Al Jazirah NewsPaper Tuesday  07/09/2010 G Issue 13858
الثلاثاء 28 رمضان 1431   العدد  13858
 
قرأتُ يوماً!
غادة عبدالعزيز الحسون

 

قرأتُ في إحدى المرات روايةً مُدهشة أكثر ما شدّني إليها هوَ مجموع الطِباع الحميدة التي تتحلى بها الشخصياتْ، بل الحلّة الذهبية التي ترتديها المدينة بأكملها، وحينما أوشكتُ على إنهائها فهمت - أخيراً - أنها المدينة - الأفلاطونية - كما يزعمون..! ثم وبعدَ ذلك، رحتُ في إغفاءةٍ عميقة وتساؤلاتٍ عديدة حولَ ماهية تلك المدينة و كيفَ تشكّلت صورها التعليمية والاجتماعية - على حدٍ سواء - ببراعة وتفان ؟ كيفَ امتزجتْ مفاهيم الازدهارْ العمرانية - امتزاجاً حاداً - مع العقول البشرية التي تتصاغر - أحياناً - كلما تعاظمتْ حضاراتهم؟! لا ضوضاءَ ليلية أو شكاوى من الجيران! لا حوادث مرورية أو أية مخالفات قانونية..! حتى السرقاتْ لقيتْ حتفها في سلة المُهملاتْ حذفاً - نهائياً - مع مجموعة جرائم التعديّ..! أما عنْ البطالة فقدْ نفدت من المجتمع...! الجميع هناكْ مسؤول والجميع - كذلك - يحترم مسؤولياته بدءاً من الوالي حتى الرضيع..! وكدتُ - لولا رحمةْ ربي - بأن لا أعثر على القبسْ ولا أرتشفْ المنهل و أبقى - فيما بين وبين - باحثة عن إجابة ربما تشفيْ غليلي وربما لا! أدركتُ - عزيزي القارئ - شيئاً كان يفترض بي - كمسلمة - معرفته من البداية؟! أجل! إنه الإسلام ولا عجب، تعاملاتٌ تشيْ عن ذوقيّات هذا الدين الراقي وشعائره المستقيمة، إنها أخلاق هادينا - صلى الله عليه وسلم - التي حثّ عليها و فضّل بعضنا عن بعضٍ بها. أيّ ديانةٍ تُعنى بإماطةِ الأذى عن الطريق ؟ أي ديانة تنهى عن أكلْ لحم الأموات الغيبة -؟ أي ديانةٍ تُعنى بالتحية والابتسامة؟! أي ديانة وأي؟!

لم يدع لنا هادينا المتواضع - عليه الصلاة والسلام - مجالاً للخوضْ في واجباتنا اليومية دونما استشعارٍ لها بدءًا من الاستيقاظ وتلاوة أذكار الصباح حتى لحظة النومْ و نفضْ الفراش ثلاثاً..!

وهذا - برأيي - هو ما يجعل حياتنا تتنفس، تمثّل رداء السموّ والرفعة، وتتجاوب مع مُعطياتْ الحضارة دون أن تفقدَ مبادئها. لكني توقفت مرةً أخرى للتساؤل؟! ما الذي يجعلني أشعر و كأن هذه الفضائل تندثر - تدريجياً - برحيل هادينا - عليه الصلاة والسلام - ومن تبعه من أعمدةْ تاريخنا؟!

ألا يَجدرُ بنا التشبّث بالمندوبْ قبل الواجب كي ننعمَ بالراحة والطمأنينة؟ أيشقّ علينا كفّ أذانا مثلاً؟ أم أنه يشقّ علينا مُبادلة بعضنا الهدايا - الروحيّ منها و الماديّ -؟!

لمَ ندع - أولئك الملحدين - ينسبونَ تلكْ الفضائل إليهم وهم أبعدَ من الشمس عنها؟!

في النهاية لا أنسى أن أشير إلى الجانبْ المظلمْ من تلكَ المدينة - التي يزعمون - وأنها تقمعْ جزءًا من الغريزة الإنسانية في بعضْ أحكامها و تُلغيْ عدّة مشاعر روحيّة عظيمة كالأمومة و اختيار الشريك والبقاء مع الأسرة على حِساب مثالية مفرطة في استتباب الأمن وجودة الإنتاج، إنها - بلا شك - تنفيْ السجيّة التي فُطرنا عليها وتجعل الإنسان مخلوقاً مدروسَ الحركاتْ و السكناتْ ليس بمقدرته اختيار الدربْ الذي يريد أو حتى التفوّه بما لا يستسيغه عقله، علاوةً على ذلك تجعل الحياة كلها بطولها وعرضها ليستْ إلاّ مُعادلة حسابية لا يحق للشخص أن يتدخّل فيها أو أن يعيشها كما يشتهي أو حتى يتوغّل في أسرارها؛ لأنه لا يمكن أن يكون إلا واحداً من ثلاثة : إما جنديّاً وإما حارساً وإما عاملاً! وهذا من أشنعْ الأخطاء التي ارتكبها - أفلاطون - في تأسيس مدينته؛ إذ إن مقاييسه هذه نزعة صريحة إلى التخليّ عن العاطفة وتِبعاتها - إيجابيةً كانتْ أم سلبية - والتي لها في كل الأحوال مردود عكسي على الإنسان نفسه وضميره الذي ميّزه الله به عن سِواه من الخلق، بالإضافة إلى أنها تحدّ من تنوّع الإنتاج وتحصر الإبداع في حيزٍّ محدود. هذا والله أعلم!



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد