Monday  04/10/2010 Issue 13885

الأثنين 25 شوال 1431  العدد  13885

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا     نسخة تجريبية
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

           

(1)

سألني مرةً سائلٌ: كيف كانت (المواجهة) بين العملاق الراحل غازي القصيبي رحمه الله، والمرض العنيد الذي (استوطن) جسده، و(استبدّ) بالقلوب المُحِبّة له حزنا عليه وقلقاً؟ فقلت: إن غازي كان عملاقاً في صراعه مع المرض، خاصة بعد أن كشف له الأطباء الأمريكيون عن (هوية) العدوِّ الخبيث الرابض في أحشائه، وكنت أظن ومعي كثيرون أن معاناتِه قبل وبعد دخوله مستشفى الملك فيصل التخصصي بمدينة الرياض كانت مرتبطة بقرحة المعدة وتبعاتها، وهو أمر ظل يشكو منه زمناً طويلاً، ثم يتناول ما تيسر له من علاج، فيتوارى الألم.. ليعود بعد زمن قصير أو بعيد! أما أن تكون محنته الصحية الجديدة بسبب الداء الخبيث فأمرٌ لم يطرأ على بال أحد!

(2)

كنتُ أتابعُ حالتَه الصحية بالحضُور إلى مقرِّ علاجه في الرياض أو هاتفياً بعد سفره إلى أمريكا، وكنتٌ أسعدُ بحديث مقتضَبٍ معه عبْر هاتفه الخاص، فأُسمِعُه آخر الأنباء ممّا قد يهمُّه سماعه، وقد أروي له شيئا من الطُّرَف المتداولة، فيبتسمَ لبعضها ابتسامة تملأُ نفسي غِبطَة وفرحاً، وكلَّمَا سألته في ثنايا الحديث الهاتفي عن مرضه، كان رحمه الله يردُّ بإيجازٍ يُنبئ عن الصبر والإيمان والاحتساب قائلاً: (الله كريم)! وكنت في كل الأحوال أحرِصُ على تجنُّب الاستقصاء في معرفة المزيد عنه صحياً، كَيْلا أزيدَه ألماً، فأزدادَ بذلك وَجَعاً!

(3)

لن تفارقَ ذهني أبداً ذكرى زيارتي الأخيرة له في مستشفى الملك فيصل التخصصي ذات مساء قبل وفاته -رحمه الله- بأيام قليلة، حين استبدّ بي الشوق له، (فاقتحمتُ) عليه خُلوتَه في (العناية المركزة)، ولم أصدّق عيني وأنا أشاهد غازي بعد غياب دام نحو ثمانية أشهر، وسط (غابة) من الأجهزة. كنت وجهاً لوجه أمام الرجل (الاستثناء) غازي جسداً وعقلاً وروحاً! حاولتُ خلال دقائق زيارتي له أن أملأ سمعي وبصري بحضوره المهيب، قلت بلساني قليلاً من الكلمات، لأنني كنتُ أخشى أن تخونني العَبْرة، ويهزمَني الحزن، وتتعطَّلَ لُغةُ الكلامِ!

(4)

كانت عيناه تحاصرانني (فتسمعني) حديثاً تمنّيتُ أن يدومَ، ومرة أخرى، كان عملاقاً وجبّاراً وصبوراً، وكان قبل ذلك وبعده مؤمناً بالله وبقضائه وهو يعاني سَكَراتِ المرض، دعوتُ له من قلبي بالشفاء، ثم انصرفتُ.. وأنا لا أكاد أصدق أنني رأيت غازي بأم عيني، واستمعت إليه بملء سمعي، وكنت في داخلي انتحبُ ألماً وحزناً، ولم أكن أدركُ أنَّ الدقائق التي أمضيتُها بين يديه كانت الأخيرة في حياة كل منا!

(5)

تسألونني الآن: ماذا بقي في ذهني عن غازي ممَّا لم أقله أو أسمعه أو أقرأه، فأقول: إن ما يختزنه وعاءُ الذاكرةِ عن غازي من مواسم الفرح والتَّرح وذكريات لن يفُتَّ في عضدها طول عهد ولا نأْيُ مكان، ولا فَدَاحة خَطْبٍ، كثيرة جداً وعميقة جداً ومتنوعة الأطياف والأصداء تنوء بها ذاكرة مخلوق ضعيف مثلي!

(6)

نعم.. كان غازي القصيبي إنساناً موهوباً بكل قول ومعنى!

في طبعه، شفافية الأديب.. ورومانسية الشاعر، وروحانية العابد، وهيبة العالم.. وجزالة المفكر، وعبقرية الكاتب! كان يعشقه الحرف وينقاد له بلا تردد أو تمرُّد أو خَجَل، حتى في أحلك الظروف وأقساها مرارة وألماً، كما تشهد بذلك روائعه الشعرية التي سبقت رحيله بوقت قصير، تتقدمها رائعته الشعرية (سيدتي السبعون)، وكما في أحدث كُتُبِه (الزهايمر) الذي لم يقدر له أن يشهد ميلادَه حياً!

(7)

وفي الوقت نفسِهِ كان غازي.. رقيق القلب مرهف الإحساس، ويتساوى مع ذلك صلابة في الرأي وجرأة في الطرح وفصاحة في البيان عما يراه حقاً، فينافخ عن رأيه، فإما أقنَع.. أو اقتنع.. أو طوى بساط الحوار إلى حينٍ آخر! وكان قبل كل شيء وبعد كل شيء يمقت النفاق في التعامل.. وما قرّب إليه من قول أو عمل! ويوقّر الجدية في الإنجاز وما قرّب إلى ذلك من قول أو عمل!

رحمه الله رحمة الأبرار!

 

الرئة الثالثة
غازي القصيبي: الطيف الخالد
عبد الرحمن بن محمد السدحان

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا خدمات الجزيرة الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة