Friday  15/10/2010 Issue 13896

الجمعة 07 ذو القعدة 1431  العدد  13896

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

           

إذا قلتَ: (كفر اللهَ) فعدَّيت الفِعْل بلا حرف جر فالمعنى جحد الله نهائياً؛ وذلك هو الدين الماركسي الذي أبدعته الصهيونية العالمية، ثم بعد ذلك ما تقيَّأتْهُ من الدين العلماني، وهو دين الدَّهريين قديماً، وهم قلة تغلب عليهم الأُميَّة، ولا دولة لهم، ولكنهم ورثوا دين الهالكين كعاد الذين قال الله عنهم: {أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ} (سورة هود 60)، وثمود الذين قال الله عنهم: {أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ} (سورة هود 68).. وإذا قلت: (كفر بربه) فعديت الفِعْل بحرف الجر فمعنى ذلك أنه جحد شيئاً أو أشياء من حق ربه على وجه الكمال المطلق، ويدخل في هذا الجحدِ جحدُ شيئ أو أشياء مما صدر عن كماله المطلق كشرعه المعصوم، وأنبيائه المعصومين، وما أخبر به من الغيب، وما شرعه لسعادة البشر في دنياهم وآخرتهم.. وهذا هو كفر أكثر أهل الفترة الذين آمنوا بالله رباً وأشركوا به، وهو الغالب عند أهل الكتب المنزَّلة التي جنوا عليها بالتحريف والتبديل والإسقاط والإضافة.. وقد قضى تدبير الله جل جلاله أن لا يستأصلهم بالهلاك كما استأصل مَن جحدوا ربهم كعاد وثمود؛ ولكن عقوبات الله تترى لعلهم يرجعون؛ وبالاستقراء التاريخي لم نجد بقاع السبق للعلم المادي الحديث من القسم المعمور من المعمورة، ولم نجد الرسالات الإلهية إلا في بلاد الشرق، ووجدنا هذه البقاع هجراتٍ من الشرق، وهجرات من بلدان هاجر إليها أهل الشرق.

قال أبو عبدالرحمن: ولقد جُبلتُ على فضولٍ من حبِّ الاستطلاع حال بيني وبين التفرُّغ التخصصي لحقل أو أكثر من حقل.. لا تفرُّغ استقراء، ولكن تفرُّغ ذي الأرشيف المحصي لأرقام أضابيره، المحصي لمحتوياتها إجمالاً، الصارف عمره في هذه الدائرة الأبديَّة.. كنت أحب أن أعرف ما أقدر على معرفته وإن كان غريباً على تكويني وبيئتي وما دُرِّبت عليه من العلوم؛ ولهذا أثقلتُ مكتبتي بتأليفات وبكتب مترجمة عن الأعباء التي بين الكفر والإباحية وبين العدمية؛ فعنيت بالدادية والسريالية واللامعقول وكل ما في الوجودية من الغثيان والهيبية والعدمية، وما كُتِبَ في التلذُّذ بممارسة المحرمات التي جعلها أمثال اسْبينوزا اليهودي حقاً طبيعياً مشروعاً، وتابعت عقوبات من الله لا تزال تترى أحصاها المؤرخون من أمثال ول ديورانت في قصة الحضارة، وأحصاها المتخصصون في إحضار الوقائع السيئة من سلوك البشر أمثال (ميشيل فوكو) في كتابه (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي) وما هو إلا جنون القوم الراهن الآن ، وقد نقله من الفرنسية سعيد بنگراد بأسلوب أعجمي.. ومن الكوارث التي أحصاها (وهي التي استأصلت كثيراً منهم) الجذامُ، ثم الأمراض التناسلية كالزهري وقد تأصلت اليوم في الإيدز ، والأعاصير في الأعوام الأخيرة المسلَّطة على جزيرة جمهور سكانها من المفسدين في الأرض الصهاينة الأرذال.. ولا تنسَ ما هو موت بطيئ من الكوارث الراهنة؛ فينشأ أحدهم على مبدإ (كُلْ بذراعك أو مُتْ)؛ لارتفاع أواصر الرحم وذوي القربى، والإيثار، والضمان الاجتماعي.. وكل هذا تكوَّن فطرة وديانة من غير تنظيم إداري لدى المسلمين، وهو فطرة عند العرب في جاهليتهم، ثم عَمَرَه اللهُ بالشرع الإسلامي.. وليس هناك علاج شرعي معصوم عند القوم لم يدخله خلل؛ فكانت الوحدة ظاهرة أغلبية، وكان الشح والعبودية للمال بأي طريق ديانة، وكان لا يقوى الفرد على العيش إلا بالربا المضاعَف من بنوك الصهيونية؛ فيظل تحت وطأة الدين مدى عمره، وليس هناك صلة بالرب في جوف الليل وأطراف الليل والنهار تشرح الصدر وتزيل الكرب عن دين صحيح؛ وإنما التداوي بالإباحية، وليس كل واحد قادر على الغرق فيها؛ لشحِّ الموارد؛ فتولَّد من ذلك القلق والأمراض النفسية والجنون والانتحار والعدمية؛ لأن القادر على استهلاك الإباحية أنهك جسده وروحه وعقله، وغير القادر أنهكه الغبن.

*، وكتاب فوكو مليئ بالرموز والأقنعة لأدباء الحداثة - إن كانوا لا يزالون معلقين برموز الخواجات - بعد أن مللنا صخرة سيزيف وخصب تموز، وأصبحت مسكوكات شرقية بعد أن كانت ابتكاراً خواجياً؛ فعزفنا عنها بدافع الملل.. لقد استشرى مرض الجذام (ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- علمنا التعوذ من الجذام والجنون وسيِّئ الأسقام) في بلاد أوربا إلى نهاية ما يسمونه بالقرون الوسطى، ولم تنسف الصهيونية بعدُ الكنيسةَ بما فيها من أثارة بعد التحريف والتبديل، وإن كانت ضعيفة الأثر؛ لأن الأثر الناجع لا يكون إلا مع إخلاص الإيمان بالله على الكمال المطلق، والرضا بأحكامه الشرعية والقدرية، والتصديق بأخباره عن الغيب، وقد أحصى فوكو تسعة عشر ألف مستشفى للجذام في كل بقاع العالم المسيحي نقلاً عن (ماتيو بريز).. وكان شكرُ القوم لنعمة الله بزوال هذا المرض بنشاط الدروس العَلمانية، وأما ذوو الأثارة الدينية الضعيفة فكان لهم طقس ديني يُسمُّونه (التَّطواف المقدَّس) حمداً لله سبحانه.. ولكن السلوك غير شرعي؛ فالإرث المالي الذي فرضه الله مُلغى؛ لهذا أخذوا الثروات الهائلة للهالكين بالجذام لتعمير المستشفيات لأمراض أخرى، ولمساعدة الجنود المصابين، ومساعدة الفقراء.. مع أن فريضة الزكاة الدائمة، والصدقات المستحبة كفيلة بسعادة المجتمع، وما طرأ من مصائب ففي المال حق غير الزكاة والصدقة، وميشيل فوكو (وهو كاتب قدير مستوعب) يدور في فلك إرثه البيئي؛ فهو يُعيد اختفاء مرض الجذام إلى ثلاثة عوامل: أولها ممارسات غير طبية مشبوهة، وثانيها فصل عفوي بين المرضى وغير المرضى، وثالثها القطيعة مع البؤر الشرقية للداء بعد الحروب الصليبية.

قال أبو عبدالرحمن: من ظواهر النقص البشري ظهور التفاهات من العقول الكبيرة المحرومة من الزكاء (بالزاي) الشرعي؛ فالممارسات غير الطبية ليست من أسباب الشفاء، والفصل العفوي قليل، والذي حدث ظلم صارخ وهو ترحيل المصابين بالآلاف ونفيهم، واختلاطهم بآخرين غير مصابين.. وأما بؤر الداء الشرقية فلا يؤثر تاريخياً استشراء جذام جماعي في الشرق خلال الحروب الصليبية، والتاريخ لا يهمل مثل هذا الحدث الكوني العظيم المتعلِّق بالبشر، بل هو داء بدأ وانتهى في أوربا.. وأستدرك ههنا أن اليهود مواطنون قلة في كل بلد أوربي، وأهل الكتاب الآخرون حريصون على شفاء أبناء ملتهم؛ فيهود بلا ريب وراء الممارسات الطبية المشبوهة التي تطوَّرت بعد ذلك بشكلٍ مُروِّع؛ فعلى سبيل المثال مستشفى (بيساتر) قال عنه (فوكو): ((أعرف كما يعرف الجميع أنه في الوقت ذاته سجن، ولكنني أجهل أن المستشفى بني لكي يُولِّد الأمراض، وبني السجن لكي يُفرخ الجرائم)).. ولا يمل فوكو من الحديث عن سوء دور الحجز، وخلط المجنون الذي لم يكن جنونه اختيارياً بالانحلاليين والمجرمين وذوي الأمراض المعدية كداء الحَفَر (فساد الدم) والجذام مع محاولات إخفاء ما يستجدُّ من داءٍ مُعْدٍ.. وبراعة القوم العلمية والعقلية في أمورهم الدنيوية تمنع من هذه الإجراءات لولا أيادٍ خفية تعمل في الظلام؛ فنشرت الرعب في المدن خارج دور الحجز؛ لسريان العدوى؛ فتولَّد الخوف والقلق اللذان كانا مرحلتين لعقوبات عدمية.. ولو كان الدين عندهم صافياً لاعتبروا بقوم موسى عليه السلام سلط الله عليهم الوباء لعلهم يرجعون، ثم كشفه عنهم لما طلبوا من موسى عليه السلام دعاء ربه بأن يكشفه عنهم، وأمثال هذا كثير في الأديان الإلهية.. والله سبحانه قبل بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- مقت أهل الأرض إلا بقايا من أهل الكتاب، و أَمَر ديننا الإسلامي بترك الرهبان ومتعبِّدة اليهود على ما نذروا أنفسهم له وإن كان الدين عندهم غير صاف؛ فالله سبحانه يستجيب للكافر في الضراء إذا لجأ إليه؛ فما بالك بمن عنده أثارة من دين الله المنسوخ شرعاً لا مِلَّة؟!.. ومن أثارتهم المشوبة غير الخالصة قول القديس في كنيسة فيينا وقد أصبحت فيما بعد وكراً للمفسدين في الأرض من صهاينة يهود : ((يا صديقي إنه ليرضى الله أن تكون مصاباً بهذا المرض؛ وإنها لعناية منه أن يعذِّبك على الشرور التي ارتكبتها في هذا العالم)).. والتخلِّي عن المريض في معتقدهم إقصاء له يُعَدُّ خلاصاً، ويمنحه شكلاً آخر من الانتماء إلى الجماعة!!.

قال أبو عبدالرحمن: كون الإنسان ممن إذا أُعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر: شريعةَ الرسل والأنبياء كافة عليهم صلاة الله وسلامه وبركاته بالضرورة الشرعية؛ لأن ذلك استسلام إيماني عن عقيدة مكينة بوحدانية الله على صفات الكمال، وهذا مما لا يدخله النسخ ألبتة؛ فلا يكون الابتلاء رحمة إلا إذا كان تكفيراً يصحبه الصبر والشكر على كل حال والاستغفار، والعافية خير لنا وأوسع؛ فأهملوا جانب الاستغفار والشكر والإنابة عقيدة وقولاً وعملاً.. ومع هذه الأثارة الضعيفة فقد استخفَّ فوكو بعناية الله وحكمته؛ فجعل الخلاص في أثارتهم الشرعية لعبة؛ وللفراغ من دين صحيح أصبح الجذام عقوبة عاجلة لا تكفيراً؛ لأن تكفير الله تعقبه عافية الله بعد إنابة المخلوق، وأما هؤلاء فكانت عاقبة الجذام عندهم عقوبات متلاحمة؛ فانتشر بين القوم الجنون فزعاً من ذلك الداء الهائل العارم، وانتشرت الأمراض التناسلية ابتداء بالزهري؛ ذلك أن القوم لم ينيبوا، وهم مغلوبون على أمرهم ممن يكيد لهم في الخفاء منذ بولس اليهودي (شاؤول المكرِّز) الذي غيَّر دينه إلى أن أصبحت الصهيونية عقيدة إلا عند قلة من يهود مغلوبين على أمرهم أيضاً.. وكان استعمال الزئبق للأمراض التناسلية مما أخذوه عن الأطباء العرب، وذكر فوكو أيضاً العلاج المُعْرِق، وهو عملية تُجبِر الجسد على إفراز العرق، وذكر في القرن السابع عشر ظاهرة حجز ذوي الأمراض التناسلية هم والأصحاء مع كثرة المصابين؛ فماذا كانت النتيجة؟.. إنها انتشار جنون كجنون الفزع من الجذام، ووصفه بأنه (فضاء أخلاقي للإقصاء).

قال أبو عبدالرحمن: كلا.. ليس الحجز ههنا إقصاء ترفضه الأخلاق، وإنما الفضاء الأخلاقي بتخلُّف عنصر الإنابة للفراغ من دين صحيح.. وضَرْبُ المجانين، وترحيلهم، ونفيهم في السفن إلى جزر مهجورة وأماكن غريبة عليهم، والرمي ببعضهم في البحر: حقيقةٌ تاريخية واقعية، ولكن لقبحها وعِظَمِها وتخلِّيها عن المرحمة أنتجت فيما بعد أدباً خيالياً أسطورياً في آنِهِ لا في ماضيه؛ فوجدت ظاهرة (سفينة الحمقى) في آدابهم، وجعلوها مستعارة من (الأرغنوت) في أساطيرهم الوثنية عن مغامرة آلهة اليونان، وليست كرحلة السندباد التي هي للتسلية بالعجائب، وليست ترويعاً بالجرائم الآثمة؛ ولكثرة هذه الرحلات البحرية في الخيال الأوربي سموها الألحان الشائعة، وعَدُّوا من ذلك سفينة الأمراء من خيال سيمغوريون شامبيي، ومعارك النُّبل، وسفينة السيدات الفاضلات، وسفينة الصحة.. ومن خيال جاكوب فان أو ستفورن رحلة (بلوي شوت)، ويعرف ترجمتها حاذقو اللغة الفرنسية.. ومن خيال برانت سفينة الحمقى، ومن خيال جوسي باد سفينة الحمقى وزورق المجنونات.. والحُمق ليس جنوناً، ولكنه داء لدى بعض العقلاء؛ ولهذا قال الإمام الفحل أبو محمد ابن حزم رحمه الله في كتابه الإحكام في بحثه عن الإجماع منتقداً بعض العلماء العقلاء: ((أصناف الحمق أكثر من أصناف التمر)).

*، وهذا رأي توما الأكويني، ولكنهم يُعَمِّدونه دون غفران؛ لأنه لا يشكل تهديداً!!.. ألا ما أكثر أصناف التمر في إشارة الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى!!.. ثم جاء العقاب الرابع لتخلُّف الإنابة عن دين صحيح بمشروعية الجنون الاختياري بعد فلسفتهم للجنون الاضطراري، وجاءت هذه الفلسفة بعد أدبيات (سفينة الحمقى)!!.. لماذا ؟.. لا تعجلوا بطلب الجواب.

*، وهذا عند عقلائهم صرح لضميرهم بدلاً من قلعة النظام المرئية!!؟.. ومن القيم الناتجة عن طرد المجانين: أن المجنون سلَّم نفسه إلى عالم اللايقين *غير اليقين* الرهيب الموجود خارج كل شيئ، وأن سجنه في بحرٍ أكثرُ حريةً وانفتاحاً، ونتيجة هذه الحرية أنه مُوْثَق بشدة بالملتقيات اللانهائية *غير النهائية*.. وهو سيخرج من البحر إلى امتداد خصيب بين أرض لا ينتمي إليها.. وهذه الخيالات يسمونها (ثيمات) وذكروا من نماذجها طفلاً مطروداً في زورق تلعب به الأمواج ثم يعود جديداً على الحقيقة، وخلص فوكو إلى ارتباط بين الماء والجنون في ذاكرة الأوربي، ومهَّدوا للجنون الاختياري بأسطورة (تريستان)، وهو طفل يتيم أُطيح بأبيه الملك منذ ولادته؛ فقد تنكَّر كريستان في ثوب مجنون، وسلَّم نفسه للبحارة الذين يُرحِّلون المجانين، وانتهى به المطاف إلى قصر الملك (مارك)؛ ولغربته عليهم حكموا بأنه آت من القلق المتزايد للبحر الذي يُخفي كثيراً من المعارف، وعلى المدى نشأت قصة الحب الأسطورية بين كريستان (وإيسوت).. ويشير بإجمال إلى أدبيات متصوِّفة القرن الخامس عشر الميلادي؛ فالنفس التي تخلَّى عنها المجتمع تقذفها الأمواج في أعماق بحر مَقرٍّ لرغبات غير متناهية فراراً من عالم أرضي عقيم مثقل بالهموم والجهل؛ وما ذلك سوى انعكاس مُزَيَّف للمعرفة، وهذه المعرفة تتعلق بالإيمان.. وبعد جنون البحر الكبير سيمد القارب أشرعته الروحية كي تجره عناية الله *عبَّر عن ذلك بنفَس الله - بفتح الفاء - تعالى ربي وتبارك* إلى الميناء.. وفي القرن السادس عشر رأى (دولانكر) أن البحر مصدر لدعوة شيطانية لشعب بأكمله؛ ولهذا أَفْقد السهل الكبيرُ الإنسانَ الإيمانَ بالله؛ وإنما الثقة بالنجوم.. وهذه نقلة أخرى من الجنون إلى السحر والتنجيم.. وفسَّر الكآبة الإنكليزية في المرحلة الكلاسيكية بأن أصبحت كل قطرة من الماء تنساب فوق مسامِّ جسم الإنسان وَهْناً؛ فيعود ذلك إلى الجنون، وفي أدبيات متأخرة أصبح الجنون تجلياً لعنصر مائي في الإنسان غامض.

قال أبو عبدالرحمن: واعمراه إن قدر عبث العقول الكبيرة أن يغبنني في عقلي؟!.. وأنَّى لعقل المسلم المتزكِّي بشرع ربه أن يُغبن!!.. وقبل المداخلة التي لا تخلو من عبث كعبثهم فلا حجر على الخيال الأدبي أن يبتكر عوالم من البحر واليابسة والنجوم بشرط السلامة من التجديف والمجون الصارخ؛ وإنما عقوبات العدمية في العالم الإلحادي الإباحي أن يتحول الخيال الأدبي الماجن المجدِّف إلى سلوك واقعي هيبي حُرٍّ.. وأما المداخلة فالذي أعيه من العلاقة بين البحر والجنون شيئ يتعلق بتعبير الرؤيا، وهو تعبير مَن يسبح في البحر اللُجي بأنه يصاب بجنون، والرمز في ذلك أن البحر اللجي لا يُرى له سواحل؛ فالسابح يتموَّج إلى غير غاية، وهذه صفة السلوك للمجنون الذي يتصرف بغير هدى إلى غاية كريمة، وقد رأى والدي عمر رحمه الله تعالى هذه الرؤيا لاثنين من أقاربي بوجلٍ منه ومرارة وعَبَرها لي بالجنون وذلك بعد وقوعها فوقعت لهما كفلق الصبح.. وما عدا ذلك فأعجب أولاً من علاقة الماء بالتطهير في السياق الجنوني؛ فأيُّ حوبٍ يؤاخذ الله به المجنون حتى نتَّجهَ إلى تطهيره بالماء تمهيداً لتوبته؟!!.. والماء إذا جرى بعمق وكثافة يكتسح كل ما أمامه طولاً، وكل ما انتهى إليه فيضانه عرضاً؛ فهل سيكتسح الماء جنون المجنون فيعود سَوِيَّاً؟!.. وتسكُّع المجنون في أطراف المدينة قد يحدث خطراً منه هو، ولكن الخطر عليه أقل؛ لأنه مَحُوط بجدران، وبين أفراد من المجتمع عقلاء يفترض فيهم أن يَتَّقوه ولا يؤذوه، وأما طرده إلى البر فيجعله فريسة الوحوش والحيَّات والعقارب والبرد والشمس والظمإ أو الجوع.. وإلقاؤه في البحر يجعله فريسة الغرق أو الهوامير؛ فأيُّ قيمٍ في كل ذلك ؟!.. وبعد هذا فأي مسؤولية للمجنون حتى يكون مسؤولاً عن ترحيله لا رحيله!!.. ومن ههنا وُجدت أدبيات سفينة الحمقى، ولقد أنتجت رموزاً ثقافية أصبحت سلوكاً جنونياً هيبياً اختيارياً؛ فالسفينة رمز القلق، والمجنون شخصية عظيمة غامضة فيها سخرية بالعالم لاذعة.. حتى القمر زعموا أنه أكثر الكواكب مائية، فجعلوا الجنون من آثاره على البشر، ويسمون هذا باللوناتية، وهي هوس يزعم أن القمر في دورانه يؤثر على الروح؛ وإنما جعله الله نوراً وهداية ودلالة على أزمنه موسمية ومناخات جوية سنوية؛ وبما أن الجن مخلوقات من نار فالأحرى أن يكون الربط بين الجنون ونارية الشمس أعرق في المخيال الأدبي، ولكن أدبيات (سفينة الحمقى) غيَّبت هذه العلاقة إلى أمد.. إن ما أُضْفيَ على الجنون من العظمة والعبقرية جعله مصدراً لأدب ساخر مُندِّداً بعيوب المجتمعات ذات القوة المادية الظالمة غير ملتفت لغياب الأخلاق والأَثارة الإيمانية الضحلة في العالم المسيحي.. وهو جنون اختياري حر تمثل في مثل الأدب السُّريالي والممارسات الوجودية الشاذة.. والمجنون اختياراً يجعل نفسه اللبنة الرابعة في المجتمع كله المكوَّن من النبيل في اصطلاحهم، والتاجر، والفلاح ويدخل في حكمه كل عاملٍ مُحترف.. والمجنون ذو الشخصية العظيمة العبقرية ذو معرفة تخبر بسيادة الشيطان، ونهاية العالم، وهذه النهاية سعادة؛ لأنها عقاب أقصى، وقوة عظمى على الأرض حيث السقوط الجهنمي!!.. وسيادة الشيطان هي انتصار الدجال في زعمهم، وهو الذي تولدت عنه أسطورة هرمجدون (آخر معركة في العالم) بمضغٍ صهيوني استحوذ على عقلية العالم المسيحي.

ومن عقوبات العدمية القلق من الموت المتمثل جماعياً في الحروب ونهايات الأزمنة، وهذا أيضاً دافع لجنون اختياري ساخر؛ فأي عُقبى حميدة لمجتمع ضيَّع عقله ودينه؟!.. ومن الجنون الساخر الكلام على الحياة بأنها عبث تافه وصخب؛ ومن ههنا جاء الجمع بين النقيضين في هذه الجملة (عدمية الوجود)؛ فالمراد أن الوجود عدم، لا أن العدم يعقب الوجود زمنياً، ومن هذا تولَّد الأدب التشاؤمي الأسود كقول (أوستاش دوشان):

*نحن أنذالٌ هَزلٌ ومرتخون.

شيوخ حاسدون وبذيئو اللسان.

لا أرى سوى الحمقاوات والحمقى.

إن النهاية في واقع الأمر قد اقتربت.

فهذا جنون القلق من الموت يسخر بالجنون الاختياري المتولِّد من أدبيات سُفن الحمقى.

قال أبو عبدالرحمن: بدأت العدمية عند القوم من هموم الموت؛ لأنهم مستمتعون بالحياة الدنيا، ولا يحملون شيئاً من هموم الآخرة؛ فالموت مُخيف لهم سواء أكان موتاً فردياً طبيعياً، أم كان موتاً جماعياً بمثل الحربين العالميتين الكونيتين، ويلي ذلك ضياع الفرد في المجتمع من أواصر الرحم والعاقلة، والأخوَّة ذات التكافل، وغياب شيئ اسمه زكاة أو صدقة، والغرق بالديون الربوية، وما ولَّده ذلك من عبادة المادة والبخل، {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (سورة الحشر 9)، والسلوك إلى العدمية بالموت العاجل وهو الانتحار، وبالموت البطيئ بالانغماس في الإباحية الموهنة للجسد المعطلة للقوى النفسية والعقلية، وبالغياب الاختياري في السحر والشعوذة، والجنون الاختياري، والهيبية.. وتحقيقُ هذا السلوك ممهَّد غاية التمهيد من أبالسة الصهيونية الذين سرقوا دين القوم، وأخضعوهم فكرياً وبضغوط خفية لخدمة مآربهم، وغيَّبوا الدين والحسبة، وفرضوا القانون الوضعي الذي هو ثمرة الحق الطبيعي البهيمي الشهواني، والتفنن في إحضار مُخدِّرات الإباحية، وهالة التسويل والترويج والدعاية إلى المحرمات بعد أن كانت الحسبة سخرية {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ{78} كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} (سورة المائدة 78 - 79)، ثم أبدعت لهم العقلية الصهيونية كل الفلسفات المريضة، وإلى لقاء، والله المستعان.

 

من الكفر والإباحية إلى عقوبات العدميَّة ( 1-10)
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - عفا الله عنه -

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة