Al Jazirah NewsPaper Wednesday  14/07/2010 G Issue 13803
الاربعاء 02 شعبان 1431   العدد  13803
 

تحقيق أُصولي، وإيضاح نفسيٌّ لا غير.. وصَفْحٌ جميل (22)
بقلم : أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري

 

قال أبو عبدالرحمن: وِردي المطلق والمقيد أسقط عني كثيراً من السيئات، وولَّد لي كثيراً من الخشوع على ضعفي؛ إذْ أوشكت على الدخول في خمسة وسبعين عاماً على ضعف الجهد، وخمول الذاكرة وقوى الفكر.. وحسن الخاتمة متحقق إن شاء الله بالبشرى، وبكثرة استعاذتي من أن يقذفني ربي في النار طرفة عين، وبالإشفاق من عذاب القبر ووحشته.. وكان الحياء من ربي في أمور عانيتُ الأمرَّين في تركها يزول بتركها، ويبقى حيائي من الخلق، وقد رأيت أن الله بدَّله بأن جعل لي عند الناس وداً، ومكاثرتي السيئات بالحسنات حصَّلت ثقة بالرب الجليل أنه لن يطردني عن العياذ واللياذ به؛ فغلب عندي باب الرجاء، وانقمع تيئيس الشيطان؛ لما أراه من نعم ربي في الانتقال من الطاعة إلى الطاعات.. وغلب في مجالسي الخاصة غير العلمية اللغو والمزح واللمم، وربما زلق اللسان بما هو فوق اللمم، وهذه يحرقها الاستغفار من الله وكفارة المجلس؛ فلما منَّ الله عليَّ بالهداية كانت روضة المسجد أُنسي، وكانت التلاوة شدة فرح تحلِّق بي في الآفاق، وهي دافعة إلى التحقيق والتفسير والتدقيق.. ثم بقيتْ عندي مشاعر غامضة ولَّدت عليَّ عنفاً في رسائلي الشخصية لكبار العلماء من المسلمين، وولَّدت عليَّ ما لم أعهده من الانفعال في المناقشة الشفهية، وأما حِدَّة كتاباتي في الصحف والكتب فلها شأن آخر.. وهذا العنف في القلم له ظاهرة في السابق واللاحق، وهي التي قال عنها أخي العسكر وقد أفردني باللوم وأنا المجنيُّ عليه مخاطباً إياي بقوله: (تمنيت أن نَفَسَكَ القديم قد زال خاصة مع كبر السن والوازع والورع)

قال أبو عبدالرحمن: ههنا وقفات أسردها بكل صراحة عن نَفَسي القديم:

الوقفة الأولى: أن من تلك المساجلات ما اصطنعته بلا فحش بالقول، بل بالقول القارس على منهج الرموز أمثال زكي مبارك مع علي الجارم، وطه حسين مع العقاد، والرافعي مع طه حسين.. وفي القديم مثل صراع أبي العباس ابن سريح مع محمد بن داوود الظاهري رحمهما الله تعالى؛ فكانوا على المودة، ولكنهم يحبون قرص الأذن؛ ليخرجوا ما عند الآخر من علم متفجِّر وهم على الصفاء والمودة مثل أبي العباس ابن سريح الذي وقف على قبر خصمه محمد بن داوود، وقال: (لا آسي إلا على تراب أكل لسان محمد بن داوود)؛ فأنا أُقلِّدهم في هذا الصراع الودي.. ولم أر مثل أستاذي الأستاذ الدكتور إحسان عباس وشيخي الشيخ عبدالفتاح أبو غدة رحمهم الله جميعاً في ترفعهم عن هذه المعارك؛ فهذا مسلك أدبي بحت.

والوقفة الثانية: حِدة أسبابها التقليد المستمِيت، ومن هذا الباب حدتي مع العالم الجليل حمود التويجري قدّس الله روحه ونوّر ضريحه.. أغلظتُ عليه القولَ في الغناء، وما قال رحمه الله إلا الحق في حرمة كثير من الغناء، وما قلتُ إلا التعصب المعمي للإمام ابن حزم رحمه الله تعالى وعفا عنه، وحق التويجري عليَّ الدعاء له، وما آخذ عليه إلا الاستخفاف بالإمام ابن حزم مع أن صواب الإمام أكثر من خطئه، كما آخذ عليه أنه لم يُحكم الميزان في حشده من انتقد ابن حزم؛ فهو مثلاً ينقل نقد ابن العربي لابن حزم الذي هو شيخ أبيه؛ وإنما هو يردُّ عليه بوجهة نظر أشعرية، وبأسلوب عربجي كقوله عن الإمام: إن ابن حزم سخيف، والظاهرية حمير.. فهذا سفاهة من طويلب علم تقليدي لا يصل إلى بحر ابن حزم، وهو حامل لعلم غيره لا لعلمه هو.. وكان عليه أن يرجع لمثل نقد أبي طالب عقيل بن عطية، وابن خليل العبدري، والإمام ابن تيمية مع روح المحاكمة رحمهم الله تعالى.

وأما ابن قيم الجوزية فإنما يغترف من بحر ابن حزم؛ فإن خالف ابن قيم الجوزية مذهبَ ابن حزم فذلك من داخل المذهب الحنبلي لا من الاجتهاد في نصوص الشرع، وأما كتابه (إعلام الموقعين) فما هو إلا استجرار لرأي ابن حزم، وقد شنَّع عليه بالمخالفة في التطبيق ولم ينظر إلى جلال أصوله، والمذهب الظاهري أقدم انتشاراً من المذهب الحنبلي، ولهذا جعل السمنودي هؤلاء أتباعاً للظاهرية في تقليدهم إياهم.

والوقفة الثالثة: دفاع عن ظلمٍ نالني من بعض أدباء الحداثة، ومن تصرُّف لشيخي حمد الجاسر رحمه الله مع أحد كتبي مع اصطفائي له بأسراري، فسمعت عنها من شباب يزورونني ويزورونه؛ فانفعلت بمقالة أحزنته، ثم تراجعتُ سريعاً بمقالة نائبة مبكية لاسترضائه، وبذلت أشهراً في طلب استرضائه؛ فاحتضنني بالصفح، وزرته مراراً مغمضاً عيني من الخجل.

والوقفة الرابعة: حدة انفعال مع أدباء أساؤوا إليَّ، ومنهم أُغيلمة حاوروني بغير علم، واستخفوا بي؛ فأخذتهم بالسخرية والتبكيت وتعليمهم سبل البرهان والحوار.

والوقفة الخامسة: مسائل حققتها عن علم واستقراء وفكر؛ فما وجدت عندهم إلا الصدّ عن براهيني بلا تفنيد لها، واغتصاب ذلك بدعوى جديدة، وهذا الاغتصاب مردود في علم آداب البحث والمناظرة؛ فهذا العلم يسخر بهم، ومثل هذا معاركي مع أبي تراب رحمه الله تعالى.

وأما بعد إنابتي، وأُنسي بمسجدي، وبطلبتي في مكة المكرمة، والمدينة المنورة، والرياض فقد أنكرتُ نفسي، فقد كانت معاركي الصحفية على لطف ورحابة صدر في المجالسة لا انفعل فيها أبداً، وبعد إنابتي استجدَّ لي حِدَّة وسوء خلق في الحديث الشفهي، وفي رسائل شخصية لعلماء كبار، ومسؤولين مرموقين، وما كان هذا عن عصبية وتقليد، بل عن تحقيق مضفَّر المرائر عن اجتهادي في العلم الشرعي وضرورات الفكر؛ فوجدت عند هؤلاء ما كان عندي سابقاً من الاستماتة في التقليد، واجتهاد في تحقيق مقاصد الإمام المتبوع بتقليد مميت؛ والحق صرْفُ المواهب للنصوص، وساءني أحدهم - وأصبح اليوم مسؤولاً كبيراً - فقال: (ما عند ابن حزم من خير فعند ابن تيمية مثله وأكثر منه وخير منه)؛ فساءني هذا الإحصاء الادعائي الكاذب؛ لأنه لم يحص كتب ابن حزم، ولم يجدها كلها؛ إذ موسوعاته مفقودة؛ فكيف أحصى كل ما عند ابن حزم، ولم يحص كتب ابن تيمية، وفيها أسفار يتعذر عليه فهمها، ويتعذر عليه ردها إلى مصادره، وهو رحمه الله ينقل أقوال الفلاسفة بسرد كثير، وتعليق ضحل، ويرد برد بعضهم على بعضهم، وهو غير مستوعب لفكرهم، ويردُّ بما فهمه من فكرهم، والفلسفة والمنطق عنده كحب الشعير مأكول ومذموم، والفهم لفلسفتهم ومحاكمتها عند المعاصرين أجود، وعُسْر الفهم عنده دليل ضعف الاستيلاء على المادة، وفيها ما لا يفهم إلا بقراءة مضنية، وإحالة إلى المصادر لفهمها أكثر إضناء؛ ولهذا يُكثر الإحالة إلى بعض المسائل في موضع آخر؛ فتجد بحثه في الموضع الآخر أفقر من موضع الإحالة، وهو لم يستوعب فلسفة ابن حزم ومنطقه وفقهه؛ فكيف حكم على أن ما عند ابن حزم من خير فعند ابن تيمية مثله وأكثر منه.. إن ابن حزم يحمل علم نفسه لا علم غيره.. وفي سبيل السيرة الذاتية سجن ابن تيمية وله أنصار كثر، ولم يُؤذ بأكثر من السجن، وابن حزم في بلاد عوام، وتقليد بحتٍ لطروس مُعَكَّمة ليس فيها برهان؛ فأحيا علم الحديث، وامتلك الكتب بأسانيدها قراءة وإجازةً وإسناداً، وبثَّ كتب المحدثين والمجتهدين كبقي بن مخلد وابن أيمن والخشني.. إلخ رضي الله عنهم، وكان عباس بن أصبغ يقول: (لئن يكون في بيتي خنزير أحب إليَّ من أن يكون فيه مصنف ابن أبي شيبة) قبحه الله إن صح عنه ذلك، نسأل الله السلامة، وحجز علماء المالكية وعوامهم بأقماع السمسم، ولما سقطت الدولة الإسلامية الأموية خلع البيعة؛ لأنهم بدؤوا التجزئة، واستعانوا بالنصارى، ومهدوا لسقوط الأندلس، ونشروا مهزلة اسم الدولة لكل مدينة، وليس له مناصر، فنابذهم، ولم يبال بحرقهم كتبه وغسلها، ولم يبال بتسليط العوام، وخلَع الوزراء، وسمَّى ثمارها أكْلَ الخبز الخبيث، وحرَّم بكل صراحة ما ولغوا فيه من مخالفة الدين، وخذلان وحدة الأمة بتفرقتها، وحصَر عيوبهم الخانقة بكل مواجهة، وصبر على الأذى، وعاش في قرية آبائه منت ليشم، ولم يخضع لأي مساومة أو استرضاء؛ لأن رضاه لن يكون إلا بتحقُّق نصرهم الأمة، وعاش على التقشف حتى لقي ربه، وليس معه إلا صغار الطلبة بلا مناصرين يؤبه لهم؛ فهل كانت محنة الإمام ابن تيمية مثل ذلك، وردُّه على أهل الأهواء والنحل أسبق من ابن تيمية بثلاثة قرون وهو وحيد، وهم كُثر، ولم يلاينهم، ولم يلطِّف العبارة؛ فهل تُقاس محنة ابن تيمية بمحنة ابن حزم المنتصر بالله ثم بنفسه لا بكثرة الأتباع المنتمين إلى مذهب.. ألا ما أقبح عكس الحقائق، وتعرَّى عن وزارته ووزارة أبيه ولم يكن الإمام ابن تيمية ذا وزارة.. إن ما استنكرته على نفسي من الحدة حول مثل هذه الدعوى الرخيصة ولَّد عندي نزقاً لا في الكتابة، بل في النقاش الشفهي والرسائل الشخصية؛ لأن ما حققته بعلم واستقراء عقلٍ إذا قوبل بتجميد البرهان دون القدرة على نقضه، والشغب باستئناف دعوى جديدة: فكل ذلك يثير المسلم من منطلق دينه، وتنتفخ أوداجه.. والغلظة في الحق هو خُلُق القرآن الكريم مع صفوة الخلق صلى الله عليه وسلم إذْ جرَّده ربه للاصطفاء المعصوم بأساليب قاسية وهو لم ولن يفعل ما نُهي عنه؛ فقال سبحان وتعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }الزمر 65، وقال سبحانه وتعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } يونس94- 95، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} سورة الحاقة 44 - 46؛ وذلك لتجريده للعبودية، ولتعليم أمته.. وهذه عائشة تلحن عن ابن عباس رضي الله عنهم بقولها: (لقد أعظم الفرية على الله مَن زعم أن محمداً رأى ربه).. تعني في الإسراء، وهذا أحد أكابر الصحابة رضي الله عنهم قال: (أخطأت تيك الحفرة)، وهذا ابن أبي ذئب ومالك رحمهما الله تعالى وهما مَن عما في الدين والفضل قال: (يُستتاب مالك أو يقتل)؛ وذلك عندما روى مالك حديث (البيعان بالخيار)، ثم لم يعمل به، وقال: (ليس عليه العمل)، وما بين الإمام مالك وابن إسحاق معروف.. وجاء القول القارص بلا فحش بين أمثال ابن منده وأبي نعيم، وبين ابن حجر وابن جماعة، وابن حزم والباجي، والسخاوي والسيوطي.. إلخ، وأما بعد إنابتي فقد رُضْتُ نفسي على الهدوء ما أمكن، ولكن بقي عندي آفتان من حدة القول عجزت عن التخلص منهما: إحداهما استجدَّت لي، والأخرى قديمة؛ فأما الذي استجد لي فهو أنني أنكرت طبعي وعادتي؛ ذلك أنني كنت لطيفاً ودوداً في مقابلة أحبائي، وسيع الصدر في النقاش على خلاف عادتي في الكتابة؛ فصرت أنفعل في النقاش، وأقوم وأقعد، ويحمر وجهي، ثم أستعيذ بالله، وأقول: دعوا النقاش؛ فقد بيَّنتُ رأيي وبرهاني، وكل واحد يعتقد ما يشاء وهو محاسب أمام صدق نيته في تحرٍّي الحق، وأسكت كثيباً مُسبِّحاً محوقلاً، وهذا يحدث إذا لم يتكافأ النقاش، وأدليتُ ببرهاني فلم يدفعوه، ولكنهم أصروا على دعواهم ولم يدفعوا برهاني، ولم يدفعوا اعتراضي على استدلالهم، وكرروا دعواهم كأني لم أفهمها ولم أفرغ من نقاشها، أو انتقلوا إلى دعوى أخرى.. وحصل ذلك عندما عرض عليَّ أحد أحبائي استحسانهم لقول الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى عن ربه: (سميع بلا سمع، بصير بلا بصر)، ووافقه أئمة من أهل الفضل، وقالوا: لم يرد نص بالسمع والبصر؛ وإنما ورد النص بأنه سميع بصير، ويسمع ويبصر.. فقلت بل ورد اسم السمع بضرورة اللغة التي نزل بها القرآن، والمرجع إلى أهل العلم الاستقرائي لهذه اللغة، والسمع مصدر سمع؛ فالسمع لازم من إثبات سَمِع، وأدلُّ من ذلك (سميع) فهو لبلوغ الغاية في السمع؛ فمن نفى السمع فقد أثبت سميعاً وأسمع وعطَّلهما من معناهما؛ فلم يبق عنده إلا اللفظ؛ لأن سميعاً لبلوغ الغاية في السمع، كما أن العليم لبلوغ الغاية في العلم؛ فالسمع ضرورة لغوية من سميع وأسمع، والشرع بلسان عربي مبين؛ فقالوا: (إن الله سميع بذاته)؛ فقلت: (وسمعه بذاته)؛ فقالوا إذا أثبتَّ السمع أثبتَّ الجارحة.. يعنون الأذن؛ فقلت: هذا انتقال خارج النزاع؛ لأنني لا أثبت أن له سبحانه أذناً إلا بنص، ولم أثبت الأذن؛ وإنما أثبت سمعه بما يليق بجلاله وعظمته، وله سبحانه يدان يُنفق كيف يشاء، ولا أشبههما ولا أُكَيِّفهما ولا أحددهما، ولا أصفهما بجارحتين بلا نص، وأنتم مقرون بأن الله موجود فلا يقتضي ذلك تشبيهه بالوجود القاصر الذي هو من صفات المخلوقات، وهو خلْق من الله ومنحة؛ فقالوا: فهل ضلَّ من وافقوا ابن حزم من أجلاء العلماء.. فقلت: وهل ضل من خالفوهم من خيار العلماء، وخير منهم عائشة رضي الله عنها قالت بسليقة اللغة: (تبارك الذي وسع سمعه الأصوات)، ولا مخالف لها من الصحابة رضوان الله عليهم، وهم السلف الأول قبل الاختلاف، والمخالف لم يتبعهم بإحسان.. وأما التضليل فهم على حسن القصد من تحري الحق بصواب الاجتهاد لا بإصابة المراد، وإنما يَضِلُّ من عُرض عليه البرهان فعجز عن دفعه، ومن عورضت شبهته فعجز عن دفع المعارضة، وسيرتهم الرجوع إلى الحق إذا بان لهم.. فقالوا: (لا دخل للغة بالغيب)، فبكيت في أعماق قلبي، وقلت: هل من سبيل إلى فهم مراد الله حكماً وخبراً عن مغيَّب ومشهود إلا بدلالة من لغة العرب، وهل علمنا أن الله سميع يسمع إلا بلغة العرب؟!.. فعادوا إلى تجديد الترديد لدعوى ابن حزم، وأنه وافقه عليه بعض العلماء؛ فقلت: يا قوم هذا هو المراء المذموم، وإنما عليكم دفع برهاني ببرهان منكم يجعل استدلالي خاطئاً غير وارد، وأنه ليس علم أهل الاستقراء اللغوي، وأن شرع الله لا يفهم بلغة العرب؛ فإن لم تحققوا ذلك فهو العناد والشَّغب المذموم؛ فعادوا ثانية إلى ترديد الدعوى المدحوضة؛ فاستفزني الغضب، وتغيَّرت بشاشتي؛ فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم، وقلت: دعوا هذا واكتبوا كلاماً محرراً، وأكتب كذلك، والمتلقِّي أبصر بتمييز الحق.. ولم تكن هذه عادتي في الحوار الشفهي مع الأحباب، ومع هذا أشهد أن ابن حزم هو الحبر الإمام المفكِّر المستوعب، وصوابه أكثر من خطئه، وأكثر خطئه إما خطأ في التطبيق، وإما اقتناع بالمنطق الأرسطي الذي ليس كله هو نظرية للمعرفة.. وكثير من الذين ردوا عليه كابن قيم الجوزية في (إعلام الموقعين) متحوا من بحره، وتلقوا من عنده علماً محرراً؛ فآخذوه بأخطائه القليلة، وجحدوا ما بأيديهم من علم عزيز، بل لم يوردوا ولم يفهموا براهينه العقلية في القياس القائم على إلحاق (المقيس) على (المقيس عليه) بآراء البشر، ولم يُفرِّقوا بين القياس الدنيوي القائم على الفرض والاحتمال حتى تتحقق النتيجة أو تختلف، وإذا تحقَّقت فهي استنباط من الطبيعة وليست إلحاقاً بالرأي.. وبين القياس الشرعي الذي قد تكون نتيجته ضرورة نص دلالي، أو زوال فارق غير معتدٍ به، وأنه في هاتين الحالتين إلحاق من شرع الله لا من آراء البشر؛ لأن عمل العقل ههنا محصور في دلالة اللغة ودلالة الشرع ومقاصده القائمة ببراهين أخرى.. والإمام ابن تيمية رحمه الله لا تُعدَّ أعماله في أحكام الديانة جهداً واستيعاباً مساوية لجهده الكبير في علم الكلام والمنطق والفلسفة الإلهية، وما تناوله من تفسير ليس على طريقة المفسرين في التحليل والاستنباط، وإنما هو استطراد إنشائي، وإكثار من نصوص القرآن في معنى الآية لتقرير شيء من مسائل التوحيد، وربما غمرها بالفلسفة؛ فإذا تناول مسألة فقهية كقصر صلاة المسافر فعمدته المحلى للإمام ابن حزم، والتمهيد لابن عبدالبر، والمصنف لعبدالرزاق، والمصنف لابن أبي شيبة، والكتب الستة وأكثر اعتماده على مسند الإمام أحمد مع أربعة أو خمسة من كتب الحنابلة القدماء، وهو رحمه الله مجتهد داخل المذهب، فَيُكمل مصادره بجهده الفكري في نصر المذهب.. على أن جمهور المذهب من تخريج فقهاء الحنابلة، ومسائل الفقه المحفوظة عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى قليلة جداً، ولهذا عدَّه كثير من العلماء من المحدثين كالمروزي وابن جرير وابن عبدالبر والمقدسي، والإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى أعظم احتراماً للإمام ابن حزم من تلميذه ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى، وإذا نقد بعض مسائله كان أسلوبه مهذباً، وربما تابعه في بعض أقواله وخالف الحنابلة كمن ترك الصلاة عمداً حتى يخرج وقتها، والطلاق البدعي.. وكما يغيظني بعض أحبائي من أهل الظاهر في تقليد الإمام ابن حزم يغظيني علماء فضلاً يأخذون ببعض الآراء الباطلة عن تقليد محض كإنكار المجاز، والجزم بأن الله خلق آدم على صورة الرحمن مع أن الضمير يعود إلى المُخبر عنه لا إلى أقرب مذكور؛ ولأن (على صورة) باجتماع الجار والمجرور لا تقتضي غير التشبيه المطلق.. ومن ذلك الجزم بأن القرآن غير مخلوق، ولا يحل الجزم بأنه خالق أو مخلوق بل الواجب التوقُّف اتباعاً لتوقف السلف قبل الخلاف الذي بعضه إتباع لهم بإحسان، وبعضه خلاف لهم باجتهاد خاطئ.. ورأيت مفهوم السلف عندهم يعني علماء الفقه والحديث من أتباع السلف بالجملة؛ فإذا اختلفوا، أو كان اتفاق جمهورهم على خلاف ما مضت به السيرة العملية للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كان خلافاً غير اتباع للسلف بإحسان، ومن معاني الإحسان الإتقان، ورأيت حشد أقوال العلماء عندهم أكثر من تحرير النصوص الشرعية وتحقيقها بعناوين حربيَّة منفِّرة مثل اجتماع الجيوش الإسلامية، والصواعق المرسلة.. وهذه العناوين من المجاز الذي ينكرونه، ومحبتي لربي وتقديسه وتحميده جعلتني أشمئز من دعوى أن حروف الهجاء مخلوقة؛ فحدثت لي حِدة لم تكن من أخلاقي السابقة برسائل تعنيفيَّة أرسلتها لبعض المشايخ الورعين وإلى مسؤول آخر متمعلم.. ودعوتي للاجتهاد من ذوي الأهلية دعوة ربانية، ومن قدر على الاجتهاد في تحرير مذهب إمامه فهو على تحرير نصوص الشرع والرجوع إلى أهل العلم الاستقرائي في معارفهم أقدر.. قال الإمام أبو محمد عبدالرحمن ابن أبي شامة رحمه الله تعالى: (وكذلك المسائل الفقهية المبنيَّة على دلالات اللغة ومقتضيات الألفاظ يُرجع فيها إلى أقوال أهل اللغة وصناعة العربية، وكل ذلك قد حرره أهلُه وحققوه؛ فالتوصُّل إلى الاجتهاد بعد جمع السنن في الكتب المعتمدة - إذا رزق الإنسان الحفظ والفهم ومعرفة اللسان - أسهل منه قبل ذلك لولا قلَّةُ همم المتأخرين، وبعدهم عن المتبحرين، ومن أكبر أسبابه تعصبهم وتقيدهم برفق الوقوف، وجهل أكثر المصدَّرين منهم على ما هو المعروف، الذي هو منكر مألوف؛ فإذا ظهر هذا وتقرر تبين أن التعصب لمذهب الإمام المقلَّد ليس هو باتباع أقواله كلها كيفما كانت، بل بالجمع بينها وبين ما ثبت من الأخبار والآثار، ويكون الخبر هو المتَّبع، ويؤول كلامُ ذلك الإمام تنزيلاً له على الخبر.. والأمر عند المقلدين أو أكثرهم بخلاف هذا؛ إنما هم يؤولون الخبر تنزيلاً له على نص إمامهم)،(1) ثم ذكر رحمه الله وهو من أعيان القرن السابع ارتفاع العذر عن المقلِّد؛ لحضور كتب الحديث والخلاف التي نتجت خلال سبعة قرون(2).

قال أبو عبدالرحمن: والعذر اليوم أكثر ارتفاعاً؛ لتطوُّر مدارك العقل، وحضور الكتب بطباعة واضحة ذات فهارس فنية مع ما منَّ الله من مراكز المعلومات والإنترنيت وآلات التصوير، وقد يجد السالف مشقة في توثيق حديث من مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى؛ فارتفع العذر اليوم بطبع المسند في خمسين مجلداً في غاية التوثيق واستيعاب مصادر التخريج بعمل جمع من جهابذة العلماء.

ومن نماذج هذه الحدة التي أصابتني جدال عقيم حول نصري مذهب الإمام ابن حزم أن من ترك الصلاة عمداً حتى يخرج وقتها لا يقضيها؛ وإنما كفارتها التوبة والندم والإقلاع والاستكثار من الخيرات والنوافل والتهجد، فحاورني أحدهم بردِّ الإمام ابن عبدالبر على الإمام ابن حزم، وحكمه بشذوذه، والاستدلال عليه بقضاء النائم الصلاة؛ فقلت له: اتباع الحق ليس شذوذاً، ثم اذكر لي واحداً من السلف قبل الاختلاف أجاز الصلاة في غير وقتها لغير عذر؟.. وما ذكرتَه خارج محلِّ النزاع؛ لأن استدلال ابن عبدالبر رحمه الله على المعذور وكلام ابن حزم رحمه الله تعالى عن غير المعذور.. فقال: هل تضلل العلماء الذين قالوا: إنه يقضيها؟.. قلت: أضلل تارك الصلاة عمداً حتى خرج وقتها لغير عذر، وأحكم بأن صلاته في غير الوقت غير صحيحة؛ فهي غير مقبولة لقوله- صلى الله عليه وسلم-: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وأما المفتون بالقضاء فهم مخطئون؛ لأنه لا دليل لهم على ذلك، والبرهان ينفي ذلك، وأما التضليل فلا يضل إلا من بان له البرهان، وعجز عن دفعه، وتمسك بالتقليد؛ فهذا آثر على مراد الله غيرَ مراد الله.

قال أبو عبدالرحمن: لا أستبعد أن الهوج والنزق وضيق الصدر صدر عن مشاعر غامضة لا أدركها؛ بسبب الندم على ما فات من العمر.. والمحقق عندي أن من أهمل الإصغاء للبرهان والاعتراض، ولم يدفعهما بما يقتضي عدم ورودهما، وتمسك بالاجتهاد داخل المذهب مع يسر الاجتهاد في النصوص، والإفادة من مدارك العلماء جملة لا من مذهب واحد: فهو خليق بأن يلقى الحدةَ والعنف؛ فذلك نوع من العقاب المباح، وإنما اللين والجدال بالتي هي أحسن عند عرض البرهان والاعتراض.. والذين أنكروا حدة ابن حزم في نصر ما يعتقده حقاً هم أعظم حدة منه مع مخالفيهم، ولا ريب أن الإخلال بشروط المناظرة وآدابها، والصدِّ عن دفع البرهان والاعتراض أو الإذعان لهما، والعصبية للتقليد والميراث يغيظ من كان هواه تحقيق مراد الله، ويولِّد له حدَّة وجفوة.. وتمسُّكي بالظاهر اللغوي والشرعي والعقلي ليس تقليداً لابن حزم والظاهرية إن أخطأوا في التأصيل أو التطبيق؛ وإنما هو حملٌ لأمانة البرهان والعلم الاستقرائي؛ فإن قهرني أحد ببرهان يجعل استدلالي خاطئاً انقدت لبرهانه شاكراً.

وهاتفني بعضهم يقول: إن في الإنترنيت من يقول (أبا عبدالرحمن) منصوب على النداء، وأنا رجَّحت الضم على الحكاية !.

قال أبو عبدالرحمن: معرفة هذا بالنحو كمعرفتي باللغة الفرنسية!!.. إن نص العبارة (دفق قلم أبا عبدالرحمن)؛ فكيف يُقَدَّر حرف النداء مع وجود المضاف ؟!.

وهاتفني آخر يسأل عن معنى (اطرق كرا)، وظنها شتماً.. معاذ الله؛ وإنما هي قَرْص، وهي أسطورة عن (الكرا) ذكر الكروان، وهو طير صغير كثير الصياح إذا لحقه الجارح، فإذا صيد في الحبالة، أو قيل له: (اطرق كرا) لصق بالأرض، والمعنى من سياق الشعر، وهو:

أطرق كرا أطرق كرا

إن النعام في القرى

أي صيدك ليس غنيمة؛ وإنما الغنيمة في النعام، وقد صدناها؛ فهي في القرى؛ فلما زاد الزمخشري رحمه الله تعالى (إنك لن ترى)؛ أضفت (شر من الله ترى).. أسأل الله أن لا يُري أخي الدكتور العشماوي شراً، واخترت ضم شرٌّ من الله؛ لتقدير العامل المقدر في الجار والمجرور، وهو (كائن)، ومفعول ترى عائد إلى الكائن.. ثم يا أخي العسكر فإن أسلوبك المهذب ظاهراً قد جعلته حيلةً للجور عليَّ، أفتظنُّ أنك ستفلت من يدي وأنا على نَفَسي القديم ؟!.. كلا يا آل العسكر، بل تعلم قبل أن تتكلم:

لم تُعط مع أذنيك نطقاً واحداً

إلا لتسمع ضعف ما تتكلم

واستقيلك بتقبيلي جبينك كما يقبل الأحباب جبيني هذا التمعلمَ في التأصيل؛ فإننا نستحيي أن يصمنا الأشقاء من غير السعوديين بالجهل، وتأصيلاتك التي مرَّتْ تضحك العجائز، وأنت معي من القاسطين لا المقسطين، ولمتني على فعل المباح، وشنَّعتَ عليَّ بترك المستحب، وأنت فعلتَ المحرَّم وهو الجور، والمُقسط موعود، والقاسط متوعَّد: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } البقرة44، وجعلت أخي العشماوي في براءة الأطفال!!.. ألم تقرأ في موقع دار الحياة: (إن العشماوي معروف بجرأته منذ وقت طويل، وأنه لا يتجنب التعرض في بعض الأوقات إلى أكابر الثقافة والفكر)؛ فأيكما الصادق؟!.. والأولى أن يكون لومك لأخي العشماوي أكثر، وأن أكون عندك أعذر؛ فسترت ما عنده.. ثم ما ذنب أبي تراب رحمه الله تعالى وهو لم يحضر، ولو حضر فكيف بشرب سيجارتين بيمينه وشماله؟.. لماذا لم تقل له: هذا غير معقول، واذكروا محاسن موتاكم!!.. إذن أيها العسكر:

أطرق كرا أطرق كرا

إن النعام في القرى

عفا الله عنا جميعاً، والله المستعان.

وكتبه لكم:

أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري

- عفا الله عنه -

الهوامش:

(1) الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول ص 126-127.

(2) المصدر السابق ص 123 - 125.

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد