Wednesday  19/01/2011/2011 Issue 13992

الاربعاء 15 صفر 1432  العدد  13992

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

ما يحصل في الوقت الحاضر في دول أوربية - مثل ألمانيا من مظاهر تبدو عدائية تجاه الأجانب المستقرين - وعلى وجه الخصوص القادمين من بلدان إسلامية وعربية، يجعلني أعود بالذاكرة خمسين عاماً إلى الوراء، عندما ابتعثت إلى ألمانيا لدراسة الطب.

فقد أمضيت في هذا البلد الراقي الضارب في أعماق الحضارة الصناعية والثقافية عشر سنوات لم أواجه فيها، ولا أحد من زملائي، أي شكل من أشكال التمييز العنصري أو المعاملة السيئة. كنا نختلط بهم في أماكن العلم والعمل وأماكن التسلية والتسوق، ونأكل في مطاعمهم ونرتاد مقاهيهم. ومع أني لا استبعد حالات استثنائية، إلاّ أنّ الحياة في المجتمع الألماني كانت تجري بدون منغصات. هذا على الرغم من أنّ العلاقات السياسية بين ألمانيا الاتحادية والعالم العربي لم تكن في أحسن حالاتها في تلك السنين. فالألمان كانوا يرضخون تحت وطأة الشعور بالذنب تجاه محارق اليهود ويخضعون من جراء ذلك للابتزاز الصهيوني، ولم تضع حكومتهم - حكومة لودفيج إرهارد - اعتباراً للحق العربي فاعترفت بدولة إسرائيل وأغدقت عليها التعويضات والامتيازات المالية الضخمة. وعندما اشتعلت حرب الأيام الستة عام 67 كتبت كبرى مجلات ألمانيا (دير شبيجل) مقالاً رئيسياً عنوانه (إسرائيل يجب أن تعيش). ومع ذلك عشنا جيلاً كاملاً وعاش بعدنا جيل ثان وثالث على خير ما يرام. لم يكن يفوتنا - بالطبع - أن نلمح في نظرات الألمان شيئاً ما يعكس شعورهم بعدم التماثل وأننا قادمون من بلاد متخلفة عنهم (unter entwickelt)، ولكن كان هذا أقصى ما يفصل بيننا، لم يتأففوا من كون المسلمين لا يعاقرون الخمر ولا يأكلون لحم الخنزير ويؤدون شعائرهم الدينية، بل كانوا يظهرون كثيراً من التحمل لما يبدو من بعضنا - بدون قصد من تهاون بالأنظمة أو إزعاج في السلوك. والخلاصة أنه لم يكن هناك فيض من مشاعر الحب ولكن تقبل وتفهم إزاء هؤلاء الغرباء سواء كانوا طلاب علم أو طلاب عمل. فأما الطلاب فإنّ فرص التعليم والتدريب تتاح لهم كأقرانهم من الألمان. وأما طلاب العمل فإنهم يقدمون للعمل بموجب عقود عمل نظامية. وكان يطلق عليهم تسمية (العمال الضيوف = Gast arbeiter) على اعتبار أنّ إقامتهم مؤقتة. كان العمال الأجانب مُرَحَّباً بهم لأنّ ماكينة النمو الاقتصادي والصناعي في ألمانيا كانت تدور بأقصى سرعتها، والحاجة إلى الأيدي العاملة - الماهرة وغير الماهرة - على أشدها.

ولم يكن العمال يظهرون بكثافة، إلاّ إذا اجتمعوا يوم الأحد، حيث يلتقي بعضهم ببعض في ساحات محطات القطار غالباً، لم يكن مرغوباً ولا منتظراً من الأجانب أن يندمجوا في المجتمع الألماني، لأنّ كتلتهم العددية وثقلهم الاجتماعي لم يبلغا الدرجة التي تجعل الألمان يلقون بالاً إلى هذه المسألة. فالعلاقة كانت بسيطة مثل خط مستقيم بين نقطتين - أي بين عامل وصاحب عمل. ثم تلت ذلك مرحلة ما بعد حرب 1973م التي انخفض فيها إمداد النفط وارتفع سعره، فقلّت الحاجة إلى جلب العمالة الأجنبية، لا سيما أنه تم قبل ذلك بسنتين تخفيف شروط تمديد الإقامة، لمصلحة أصحاب العمل وبضغط منهم، لأنّ ذلك أقل تكلفة من جلب وتدريب عمالة جديدة. ولكن ترتب على بقاء العمال مدة أطول ان احتاجوا لاستقدام عوائلهم. وهكذا نمت بالتدريج كتلة العمالة الأجنبية وصار لها ملامح مجتمع متميّز مستقر، إلاّ أنّ العلاقة الخطية البسيطة استمرت كما في السابق. ومن غير المستبعد أنّ ظروف الحرب الباردة - وخاصة بعد بناء سور برلين عام 1961م، وحتى انهيار حكومات ألمانيا الشرقية ودول المعسكر الشيوعي عامة في عام 1989م كانت عاملاً يساعد في استقرار هذا الوضع، فلم تكن ألمانيا الاتحادية في ذلك الوقت تتحمل أي اضطرابات شعوبية، وكان يكفيها صراعها الداخلي مع المجموعات الثورية اليسارية. ومع ذلك فإنّ التقدم التقني في الصناعة والخدمات قلّص الحاجة إلى العمالة غير الماهرة فعملت حكومة ألمانيا على إغراء العمالة الأجنبية، وخاصة التركية، بالعودة إلى بلادها مقابل تعويض مادي بمبلغ عشرة آلاف مارك ألماني، ولكن بدون نجاح يذكر. فمن ناحية لم تكن الأوضاع المعيشية في بلادهم جاذبة، ومن ناحية أخرى فإنّ وجودهم في ألمانيا قد ترسّخ بما كوّنوه من بيئة اجتماعية وعائلية وبما خلّفوه من أولاد وأحفاد يدرسون في مدارس ألمانيا ويلعبون في شوارعها ويعملون مع آبائهم أو أقاربهم. لكن أغلب أولئك العمال قدموا في الأصل من بيئات ريفية غلب عليها الفقر والأمية وحملوا معهم ما علق بأفهامهم ومشاعرهم من عادات وتقاليد. لذلك لم يكن مستغرباً أن يشعروا بأنفسهم مختلفين تماماً عن محيطهم الألماني، وأن يتقوقعوا فيما بينهم داخل مجتمعات منغلقة غير راغبة في الاندماج، وفي بيئة أسرية متواضعة الدخل والتعليم، بحيث لا يتوقع أن يحظى الجيل الثاني ولا الثالث بحظ وافر من التعليم والنجاح المهني، باستثناء فئة قليلة كان محيطها الأسري أكثر توفيقاً فشقّت طريقها بنجاح دراسياً ومهنياً. وقد ظل هؤلاء الأجانب المستقرون - من الأتراك وهم الأكثر عدداً أو غيرهم من الشرقيين المسلمين - على هذا الوضع سنين عدداً، ولم يتغير من جانب الألمان ما يكدر صفو عيشهم، بل حفظوا لهم حقوقهم ولم يضيقوا عليهم وتحمّلوا كثيراً من المسئولية تجاههم في التعليم والإعانة الاجتماعية والصحية. وربما كانت تحصل مشاكل أو صراعات بين عصابات محلية - هي من المألوف في المدن المكتظة بالسكان. على أنّ نهاية عام 1989م كانت إيذاناً بدخول ألمانيا إلى مرحلة تاريخية جديدة. فقد أصبحت ألمانيا دولة موحّدة، وتدفّق مئات الآلاف من دول المعسكر الشيوعي. وكثير منهم أصولهم ألمانية - إضافة إلى مواطني ألمانيا الشرقية، وكلهم كانوا متلهفين على التمتع بالرخاء المادي في الغرب. لذلك شاب التوتر هذه المرحلة، إذ إنها شهدت أغلب حالات العنف ضد اللاجئين والمغتربين الأجانب، وربما كانت بعض دوافع هذا العنف قومية كامنة في النفوس أطلقها الزخم الوحدوي، ولكن بعضها - بالتأكيد - اقتصادي، حين يرى المهاجرون الأوربيون الجدد في هؤلاء الأجانب القادمين من العالم الثالث منافسين لهم على مكان العمل. وفي هذه المرحلة بالذات زالت الحدود بين دول أوربا تحت مظلة الاتحاد الأوروبي، ولم يعد استقدام العمالة هو المشكلة، بل صارت المشكلة هي البطالة في ألمانيا، التي استفحلت من جراء الاستغناء عن آلاف العمال الأجانب والألمان، نتيجة اتساع نطاق العولمة ورخص اليد العاملة الماهرة في دول العالم الأخرى، وخاصة في الشرق الأقصى وقيام الشركات بنقل صناعات برمّتها إلى خارج ألمانيا. ولكن بقي العاطلون عن العمل داخل ألمانيا، فصاروا ليسوا منافسين على مكان العمل، وإنما أيضاً على بدل البطالة، ومن ناحية أخرى فإنّه بعد الوحدة الأوربية زالت الحدود الجغرافية الفاصلة وأصبحت اللغة الأم واحدة من اللغات الأوربية، لذلك حل الانتماء للكتلة الأوربية محل الانتماء الوطني، فأصبح يساور الألمان رغبة دفينة في التشبّث بما بقي لهم وبما يجمعهم ويحفظ لهم ذاتيتهم، وصاروا أكثر حساسية إزاء مجتمع الأجانب، وقد أبدى عدد من السياسيين والكتّاب والنشطاء المحافظين، امتعاضهم من بعض مظاهر التباين الثقافي بين المجتمع العلماني الألماني والمجتمع الموازي من الأجانب: مثل لباس غطاء الرأس، وعدم مشاركة الطالبات المسلمات في حصص السباحة المدرسية والرحلات الخارجية، وتحريم العلاقات الحرة بين الجنسين والسلطة الأبوية المطلقة في العائلة والقدرات اللغوية الضئيلة، ونحو ذلك من المظاهر التي دفعت سياسياً كبيراً من الحزب المسيحي الديمقراطي - هو هاينز جايسلر - إلى أن يعلن في حديثه لمجلة (دير شبيجل) قبل أكثر من عشر سنوات - رفضه لفكرة التنوُّع الثقافي وقال ما معناه إنّ على الذين يعيشون بيننا أن يتقبّلوا ثقافتنا. ومع ذلك فإنّ الشعب الألماني لم يكن يظهر أي نوع من الكراهية أو التمييز العنصري أو العدوانية، ذلك لأنهم تعلّموا من الماضي القريب أنّ نتائج ذلك وخيمة ومهلكة، وهم سعداء بأنهم نفضوا غبار الماضي واستعادوا مكانتهم المستحقة بالتقنية والاقتصاد والانضباط. واستمر المسلمون يمارسون شعائرهم وعاداتهم في ظل التعايش والتعامل السمح على أرض الواقع على الرغم من مشاعر البعض بالامتعاض.

 

ألمانيا لن تضمحل ... كما يشيع متطرِّفوها ! (1-2)
عثمان عبدالعزيز الربيعة

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة