلاقة التي تخطف من الزمان هنيهاته وهي لاترجو إلا وجه البارئ الكريم.. الأخوة في الله كما هي أخوة في الدم ليست من أم واحدة باستثناء أنها أرضعتني مع عبدالمنعم، ولكنها أخوة من أب واحد عرف الحكمة في التأليف بين القلوب أو بين العز والإيمان فلله دره من أب يرحمه الله.. كان دائم التطلع إلى معالي الأمور التي يحبها الله ويبغض سفاسفها، وهكذا كان فيض هذه الدموع من عيني كفيض ذلك الحنان من قلبه، الإيمان بالعز يفيض بها مدراراً من أجل إعزاز للإيمان في قلب الحياة كلها.. فلحظة إيمان بالله يغمض الإنسان عينيه عليها كافية لأن تنقله ليستشرف منازل الخلود يوم لا ظل إلا ظله لرجلين تحابا في الله فكيف إذا كان هذان الرجلان أخوين شقيقين من أب واحد وأم لم تلد أحدهما الآخر ولكن أرضعت الآخر؟ إنها نتيجة رائعة لاشك.. فلله الحمد والمنة والثناء الحسن، وله ما أعطى وله ما أخذ أولاً وأخيراً..

عبدالعزيز القين والكلمة الطيبة

الكلمة الطيبة كانت تسيطر على هنيهات اللقاء بيننا فلا تسمح للظنون أو المناجاة في الإثم والعدوان أن تتسلل إلى حديثنا، كانت تزيل الوحشة التي قد تنشأ من مناجاة بين اثنين وثالث في المجلس نهى عنها نبي الهدى والرحمة محمد صلى الله عليه وسلم - مثلاً - فبأبي أنت وأمي يا رسول الله! فأنت المدرسة العظمى في الأخلاق التي أتممت مكارمها وإن نال بعضها عظماء قوم آخرين!!

حرص أخي عبدالعزيز - رحمه الله - على ألا يتفوه إلا بكلمة طيبة لي شبهها الله في كتابه العزيز بشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين فقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}، (24) سورة إبراهيم (25) سورة إبراهيم.

كان يحثني على ذلك كلما سمع عني العكس وكل ما شكى مني أحد إليه فلم يكن معنى عطفه وحنانه دلالا لا حدود له بل - أيضاً - تقويماً وتصويباً لخطأ إن أخطأت ولكن برفق ربما تبعاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله) وربما للحديث السالف الذكر عن الرفق أيضاً.

فالكلمة الطيبة تزرع جذور الحب أما الكلمة الخبيثة فتقتلع هذه الجذور من النفس الإنسانية قال تعالى: {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } (26) سورة إبراهيم.

وهذا الموقف التربوي معيار للصبر عند الرجال في تربية أبنائهم وإخوانهم وهو مبدأ الثبات الذي تشير إليه الآية في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء} (27) سورة إبراهيم، وأسأل الله جلت قدرته أن يكون قد ثبت أخي عبدالعزيز بالقول الثابت عند السؤال في القبر.

ولاشك أن القول الثابت في القرآن الكريم أحد أقسام القول ذات الأغراض والمدلولات الإعلامية والاجتماعية والتي منها - على سبيل المثال - القول المعروف، السديد، الحسن، الميسور، البليغ، اللين، الكريم، الأحسن، المبيت.. إلخ. وقد كشفت دراسة للكاتب عن إمكانية الاستغناء عن نظرية البرمجة اللغوية العصبية بما جاء في نظرية القول أو - على الأقل - تطويع ما جاء في نظرية البرمجة العصبية اللغوية لمبادئ القرآن الكريم.

ويمكن لنا - والحالة هذه - اقتراح إنشاء معهد أو مدرسة تعني بالتعريف بما جاء في الكتاب والسنة في مجال البرمجة اللغوية ليقف العلم الحديث مستفيداً من النظرية الإسلامية في هذا المجال، وكذلك تقدير ما جاء به علم النفس الحديث إذا كان ما فيه لا يتعارض مع الكتاب والسنة، والله ولي التوفيق.

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد