Al Jazirah NewsPaper Thursday  17/06/2010 G Issue 13776
الخميس 05 رجب 1431   العدد  13776
 

فذلكة (نحتٌ لقولهم: «فذلك كذلك»..)
أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري

 

على الرغم من أعباء لا أذكرها وأحتسبها عند ربي؛ وإنما أذكر أعباء علمية تقتضي مبادرة؛ لأشارك بها في جريدتي الأولى الجزيرة التي شُغلت عنها مدة طويلة، ومن تلك الأعباء أنني غارق في قراءتي ودراستي لديوان (رحلة البدء والمنتهى) لمعالي الدكتور عبدالعزيز محيي الدين خوجة؛ لأخرج برؤية عادلة وإن كان سيري كزحف السلحفاة، ولا ضير في ذلك؛ لأن أسرع السحب في المسير الجهام؛ وقد صح العزم إن شاء الله أن تكون هذه الدراسة أول إطلالة لي في جريدة الجزيرة بعد هذه المقالة ومقالات أخرى فرغتُ منها .. ومن تلك الأعباء أنه منذ وفاة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم قدس الله روحه ونور ضريحه بدأ النقص في سواد أمتنا لا في علمائها، واليوم اتسع الفتق على الراتق، وكثرت الفتاوى التي تُشتِّت قلوب العامة وأنصاف المثقفين، وتُبلبل عقولهم وألسنتهم، ويفرح بها من هدفهم قصداً التضليلُ، وعجزت عن التفرغ كتابةً أو إملاءً لمناقشة هذه الفتاوى؛ فرأيت تلخيص أسطر قليلة عن كل فتوى إبراء لذمتي؛ فمن تلك الفتاوى القول بأن صلاة الجماعة فرض كفاية، وهي مسألة خلافية، ولا يُضلَّل من قال بذلك من رجال العلم الفضلاء، ولكن العبرة باتباع البرهان الشرعي الذي لا يدخله احتمال، والاعتماد على السيرة العملية لصدر السلف الصالح قبل الاختلاف، وقد رأيتُ بيان هيئة كبار العلماء المنشور في هذه الجريدة؛ فساءني كثيراً أنه قاصر عن المطلوب، مهتمٌ بأفضلية صلاة الجماعة وهي خارج محل النزاع، والذي أدين لله به - وإن كنتُ في كثير مما سلف من عمري إذا كنتُ مقيماً غير مسافر أتوسع لنفسي بالأعذار - أن صلاة الجماعة ليست واجبة عينية وحسب، ولكنها واجبة وجوباً عينياً وهي شرط لصحة الصلاة؛ لأن الله خاطب يهود ملزماً إياهم شريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولم يكتفِ سبحانه وتعالى بقوله: ?وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ? بل ختم بقوله تعالى ?وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ? ( سورة البقرة/ 43) في ختام الآية الكريمة، وكلمة ?مَعَ? تقتضي معيَّة الوقت ومعية المكان مع جماعة المسلمين، ولا يخرج عن المعيَّتين إلا من استثناه الله من ذوي الأعذار، كما أن النداء بغضِّ النظر عن الخلاف في وجوبه - والصحيح وجوبه قطعاً في القرى والمدن - فيه نص شرعي على إيجابية شرطية، وهي قول المؤذن (حي على الصلاة)؛ فهو نداءٌ إلى الصلاة جماعة، وعلى هذا جرت السيرة العملية ابتداءً من أفضل الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتداداً لأول جيل للسلف الصالح الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه في سورة التوبة، وضمن لهم الجنة قطعاً، وكان التخلف لغير عذر علامة نفاق عندهم، وما بُنِيَت المساجد ورُتِّب الأئمة والمؤذنون إلا لهذه الشرطية.. وفي دين الله إرجاع إلى أهل العدالة، وفي دين الله أمْرٌ بقتال من لم يُظهر أركان الإسلام؛ إذ المحاسبة في الدنيا على ذلك لا على ما في القلوب؛ وإنما تُعرف العدالة وتُرى الأركان الظاهرة في إظهارها وإعلانها كالمحافظة على صلاة الجماعة بالنسبة لغير المعذور، وما عذر الله المقاتلين في سبيله وهم أمام المرهفات لضرب الأعناق بأن يؤجِّلوا الصلاة، أو يصلُّوها فرادى، بل ألزمهم الصلاة جماعة فرقتين.

وأما دعوى المعذور (والأعذار وقائع منها المعروف بيقين، ومنها ما يُترك في ذمة المتخلِّف عن الجماعة، ومنها ما لا يُقَرُّ عليه) فالمعذور حقاً مستثنى من الصلاة جماعة ما بقي العذر، وله أجره درجة واحدة من سبع وعشرين درجة، وليس هذا على الإطلاق، بل المحافظ على الجماعة الذي أقعده مرض وهو يحنُّ إلى المسجد له أجر الجماعة كاملاً بنصوص أخرى، وهكذا من كان وحده في برٍّ لا جماعة حوله يأثم بالسفر وحده وله أجر الجماعة إذا كان محافظاً عليها في غير عذر، ومن سمع النداء وهو يعلم ما بين الأذان والإقامة من زمن، واشتغل بالحديث مع أهل أو ولد، وكاد ينسى وقت فوات الجماعة؛ فذكر، واشتغل بشرطها، ووجد المسجد ليس فيه أحد: فأجره الدرجة الواحدة؛ لفوات حرصه.. وصلاة الفذ تشمل من صلى في بيته، وصلاة من صلى بعد سلام الإمام ولم يجد من يصلي معه، ولم يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسافرين أن يُصلُّوا فرادى، وحقيقة الاختلاف في الأعمى إنما هو اختلاف في واقعة ما هو عذر أو غير عذر، وليس اختلافاً في حكم صلاة الجماعة، وهمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحراق المتخلِّفين عن الجماعة كافٍ في فرضية الجماعة على الأعيان إضافة إلى أدلة الشرطية؛ فكيف وقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم المانع من ذلك؟!.. وأما مَن تعمَّد ترك الجماعة بلا عذر فلا دليل البتة على صحة صلاته.. ولو فرضتُ أن صلاة الجماعة فرض عين وحسب (وهو فرض لا يصح أبداً) فهل يكون المصلي وحده بلا عذر مؤدياً للواجب؟.. كلا، بل خرج من عهدة العقاب ومنَّ عليه ربه بدرجة ثوابٍ من سبع وعشرين درجة للمصلين جماعة؛ فكيف تكون صلاة الجماعة فرض كفاية بلا برهان والمصلي وحده وإن حصل على جزء من الأجر لم يحصل على ثواب من قام بالواجب؟.. وقد عهدنا الصلوات التي هي سنن مؤكدة أو فرض كفاية لا نداء لها.. وجزء من الدرجة إنما هو لمن حصل منه ذلك تكاسلاً بعض المرات، لو فُرِض أنها واجبة على الأعيان وليست شرطاً، وأما من جعل ذلك عادة فهو كما قال تعالى: ?وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ? ( سورة البقرة / 130)، والخليل عليه وعلى نبينا محمد وعلى جميع أنبياء الله ورسله أفضل الصلاة والسلام هو الذي سمانا المسلمين من قبل.. كل هذا على دعوى أنها فرض على الأعيان وحسب.

وبعد هذا فهل من الجائز - في مسألة خلافية لم يُوَفِّق الله للإصابة فيها، ولا صواب الاجتهاد مَن لم يقل بشرطيتها؛ بسبب ترْكِ براهينها الواضحة - تشجيع الناس على إهدار فضل 26 درجة من 27 درجة والناس كسالى بطبعهم و?إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ?(سورة التوبة / 18).. هذا لو فُرض أنها فَرض كفاية، وذلك فَرْض لا يصح شرعاً؟!.

ومن تلك الأعباء الفتوى بجواز رضاع الكبير بدعوى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذا أصل صحيح مشروط بألا يقوم برهان الخصوصية كجذعة خزيمة رضي الله عنه، وهكذا إرضاع سهيلة سالماً مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والعبرة ههنا بخصوص السبب، لأن الحكم مبنيٌ على واقعة التَّبنيِّ التي ألغاها ربنا سبحانه وتعالى - وليس ذلك نسخاً، لأنه لم يرد بالتبنِّي شرع، وإنما هو أمر غير جائز تأخر تحريمه، وهو إبطاله التبنِّي -، ثم مَن هؤلاء الأخيار في الصدر الأول؟!.. وسالم بالتبني بلغ الحلم تواً على الشعور منه قبل إلغاء التبني بأن سهيلة رضي الله عنها والدته؛ فهل يباح بعد هذا الإلغاء أن يأتي كبير ما بين غرارة (18) عاماً إلى الأشُدِّ في الأربعين إلى نَهدي امرأة جميلة قد تكون شابة؛ فيستمتع بلمس الحلمتين ومصهما، وأجمل ما في الجنس اللطيف الوجه والنهدان وما بينهما والجيد والنحر، وكل هذا أمام شمِّه ومَصِّه وضَمَّه؛ فأي غريزة تبقى بعد هذا، وأي رضاع يعصم من عواطف الفحش التي قد تصبح عملياً؟!.

ومن تلك الأعباء اختلاط الجنسين بإطلاق؛ فهل يعنون اختلاط أهل الظعينة في سفرهم بين أبناء العم وذوي المحرم، أو يريدون سؤال أمهات المؤمنين رضي الله عنهن من وراء حجاب، أو تتلمذ العلماء على شيخاتهم بلا خلوة ولا سفور كالحافظ ابن حجر الذي خرَّج حديث شيخته مريم رحمهم الله تعالى، أو يريدون الاختلاط عندما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على بلال رضي الله عنه يعظ النساء في طرف المُصلَّى بعيداً عن الرجال، أو يريدون ازدحام الضرورة في المشاعر المقدسة وكلٌّ غارق في عبادة ربه، ويتعذر عَزْلُ كل امرأة مع محرمها عن رجل مع محرمه أو رجالٍ بلا محارم؟؟؟!!!.. أو يريدون سؤال امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكمٍ بحضور الصحابة رضي الله عنهم، أو يريدون امتحان المؤمنين للمؤمنات إذا جئن هاربات من الكفار، أو يريدون مبايعة المؤمنات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!.. ولا أرى مخرجاً من هذه الورطات (وإن كان المفتون فيما أعلم عن بعضهم مجالسة، وعن بعضهم سماعاً من الناس، وسماعاً من الإذاعة وقراءة: أهلَ علمٍ وفضل) إلا بالتوبة والرجوع عن الفتوى علناً.. ولست أحصر العلم والصواب ولا خلوص الورع عند من عيَّنهم الإمام للإفتاء، ولكن طاعة ولي الأمر واجبة؛ فإذا خصَّص علماءَ للفتوى فلا يجوز الافتيات عليه باضطراب الفتوى، وإنما يعمل رجل العلم المجتهد بما عليه الدليل في نظره واجتهاده في خاصة نفسه ورعيته؛ فإن جاءه من يستفتيه أحاله إلى المعينين للفتوى؛ فإن ابتلاه المستفتي، وقال: (إنما أرتاح إلى فتواك أنت) فلا يكتم العلم؛ فيفتيه ويأخذ عليه عهداً ألا يستفتي غيره؛ لأنه أفتاه بما له به علم عن يقين أو رجحان، ويُشعره أن تتبُّع رخص العلماء فسق؛ لأنه من التشهِّي بالهوى في دين الله، وأن استفتاءه لآخر إشاعة لفتوى من لم يؤذن له بالفتوى وتحرَّج من كتمان العلم تحرُّجاً من مخالفة ولي الأمر، والسائل مطالب بسؤال أهل الذكر؛ فمن كان من أهل الذكر لا يكتم العلم بالصفة التي مَرَّ ذِكْرها.. وهذا غير إعلان الفتوى للناس؛ فيكفي في هذه الفذلكة أنني خرجت من العُهدة في الصدع بالحق.. وأما تحقيق بحوث علمية عن علم شرعي، في مسألة فيها خلاف بين العلماء، وبيان أدلتهم واعتراضاتهم مع الترجيح: فليس ذلك على سبيل الفتوى، فهو جائز ومطلوب، وأهل العلم بالرَّصَد يتحرون البرهان.. وأما ما علق بدين الله من خرافات وبِدع وزلة عالم، وتمسُّكٍ بحديث غير محقَّق ولا مدقق فواجب على المسلم الذي يملك أداة الاجتهاد بيقين أو رجحان أن يصدع بالحق ولا يبالي وإن لقي الأذى، ولا سيما فيما يتعلق بالعقيدة وتقديس الرب سبحانه عن الشبهات والمشتبهات.. وإنني ألتمس من خادم الحرمين الشريفين إمام المسلمين متعه الله بالصحة والعافية أن يضع حداً لهذه الفوضى، ويكفي أن تُطعَّم المؤسسات العلمية بعلماء من أهل المذاهب المتبوعة، وعلماء العلوم المساعِدة على فهم الشريعة كعلماء النحو والبلاغة واللغة، ومن يحسنون علم الكلام بعيداً عن هذر المتكلمين من فرق أهل القبلة.

ومن تلك الأعباء - أعانني الله على إنجازها - الذبُّ عن نفسي فيما افتراه عليَّ بعض السفهاء من دعوى عدائي للسلفية ودعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى، والله حسيبهم فيما افتروا، وهذا العبء أعمل فيه على مهل في بحثٍ لي بعنوان: (هذه سلفيتي)، ولا حجة للمفترين إلا أنني أرفض مسائل قال بها الإمام ابن تيمية وابن قيم الجوزية رحمهما تعالى، وأرفض دعاء الخروج من البيت للمسجد الذي رواه عطية العوفي، وهو من اختيار الشيخ محمد بن عبدالوهاب وغيره أصح منه قطعاً، وأرفض فتاوى أفرادٍ من أهل نجد حكمهم أنهم مطاوعة وليسوا علماء ولا سيما بعد عهد الإمام عبدالله بن فيصل رحمهم الله تعالى، وبدأ دور آل الشيخ في إنكار ذلك لما كفرَّ بعض المطاوعة الإمام عبدالله بن فيصل لما استعان بعد الله بالدولة العثمانية - وهي دولة مسلمة -؛ فرد الشيخ ابن عجلان على ذلك التكفير الآثم، فرد عليه الشيخ حمد ابن عتيق، ولما عاتبه الإمام عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ الأزهري (وهو أغزر أئمة الدعوة علماً، ثم أبوه عبدالرحمن) مشافهة كتب له، ووصفه بالطير المبرقع؛ فكتب الشيخ عبداللطيف رسالة أريحية تهز المشاعر فيها بيان للحق وعذر للشيخ حمد ومداعبة.. وفي إحدى فتاواه المعارِضة لفتوى للإمام ابن تيمة بيَّن وجه الحق، وأن الأصل اتباع البرهان.. وظلَّ داء المطاوعة (الذين ليسوا علماء ولا عوامَّ، وهم بالعوام أشبه) في التكفير سوساً ناخراً في المجتمع، واستفحل أمره إلى ما قُبَيْلَ معركة السبلة؛ فحسم الملك عبدالعزيز الأمر طيَّب الله ثراه، ورحم الله الجميع.. وأرفض تهوين بعض المشايخ من شأن الإمام الفحل الشوكاني، وأرفض سفاهة ابن قيم الجوزية رحمه الله في حق الإمام ابن حزم - مخالفاً شيخه الإمام ابن تيمية رحمهم الله تعالى - في قوله:

والشيء شيء واحد لا أربع

فدهى ابن حزم قلة العرفان

وقوَّل الإمام ابنَ حزم ما لم يقل، وابن قيم الجوزية حاوٍ لبعض اختلاف العلماء لا يصل إلى درجة الإمام المجتهد بإطلاق، ولا إلى درجة الإمام ابن حزم - وهو مجتهد بإطلاق - مهما كان عنده من هفوات، وكلمة (دهى)، والوصف بالجهل (قلة العرفان) تزكية للنفس، وظلم لإمام من أئمة المسلمين.. وهنا ظلم آخر، وهو أنه قوَّله ما لم يقل؛ فلم يَدَّع الإمام ابن حزم أن القرآن أربعة أشياء، وإنما ذكر رُتب قرآن واحد في الوجود فرَّعها المتكلمون؛ فبيَّن حكم كل رتبة قال رحمه الله تعالى في الفصل 2/41: ((فهذه خمسة معانٍ يُعبَّر عن كل معنى منها بأنه قرآن، وبأنه كلام الله تعالى، ويُخبر عن كل واحد منها أخباراً صحيحة بأنه قرآن، وبأنه كلام الله تعالى بنص القرآن والسنة اللذين أجمع عليهما جميع الأمة.. وأما الصَّوْت فهو هواء يندفع من الحلق والصدر والحنك واللسان والأسنان والشفتين إلى آذان السامع، وهو حروف الهجاء، والهواء وحروف الهجاء كلُّ ذلك مخلوق بلا خلاف)).. وانظر ص 39 - 41.. وأرفض قول الإمام ابن تيمية: (حروف الهجاء غير مخلوقة)، وأرفض مسائل كثيرة، وأتحسَّر من صرف هؤلاء العلماء الموهوبين الأجلاء الأذكياء جهدهم في نصرة إمام بعينه ما ضمن الله له العصمة، وصرْفِ نشاطهم في تحرير المذهب والتخريج عليه، والأولى صرف المواهب والاجتهاد والجهد في تحقيق النصوص الشرعية، وأرفض المكابرة لأهل التخصص والاستقراء في فنهم، وأرفض مَنْحَ عالمٍ واحدٍ أن يكون حجة في كل العلوم، وقد سمعتُ في الصغر: (الحديث الذي لا يعرفه ابن تيمية ليس بصحيح)، وهو والله ليس بأعلم من ابن عبدالبر والزيلعي والحافظ ابن حجر في التوثيق؛ وإنما له حق النقد لجزئيات اجتهد فيها؛ فكل هذا حق أتشرف به ولا أتبرأ منه، وقد حُذِّرنا من زلَّة العالِم.. وأرفض دعوى الإمام ابن تيمية أن حروف الهجاء غير مخلوقة؛ امتداداً لنصرة المذهب (أن القرآن غير مخلوق جزماً)، وإنما الصواب التوقف فيما لم يخض فيه صدر السلف؛ فإذا اختلف أتباع السلف أخذنا بقول من كان على مذهب السلف الأول؛ فهذا هو الاتباع بإحسان - والإحسان من معانيه الإتقان -، ونعذر المجتهد النزيه في تحري الحق، ونرجو له أجراً ومعذِرة، ولا نعارض الواضحات بالمشكلات، وحروف الهجاء قسماً بربي بَرّاً مخلوقة، لأنها أصوات من أقصى حلق الإنسان يفعلها المخلوق بإقدار الله له، وتسميتها تعليم من الله سبحانه وتعالى لآدم عليه السلام، ثم تعليم من الله بعد تبلبل الألسن بما هداهم إليه من التسمية؛ لأن اختلاف ألسنتنا من آيات الله كما في سورة الروم.. وأرفض دعوى الإمام أن إخوة يوسف عليه السلام رسل بحجة أنهم الأسباط، بل هم الذرية المباشرة ليعقوب عليه السلام، والأسباط حفدتهم ومنهم الرسل والمؤمنون والكفار، وأما الأسباط الذين هم الرسل، فهم من أوحى الله إليه بشرع من حفدة إبراهيم الخليل عليه السلام، وهؤلاء هم الذين ذكر الله في القرآن أنهم رسل، وأرفض مسائل كثيرة عند الإمام، ولا أمنحه العصمة والإصابة دائماً مهما كان فضله وسعة علمه، ولا أدَّعي له الإحاطة بالعلوم إحاطة مستقرئ لها، بل المرجع لأهل الاختصاص في كل فن، وهذا هو موقفي أيضاً من الإمام ابن حزم.. ولابن أبي شامة رحمهم الله تعالى جميعاً كلام نفيس في هذا يكتب بماء الذهب بكتابه: (الرد إلى الأمر الأول)، والأصل عنده الرد على أتباع الإمام الشافعي، وابن أبي شامة رحمهما الله تعالى شافعي، والشافعي رحمه الله أصَّل علمه ودوَّنه مرتين (المذهب القديم الذي حمله الزعفراني رحمه الله تعالى، والمذهب الجديد الذي عليه العمل الآن)، وهو أقرب الأئمة المتبوعين إلى مسالك الاجتهاد المشروعة.. وأرفض مسائل سريعة لمطاوعة من نجد في التكفير والتبديع والتفسيق غير مبالين بالقاعدة الصحيحة الكريمة، وهي أنه (لا تلازم بين الكفر والتكفير، والبدعة والتبديع، والفسق والتفسيق)؛ وإنما يلزم الحكم بالكفر والبدعة والفسق دنيوياً من انقطعت حجته والتزم عناداً ما يلزمه من البرهان.

ومن تلك الأعباء رسالة جريدة المدينة التي شغلتني بالمواجهة، وأما الأعباء التي أحتسبها عند ربي فقد أقعدتني عن القدرة على التصحيح النهائي لتجارب كتاب (حديث الشهر)، وهي الأعداد الرابع والخامس والسادس بعد انتهائها من المصححين والنُساخ، وستصدر كلها إن شاء الله في شهر رجب.

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد