Sunday  16/01/2011/2011 Issue 13989

الأحد 12 صفر 1432  العدد  13989

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

محليــات

      

بعض الكتاب يحلو له أن يستخدم «أما قبل» ظاناً أنه يجدد في أسلوب الخطاب، والتجديد لا يعتدّ به إلا إذا كان مفيداً، مضيفاً ما يستحق معه أن يسمى تجديداً، ولو كان أمر التجديد قائماًَ على الفوضى كما يفهمه بعض الناس لفسدت أحوال العباد والبلاد، والدليل على ذلك المعنى السامي للتجديد ما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن الله يبعث للأمة في كل قرن من الزمان من يجدد لها أمر دينها، فالمجدد مصلحٌ، مستوعب لقيمه ودينه وتراثه، وللواقع الذي يعيش فيه، فهو يعمل على إعادة مسيرة البشر التي يحرفها الشيطان، ويصرفها المنحرفون المكابرون عن جادة الحق والصواب.

لكل من المفردتين «بعد» و»قبل» معناهما المعروف، فالبعد خلاف القرب، وحينما تقول: أتى فلان بعد فلان، فإنك تقصد هنا معنى مخالفاً تماماً لقولك: أتى فلان قبل فلان، ويندرج على هذا المعنى كل موقع تستخدم فيه إحدى المفردتين، فقولك «أما بعد» مناقض لقولك: «أما قبل» والمعنى اللغوي لا يحتمل غير هذا.

وهذا شائع في استخدام العرب على مر العصور، فهم يقولون: يسمع به البعيد والقريب، في إشارة واضحة إلى تناقض معنى المفردتين، حتى وإن كان المراد بهما معنى مجازياً، بحيث يُقصد بالبعيد، البعيد عن النفس والقلب وإن كان قريباً، وبالقريب، القريب من النفس والقلب وإن كان بعيداً ومنه ما كانت تقوله العرب: «إذا لم تكن من قُربانِ الأمير، فكُنْ من بُعدانِه» والقصد: إذا لم تكن قريباً منه حتى ينالك خيره، فكن بعيداً عنه حتى لا يصيبك شره.

وهنا يتأكد أن لكل مفردة معناها الخاص بها، فلا تكون بعد بمعنى قبل، وقد أوضح ابن منظور في لسان العرب ما ذكره بعضهم في معنى (بَعْد) في قوله تعالى {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} حيث قالوا: إن معنى «بعد» في الآية «قبل» لأن الثابت عند جميع المفسرين أن خلق الأرض سبق خلق السماء، لأن الله تعالى قال {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ}، فلما فرغ سبحانه من ذكر الأرض وما خلق فيها، قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} فثبت بهذا خلق الأرض قبل السماء.

قال ابن منظور مشيراً إلى أن تفسير «بَعْد» هنا بمعنى «قبل» غير صحيح: والجواب عن هذا أن الدحو غير الخلق، وإنما هو البسْط، أما الخلق فهو الإنشاء الأول، فالله عز وجل خلق الأرض أولاً غير مدْحوَّةٍ ثم خلق السماء، ثم دَحا الأرض بعد ذلك، أي بسَطها، والآيات فيها متفقة ولا تناقض بحمد الله فيها عند مَنْ يفهمها، وإنما أُتي الملحد الطاعن من جهة غباوته وغِلَظ فهمه وقلة علمه بكلام العرب.

وهنا يتضح لنا الفرق الكبير بين «أما بعد» و»أما قبل».

فأما بعد عبارة فاصلة بين مقدمة تتضمن حمداً ودعاء، وبين ما يريد أن يقوله الكاتب أو المتحدث، فمعناه: أما بعد دعائي لك، أو ما بعد مقدمتي التي بدأت بها حديثي، فإني أقول: كذا وكذا وهي كلمة مستخدمة منذ القدم، فمما رواه بعض المفسرين أن أول من قالها «داود» عليه السلام، وأنها المقصودة بفصل الخطاب في قوله تعالى {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} وقال ثعلب في مجالسه: إن أول من قالها من العرب هو «كعب بن لؤي» وقيل هو «قسُّ بن ساعدة الإيادي»، فأما بعد تفيد أنك تأتي بكلام بعد كلام، ولهذا لا تصلح مكانها «قبل» بحالٍ من الأحوال، والرسول صلى الله عليه وسلم استخدمها في كلامه، في خطبه ومجالسه، ولهذا عدّها بعض أهل العلم سُنَّة، وهي من ناحية فنية الأداء، وتكامل الأسلوب وترابطه، تعد من العبارات المكملة في فن الإلقاء، لأنها تفصل بين كلامين، وتنبّه المستمع إلى كلام جديد يأتي بعدها. ولأن «أما» فيها معنى التفصيل، فلا بد من إلغاء في جوابها «أما بعد» فإنَّ كذا وكذا.

وقد قدم لنا الأستاذ الدكتور عبد الرحمن السلوم الأستاذ في كلية اللغة العربية في ديوانية تضم عدداً من الزملاء في الكلية، بحثاً مختصراً جداً بيّن فيها أن الاستخدام المأثور عن العرب، والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم هو «أما بعد» وأثبت في البحث أن كلمة «وبعد» غير مسبوقة بأما لم تستخدم قبل عصر الجاحظ حيث استخدمها «الجاحظ» و»ابن جنّي» في ثنايا الكلام، وليس في أوله.

هنا ندرك أن من يستخدم «أما قبل» مكان «أما بعد» ليس من الصواب في شيء.

إشارة:

أما بعد، فإني أزفّ لكم أجمل الشكر على صبركم الجميل.

 

دفق قلم
أما بعد وأما قبل «تكملة»
د. عبد الرحمن بن صالح العشماوي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة