Monday  17/01/2011/2011 Issue 13990

الأثنين 13 صفر 1432  العدد  13990

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

وجهات نظر

      

قال أبوعبدالرحمن: من الطرح العربي في مُجمل الديموقراطية ما أبداه أمين مهدي من كنانة الله في أرضه حول مناداته بإسقاط الرقابة التي هي حرية وحق الأمة والدولة، ولا أزال أُذَكِّرُ بأن مبدأ الرقابة حتمي لا مسامحة فيه، وأن ترتيب النتائج على الرقابة مشروط بقيود محدَّدة من علماء الشريعة والعلماء في فنهم مع السعي إلى توحيد أهداف الدولة والأمة معاً؛ ليلتحم الصف، ولنرزق نعمة الجسد الواحد.. كما أن التعسف في استعمال حق الرقابة بعد التنظيم للإجراءات السلوكية تجاه العمل المُراقَب بصيغة اسم المفعول لا يكون بنسف الحتمي من مبدإ الرقابة، بل بالرجوح إلى المبدإ الحتمي نفسه، وهو مساءلة أجهزة الرقابة عن أمانة وسلامة التقيُّد، والتدرج من المساءلة إلى الرفع لأجهزة القضاء والتنفيذ.. قال أمين مهدي: « ومَن يُحَلِّل مواد الدستور المصري يكشف تناوب تلك الأيدلوجيات داخله مِن دون مجهود، ومن يستعرض أسماء أعضاء التنظيمات الطليعية السرية يجد داخلها هذا التمثيل بعد أن جُمعت الزعامات الشيوعية والقومية والمفكرين الإسلاميين وأعضاء الجهاز الخاص الإرهابي في جماعة الإخوان.. غير أن أيديولوجية الدعاية الأساسية في الشارع ظَلَّتْ الخَصْمَ للديموقراطية الأكثر فاعلية، وهو الأيديولوجية الدينية.. كان عدد المعاهد الدينية في مصر سنة 1952م هو (1) ثلاثة معاهد ثانوية وابتدائية، وفي السنة 1996م أصبح عدد المعاهد ستة آلاف.. المفتي (2) سيد طنطاوي شيخ الأزهر الحالي (الأهرام 1-10-1996م) إضافة إلى جامعة كاملة للمسلمين فقط في الأزهر، وحتى (3) أنَّ الاشتراكية سميت إسلامية، إضافة إلى شبكة من المساجد والزوايا لا تقل عن 250 ألفاً - ثلاثةُ أمثال عددها في جمهورية إيران الإسلامية (4) - يُسمح فيها لحزب الجمعة أو الوعاظ بالحديث في السياسة والعلوم والاقتصاد والفن والعولمة والطب من دون قيود تذكر.. منذ ذلك التاريخ بدأ تآكلُ وأفول ريادة مصر الثقافية والفكرية وإن استتر ذلك تحت مظلات عدة (5) إلى جانب ذلك التناوب للفكر الشمولي، وهي (6) الحرب الباردة، وارتفاع حدة الصراع العربي الإسرائيلي، وحصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب (7).. وثمة مظلة أخرى أخفت مؤقتاً هذا التَّدحرجَ نحو العُقْم والتبديد، وهو (8) انتقال فيروسات الثقافة والإعلام المركزيين إلى العالم العربي؛ وبذلك أضحت المقارنة النقدية مفقودة، وخير الأدلة أن القسم الأكبر من المبدعين والمفكرين العرب وبعض مؤسساتهم في مناخات جغرافية وأحياناً لغوية.. تُوَفِّر (9) عمليَّاتُ مصادرة الكتب والمواد الثقافية والتضييق على الفكر طوال حقبة جمهورية تموز أدلةً لا بأس بها على ما سبق؛ فقد صُودرت أولاد حارتنا، وكتب أبكار السقاف، ومعظم مسرحيات ميخائيل رومان، والفتى مهران لعبدالرحمن الشرقاوي في الستينات.. كما غُيَّرت كلمات الأغاني في أوبريتات سيد درويش، وحذفت مشاهد كاملة من أفلام السينما، ووضعت المئات (10) من الأفلام في لائحة سوداء، ووضعت علامات سوداء قبيحة على رموز الملكية في الأفلام، وشارك الأزهريون في لجان الرقابة بكل أشكالها.. وفي السبعينات صودرت الفتوحات المكية لابن عربي، وألف ليلة وليلة، ومسرحيات الحسين ثأر الله، والحسين شهيداً لعبدالرحمن الشرقاوي، وفِقْهُ الله للويس عوض.. وفي التسعينات صُودرت كتب لمكسيم رودنسون ومحمد شكري وجبران وعبدالله النديم وأهداف سويف، وحذفت كتب طه حسين ونجيب محفوظ من برامج التعليم، وحُوِّلت رسائل علمية أكاديمية إلى الأزهر لإبداء الرأي، واغتيل فرج فودة، وتعرَّض نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال، وصدر حكم من أعلى هيئة قضائية بتكفير مفكر وتفريقه عن زوجته، ومَثُلَتْ الكتب والكتاب وأفلام السينما أمام القضاء بتهمٍ شتى.. ناهيك عن عشرات من فتاوى التكفير والقتل والتحريض على الفتنة الوطنية في وسائل الإعلام القومية وفي قاعات المحاكم من دون وجل أو تردد.. إن المقارنة بين دوريات ما قبل سنة 1925م من نوعية المقتطف والمقطم والكاتب المصري وبين الدوريات في النصف قرن (11) الأخير تدعو للذهول مثلما الأمر عند المقارنة بين كتاب مستقبل الثقافة في مصر لطه حسين كبرنامج (12) تعليمي وثقافي وبين البرامج الحالية.. كان عدد دور السينما في 1946 م ستمئة دار، وعدد الأفلام المنتجة في السنة نفسها 66 فيلماً.. بينما عدد دور السينما في سنة 1999م وصل إلى 138 داراً وأنتج 6 أفلام» (13).

قال أبوعبدالرحمن: أذكر بالخير صحافة الزيات وطه حسين وزكي مبارك ما أروعها في لغتها!!.. هي أداء عبقري، وإيقاع فني لذيذ، وهِزَّاتٌ بلاغية في الكلام المُركَّب، وهكذا هي في تركيبه على الفصاحة لغة والسلامة نحواً وصرفاً.. ثم بُلينا بهذه الأساليب التي يوصف الناعقون بها بأنهم نُخَب.. إنه كلام غير مترابط، ولعل هذه الظاهرة تولَّدتْ من قراءة الكتب المترجمة ترجمة حرفية، وأكثر ما يكون هذا الدَّاءُ عند مَن يهجم على كتاب لم يتخصَّص في مادته العلمية؛ فيترجم المفردة بأحد معانيها؛ فيحصل التَّفكُّكُ؛ لأن عدم تخصُّصه في المادة قَصَّرَ به عن معرفة مراد المتكلِّم الذي يُعَيِّن المراد من عموم دلالات المفردة اللغوية؛ وبذلك يحصل ترابط الكلام.. وأما لذة الإيقاع، وترقيص الأفكار والأخيلة والعواطف فسبحان مَن حرمهم لذَّات الجمال الفني، ولكنهم تَحمَّلوا وِزْرَ القُرَّاء؛ إذْ أشبعوهم غثاثة وسماجة؛ ومما مرَّ من هذه الغثاثة قوله (فقط في الأزهر) فقدَّم القيدَ على المُقَيَّد بلا لذَّة بلاغية، ومن هذه الغثاثة قوله (حزب الجمعة) !!.. كأنَّ لكل جمعة حزباً، وكأن للوعظ حزباً.. هذه البلاغمُ تُضاف إلى تحشياتي السالفة، وأما المحصول العلمي والجهد الفكري في مقالات هؤلاء فَمَجْلَبة للخزي تظهر لمن يدرس المستوى لدى من نسمِّيهم نخباً، وأول ما يواجهني في مداخلة أمين مهدي التضليل؛ وذلك بإسقاطه الصفة التي تتصف بها (أيديولوجية الشارع) التي هي الخصم للديموقراطية؛ لنعلم الإبهام في قوله عن الديموقراطية (الأكثر فاعلية)؛ فلم يُحدِّد ههنا المراد بالفاعلية.. والقارئ العادي يعلم أن إنكارَ هِياجَ الشارع المصري على العفن من لغو القول؛ لأن عملَ المؤسسات الحكومية الرقابي: إنما هو صوت الشعب المصري المنادي باسترداد حقِّ وحريةِ وكرامةِ الجمهور - وذلك أصح من دعوى التحجيم إذا قيل: هذا قول الأكثرية -، وأمين مهدي بالإسقاط كان مُلبِّساً مُضلِّلاً؛ لأنه لم يُبَيِّن أن خصومة أهل العفن في الواقع إنما هي مع الجماهير، وما الدولة إلا مُنَفِّذة لمطالب الأمة.. هذه واحدة، والثانية أنه لا يضير أهل الشارع المصري أن يكونوا هم خصم الديموقراطية، بل ذلك شرف لهم؛ لأنهم لا يتعاملون مع حرية سلوكية تحكمها الشهوات والشبهات، ولا يستسلمون لإغواء مَن يشترون الأصوات ثم يكونون بعد ذلك سدنة الإكراه، ولأنهم يأبون أن يبيعوا مواهبهم وهوياتهم بثمن رخيص هو الاحتواء السريع الذليل بلا محاكمة، ولأنهم امتحنوا عقولهم وما وعاه العقل الإنساني المشترك في خبرته البشرية فلم يقدروا على أن تتصوَّر عقولُهم وجود الكون بلا خالق واحد، ولم يقدروا على أن يتصوروا استغناء خلق الله وتحقُّقَ قيامِه بغير شرع الله، واستعرضتْ ذاكرتُهم هويتهم في نشأتهم الدينية وتجربة أمتهم التاريخية فلم يجدوا أنهم تخلَّفوا عن القيادة في المعمورة لتفريط في السينما أو نص روائي أو مماحكة حاوٍ للخواجيَّة بمقالة يروث بها على مبادئ الأمة؛ وإنما وُجِد تخلفهم قدراً كونياً من الله لابتلاء المؤمنين، وهو سَبْق غيرهم إلى تحصيل جبروت العلم المادي اكتشافاً واختراعاً، وكثرة البطالة والفقر والجهل في عالمهم العربي والإسلامي، وتشتُّت صفوفهم وأهدافهم بالبدع والخرافات والتجزئة المذهبية المدسوسة بعد المحجَّة البيضاء لم تُشب.. ثم وجدوا في تشنُّج - لا زئير - الإعلام المُلمَّع أن من يُنشَرُ صراخُهم باسم الإصلاح والنخبية إنما هم حواة ومرتزقة أعمتهم شعبية التلميع وأكل الخبز الخبيث عن صلاح القول وعبقرية الفكر وثراء المعرفة؛ فكانوا حواة لزبالات أعدائنا غيرالمؤتمنين علينا، وهو احتواء يمسح رجولة الفتى العربية؛ لأنه تنازلٌ عن الموهبة والهوية والتجربة التاريخية الكريمة، وفقدٌ لروح المحاكمة العبقرية ذات القَصْد الخيِّر؛ فصارت أقلام الحواة كالزُّمِّيريَّات في يد رضيع تصفر كيفما اتفق لهدهدته لا لإيقاظه.. وهذا العقل العربي المسلم المحاكِم (بصيغة اسم الفاعل) المبارَك لم يجد ضرورة لاستعمال مفردة الخواجات (الأيديولوجية) وصفاً للمطالب الكريمة في الشارع المصري ولغتنا مفردةً وتركيبة بلاغية قمةُ الجمالِ والذكاء، وهي أثرى بما هو أصيل مطرب بفكرهم وخيالهم وعواطفهم، وإنما تأتي (أيدلوجية) بين قوسين بعد كلام عربي تنقله للخواجات، أو تضع الكلام العربي بين قوسين بعد كلمة (الأيديولوجية) في كلام تتلقاه من الخواجات بالتعريب.. وقد أكرمنا الله بلغة تقوم على الحروف الهجائية الثلاثية مع سهولة النطق؛ فلا تجتمع مثلاً حروف متقاربة المخرج، أو متسارعة التكرار (وقبر حرب بمكان قفر)؛ فكانوا يعرفون أعجمية الكلمة بتوالي حروفها؛ فإذا مَرَّ بهم مثل القَبْج بمعنى الحجل علموا أنه أعجمي الأصل؛ لأنه ليس في فصحاهم الشاعرية اجتماع القاف والجيم في كلمة واحدة.. وبرَّأ الله أوزان فصحانا التي تتموج في مخارجها من أقصى الحلق إلى طرف اللسان تموُّجاً موسيقياً من مثل: الترنسندنتالي، والفلتانشيونغ (رؤية غيبية للعالَم)، والفينومينولوجيا (علم الظواهر)، والاسكاتولوجيا (البحث عن علوم الدار الآخرة)، والجشطلت (فرع من علم الظواهر يُعْنَى بالصيغة والشكل في الظواهر التي يدرسها علم النفس)، والسيكولوجية، والأبستمولوجيا، والمونادولوجيا.. إلخ.. إلخ.

قال أبوعبدالرحمن: ما حاولت قط حفظ هذه الكلمات لصعوبة تشبه التعذر عن أدائها بمخارج عربية، ومنذ الأشدِّ حاولتُ النطق بها على الورق لا من الذاكرة فعجزت؛ فبقيت مُتقناً معانيها غير قادر على النطق بها.. وهذا التدفُّق الموسيقي في فصحانا ليس تسليةً بأبخس الأثمان، بل هذه السهولة مصدر ثراء في الدلالة تتميز به لغتنا العربية، فعندنا من المفردة الدلالة على الغائب والحاضر والقريب والبعيد والمذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع والمتكلِّم والمخاطَب بفتح الطاء المهملة والعاقل وغير العاقل والمعهود الذكري، والمعهود الحاضر، والمعهود العلمي.. إلخ.. إلخ.. والعربي يأبى أن يُستلب بعبارة خواجية حادثة الاستعمال ذات وجهين كالأيديولوجيا هذه؛ فهي مصطلح ابتدعه في القرن الثامن عشر

(دستوت دي تراسي) لللدلالة على علم يُشرِّح عمليَّة تحصيل الأفكار من نظرية المعرفة، ثم توسَّعوا بها للدلالة على كل اتِّجاه يتميز بالأفكار العقلية من الحس البسيط والمكرر وقوانين العلم المادي؛ ولهذا كانت الأيدلوجية في العلوم السياسية هي الطرف الثنائي للمذهب الآخر (المذهب التحليلي) الذي هو مذهب المنفعة والمصالح، ولعله من عماء هذا المذهب جاء الافتخار بتبنِّي هذه المَقولة السافلة: (السياسة لا أخلاق لها).. ثم تدنَّى المصطلح الأيديولوجي إلى معنى (خِلاف الواقع) مثل الميتافيزيقا تماماً تماماً؛ فكانت تعني التحليل الأجوف لمعانٍ مجرَّدة - قيل عنها بهتاناً وزوراً: (إنها بعيدة عن الواقع) مع أنها مُجرَّدة منه -، وهذا التحليل موضع سخرية بعد أن كان ذلك المصطلح دالاً على مزيد من التحليل لمعرفتنا.. ومع الأسف استعمل أمين مهدي هذا المصطلح بالمعنى الثالث الرديئ، وجعله وصفاً للمعاني الصحيحة المستنبطة من الدين الصحيح؛ إذ عَبَّر عن مطالبة الشارع المصري بحقوق الأمة وهُوِيَّتها بأنه أيدلوجية دينية !!.. والشارع المصري المتديِّن غير مغبون بالديموقراطية؛ لأنه أمين مع العقل والحس وضرورات الوجود وبراهين صدق الدين وعصمته؛ فهو مُراد الخالق سبحانه لا أهواءُ البشر.. وفاعلية الديموقراطية لم يبيِّنها، وهذا الإجمال هو عيب الاحتواء الصحفي في الإجمال لما هو مُفصَّل في لغة الفكر؛ فإن أراد فاعلية السلوك البشري المتحرِّر الصادر من المتعلم والأمي والسويِّ والشهواني.. إلخ فتلك الفاعلية وباء في المجتمعات كوباء مدافن الإشعاعات الذرية في بلدان الشعوب المستضعفة.. هو وباء في وجوده، ووجوده إذن فاعلية تدمير، وهو هكذا فعَّال - لا مجرد فاعل - في كل بلدان الإباحية التي لا تردُّ يدَ لامس.. وهذه الفعَّالية الشهوانية لا توجد في هويتنا العربية الإسلامية وإن كثر (بالنسبة إلى ما سلف من العتمات في تاريخنا) المنحرفون والشهوانيون؛ لأن انحرافهم مُتكتِّم على وجلٍ بوازع من الحياء من مجتمع ممهور عَلَنُهُ بالعصمة؛ فهو فاعل في تحطيم نفسه محاصر بخيريَّة المجتمع.. وإن أراد فاعلية البراهين القاهرة؛ فالقاهر من البراهين لا يجعل من معنى الحرية قيمة، بل السلوك كما ينبغي أن يكون تابعٌ الفكرَ؛ وبفحص العلماءِ الأديانَ الصحيحة وجدوها بريئةً من اتباع الأهواء؛ لأنها مراد الخالق سبحانه الذي جعل امتثال الشرع في قدرة المكلَّف وحرية اختياره، ويسقط عن المكلفين مِن التكليف بمقدار ما ينقصهم من القدرة والحرية؛ وبهذا كان ممتثلو الشرع عبيد الله خالقهم عبودية تشريف لهم ولم يكونوا أحراراً، والذين عَمُوا وضلوا عن امتثال الشرع بحرية أهوائهم شهواتٍ وشبهاتٍ هم عبيد الله كونياً عبوديةَ القهر والإذلال بغير أن يملكوا أدنى قدرٍ من الحرية؛ فهم يولدون على الرغم منهم، ويموتون على الرغم منهم، ولا يملكون وضعية الحياة من صحة ومرض، وغنى وفقر.. إلخ.. وفي مقارنته بين دوريات عام 1925م ودوريات ما بعد 1950م ذكر الذهولَ نتيجةً للمقارنة، ولم يفسر هل الذهول من ألق عام 25 وخفوت ما بعد 1950م، أو العكس؟.. ولكن سياقه في المسائل الأخرى يدل على أن الذهول من ألق عام 1925م.. والمحقق في هذا أن الألق قبل ذلك بعقود، وهو ألق مُقيَّد بكون العالم العربي بقيادة مصر متشوِّقٌ بشوق عنيف إلى التمدين وتحصيل الجديد مع عامل الضعف قوةً عسكرية، وعموم الفقر، وضيق الأفق عند الأغلبية بسبب التقليد، وكثرة عوامل التجزئة بالمذاهب النِّحلية، مع التجزئة الإقليمية منذ ضعفت الخلافة وورثها الحلفاء الذين هم القوة المتنفِّذة الآن على الأرض، وكان التغريب - بالغين المعجمة - في بداية التضليل الذكي الذي لم يكتشفه إلا قلة كالشيخ مصطفى صبري وبعض مشايخ الأزهر، وقد خُنقت أصواتهم إعلامياً بتلميع غيرهم، وبالتنديد بالرجعية والتخلف، وأولئك المشايخ الفضلاء هم مِشجب تلك التُّهم، وأجيال 1925م وما قبله وما بُعيده لم يخرج أكثرهم من فراغ - إلا مَن لُمِّع كقاسم أمين-؛ فقد تأسسوا بعلمٍ تراثي، وهم ذوو حس جمالي، وقد رأوا عطاء ليس في تراثهم، ورأوا عمارات وآليات لم تكن عندهم؛ فدخلوا معركة الحداثة والتراث صادقين مع أنفسهم لا يُحِسُّون أنهم على خطإ في كثير من الأمور، وقد أتقنوا بعض ما تلقَّوه حسب مشربهم العلمي، وكانوا حواة في أمور فوق تخصصهم؛ فأتقنوا بذلك الإيقاع اللذيذ في الأداء الأدبي، وأتقنوا لغة الفكر الصحيح في جوانب من تخصصهم، وأتقنوا لغة الفكر الجدلي المغلطائي التضليلي، وأكثره تلقَّوه ولم يعلموا أنه تضليل؛ لأن الضرب في أعماق التحديث شغلهم عن (العقل المحاكِم) بكسر الكاف، وهكذا شغلهم - مِن غير أن يشعروا - ضعفُ جانب الالتزام للدين جداً، ومَن كان ذا حِسٍّ فمشاعره شكلية ظاهرية كتقبيل المصحف، وذلك من آثار الخلطة الطويلة في سنوات الرحلة لتلَقِّي الثقافات.. والضعيفةُ بيئتُه مستسلمٌ يخجل من محاكمة الفكر العالمي ذي القوة المادية والحضارية؛ فكان اتِّباعُ القويِّ الغالب هو شعارَ التقدمِ والرمز والنُّخب والتجديد والرواد.. ويشاركهم أناس من أبناء وطنهم يخالفونهم في النحلة أو الملة، وهم يتألمون من الاتِّباعية؛ لأنهم يتلقون الثقافات من أبناء ملَّتهم؛ فتَلَقَّوا ثقافة أبناء ملتهم بِحذْق، وبقي منهم قلة قليلة جداً تمسكت بدينها المحرَّف وحاولت صدَّ هجمات الإلحاد والإباحية، ولم يتبلور ذلك في عمل مقروء إلا في وقت متأخر كما نرى في أعمال الرجل المغمور الدكتور رمسيس عوض أخي الدكتور لويس؛ فبهذه العوامل كلها كانت صحافة ذلك الجيل طارئة بالجديد، مُتْخمة بالثقافة، متمكنة في الأداء بوعي لغوي وإحساس جمالي، وقُبيل ثورة 1952م بقيت قيمة الفكر والعلم عند ذوي التخصُّصِ العلمي في الفقه والأصول والأديان والعقائد والتفسير والحديث واللغة والبلاغة والفلسفة والآداب كمحمد أبوزهرة وأمين الخولي ومحمد غنيمي هلال وأعضاء المجمع اللغوي، وزكي نجيب محمود، وكل هؤلاء أو أكثرهم لا تستهويهم صحافة التأملات الإنشائية، وإنما يُعْنون بالبحوث العلمية في الدوريات المتخصصة.. وتدنَّى مستوى الصحافة إلا في التحليل السياسي إذا كان المحلل أمثال هيكل صاحب أكبر مركز معلومات في التاريخ المعاصر، وفي الخبر التاريخي إذا كان المُخْبِر من أمثال النشاشيبي، وتهلهلت لغة الصحافة، وغمرتها العجمة والتفكك وانعدام العنصر الجمالي، وضعف العناصر العلمية والفكرية؛ والسر في ذلك أن رجال صحافة ما قبل عام 1952م كانوا علماء، ومَن بَعدهم كانوا حواة.. وأما الأدب فلم يضعف ولم ينقطع مدده الإبداعي، و لكنه صمت لا عن عجز؛ بل من جراء الوضع المزري للعالم العربي والإسلامي، وضياع أمل الوحدة ولو كانت فدرالية، مع ضياع سمعة العرب ونَزْع المهابة من قلوب عدوِّهم؛ وإنما ضل النشاط لفحيحٍ هَرِمٍ من بقايا أدباء الطائفية مثل أدونيس، وهم الذين وجدوا في نكسة حزيران سعة لهم في الشماتة والتشفِّي والتنفُّس بالأحقاد الطائفية.. كما أن المكتبات في العالم العربي غمرتها الكتب المترجمة عن غير تحقيق ولا تخصص، مع طروء البحوث عن الحداثة فكراً وأدباً، وكل هذه البحوث في نصاب الترجمات التي أسلفتها؛ فصار الأسلوب المعقَّد المفكَّك على مستوى المقالات والتأليفات الأدبية والفكرية، وأصبح الإيقاع الجمالي مخنوقاً، ولا أشدَّ من إفلاسِ المِزْهَر إذا ارتخت أوتارُه، وأما النكبة الفكرية والعلمية فكانت بالهذر الطويل الذي لا يُفهم منه غير قليل؛ لأن المتحدِّث حاوٍ غير مستولٍ على مادته فهماً وتاريخاً ومحاكمةً.. وكانت النكبة أيضاً بالتسطيح والتمعلم (14).. وبعد الصدمة في نكسة حزيران، وبعد الدجل والتضليل الإعلامي عن دولة عربية هي أقوى دولة ضاربة في الشرق الأوسط، وبعد الوعد بخارطة مُوَحَّدة من الخليج إلى المحيط، وبعد التفكُّك بين الدول العربية بسبب المذاهب الوافدة وتدخُّل الزعيم في شؤون البلدان الخاصة، وبعد التضخيم لدول اللاانحياز والسلام وفيهم (تيتو) الذي يذبح المسلمين صباحَ مساءَ، وبعد التخبُّط في الشعارات من الناصرية إلى الاشتراكية الإسلامية(!!)، وبعد التخبط في التنميات الفردية العبقرية التي أودت بحياة أمثال أبورجيلة كالتأميم، ومصادرة بيوت الباشوات، ومصادرة الأراضي الزراعية التي تم إحياؤها الإحياء الشرعي منذ عقدين أو أكثر، والإصلاح الزراعي الذي سلب من المَزارع في ضفاف النيل نعمةَ الغريف الطيني، وبعد تأميم الأفكار، وتطبيع المعارف: هبَّت الجماهير تُطالب بِهُويتها، وهبَّ الطائفيون والنحليون والمليُّون والشعوبيون يستغلون ظروف الهزيمة ما بين حاقد شامت يتنفَّس بأضغان وذحولٍ غير موارب، وما بين متستِّر يتباكى لنا، ويرسم السبل المعوجة لخلاصنا بزعمه وهي السُّبُلُ التي سرقتْ هُوِيتنا أولاً (وهو مُتَمنْصِحٌ غير أمين)، وبقي العَزْْفُ على هذا الوتر بغباء مَن يوصفون بالنُّخَبِيَّة إلا من كان مرتزقاً أو مخموراً بالشعبية والتلميع - والهوى يُعمي ويُصِمُّ -، ورسخ العلم والفكر في عطاء المشايخ المعمَّمين ومَنْ جاء على تئفتهم من أفاضل الدكاترة.. وحصل تراجع من قمم أمثال الدكتور عبدالرحمن بدوي الذي بصق على الوجودية بعد أن أفنى عمره فيها، واسترد هُوِيَّته بإنابة وعودة إلى دين ربه، وبراءته من التضليل المتعمَّد في الوجودية.. وإذا تأملت واقع أكثر الموصوفين بالنُّخبية على الرغم من ضجيج صوتهم المرعِب في وسائل الإعلام: وجدتَهم في حقيقة الأمر صوتاً نشازاً لا يُمثِّل جمهوراً ودعك من دعوى أنه صوت جماهيري، وإلى لقاء إن شاء الله، والله المستعان.

(1) قال أبو عبدالرحمن: الضمير المنصل (هو) في هذا السياق نشاز وفضول لا مجال لتفسيره بالتأكيد، ولا مجال أن يكون للاستدراك أو التفسير مثل قولك: (إن أخاه - هو الأكبر - أحق بالجائزة).

(2) قال أبو عبدالرحمن: إدراج المفتي ههنا بدون مناسبة تربط بين الجمل من لكنة التعبير لدى النخب التي اختارها هذا الصحفي.

(3) قال أبو عبدالرحمن: (حتى) ههنا استثنائية في معنى: أستنثي الاشتراكيين غير المسلمين اللذين سميت اشتراكيتهم إسلامية، والواو قبلها فضول في سياق اللكنة الصحفية.

(4) قال أبو عبدالرحمن: الإسلام إخلاص العبادة لله {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (18) سورة الجن، والعبودية لله باتباع القرآن الكريم والسنة المطهرة بلا افتراء بالأكاذيب، وتحريف الكلم عن مواضعه، وإنهاك نور العقل الفطري بعناء مكشوف لإحلال الخرافة محل الحقيقة.

(5) قال أبو عبدالرحمن: يستعمل هؤلاء الأعاجم عدة بمعنى كثيرة، وإنما هي بمعنى معدودة، والتذكير بأنها محصاة محصورة يدل على القلة.

(6) قال أبو عبدالرحمن: لو عقل هذا الأعجمي لغة العرب لقال: وهو.

(7) قال أبو عبدالرحمن: جعل هذه الوقائع تفسيراً للفكر الشمولي، فوار حمتاه للغة والفكر معاً، ولا معنى للفكر الشمولي إلا بتقصي ما يمكن للمعرفة البشرية أن تبلغه من أحوال شيء ما، أو التقصي للعناصر الفكرية لإحداث شيء ما.. والفكر الشمولي أيضاً في فهم النصوص والخبرة بأحوال المتكلم الدالة على معهودة، والفقه في لغته، وجمع أقواله في المسألة، واستقصاء الاستدلال تأسيساً واعتراضاً ودفعاً.

(8) قال أبو عبدالرحمن: لما جعل الضمير مذكراً علمنا أنه يريد التدحرج لا المظلة، والحاجة ماسة إلى تحقيق مراد هؤلاء الأعاجم من أساليبهم، كي يصح تصور مقصدهم، فلا تكون المداخلة جائرة.

(9) قال أبو عبدالرحمن: التوفير في لغة العرب بمعنى التكثير، فهو يريد كثرة الأدلة التي سيرد ذكرها بعد قليل.. ولا أدري كيف ينسلخ الإنسان عن جغرافيته ولغته إلا إن أراد أن يسلخ هويته!!.. وجملة (توفر) وصف للمناخات، ولو قال: (تيسر) لكان أفصح، لأن المناخ للتهيئة والتيسير لا للتوفير.

(10) قال أبو عبدالرحمن: لا معهود ههنا، فالأصح: مئات.

(11) قال أبو عبدالرحمن: لا معهود ههنا، فالصواب: نصف القرن.

(12) قال أبو عبدالرحمن: هذه الكاف سفعة قبيحة في لكنة كثير من المعاصرين، وهم يريدون الوصف المطابق لا التشبية المقارب، فالصواب، بصفته برنامجاً تعليمياً.. إلخ.

(13) جريدة الحياة رقم 1383 في 5-11-1421هـ.

(14) قال أبو عبدالرحمن: صيغة المتعلم هي الدالة على إظهار الاتصاف بالعلم اتصافاً كاذباً، وأما صيغة التفاعل (التعالم) فلا تدل على ذلك، ويستعملها بعض المعاصرين لهذا الغرض، وإنما هي عن توالي الحدث كالعلم يتوالى من طرف واحد أو أطراف مثل تكاسل وتسايروا وتعالموا بمعنى أظهر بعضهم العلم بالخبر من بعض.

وكتبه لكم: أبوعبدالرحمن ابن عقيل الظاهري- عفا الله عنه -

 

هموم الرِّقابة، وأَزْمةُ الثقافة (5-9)
أبوعبدالرحمن ابن عقيل الظاهري

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة