Thursday  20/01/2011/2011 Issue 13993

الخميس 16 صفر 1432  العدد  13993

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

«مسافر يا أمي سامحيني ما يفيد الملام.. ضايع في طريق ما هو بايدي سامحيني إن عصيت لك كلام.. رايح يا أمي من غير رجوع»، كلمات حرص الشاب التونسي محمد بو عزيزي الذى قتل نفسه حرقاً

وأشعل نار الثورة في كافة الأراضي التونسية على تدوينها في صفحته في موقع التعارف الاجتماعي «فيس بوك».. والمؤلم إنسانياً رسالته الموجعة حينما شرح «بوعزيزى» الذي لم يركب موجة المعارضة وشتم النظام.. ولم يستغل المنظمات الحقوقية للانتقام من وطنه الذي قدَّر شرحه لكل الأسباب التي دفعته للإقدام على الانتحار بحرق نفسه أمام مقر ولاية سيدي بو زيد على الفيس بوك حيث قال: «حصلت على مؤهل عالٍ منذ سنوات.. ومع ذلك فشلت في الالتحاق بوظيفة محترمة.. ولأنني العائل الوحيد لعائلة كبيرة العدد.. ولأن لي شقيقاً معاقاً بحاجة إلى علاج ثابت، استدنت مبلغاً من المال من أحد أصدقائي لشراء كمية من الخضراوات بهدف التجارة فيها.. لكن تمَّ حجز بضاعتي من قِبل أعوان التراتيب.. وعندما اعترضت ضربوني ضرباً مبرحاً، فذهبت إلى أحد المسئولين بالولاية لتقديم شكوى له.. لكنهم منعوني وتحدثوا معي على أنني حشرة»، بحسب صحيفة «المساء» المصرية، وقد ذكرت المصادر أن السلطات البلدية صادرت يوم 17 ديسمبر - كانون الأول الماضي عربته اليدوية التي يبيع عليها الخضراوات والفواكه، فذهب لإدارة البلدية ليشكو ويحاول استردادها لأنها كل رأسماله الذي يقتات منه هو وأسرته، فصفعته إحدى الموظفات على وجهه، وبعد تلك الصفعة بساعات قام أحد أصدقائه بنشر صورة التقطها لمحمد بو عزيزي بعدما أشعل النار في نفسه أمام مقر ولايته على نفس الصفحة.. وتوفي بعد أسبوعين، عقب أن زاره الرئيس بن علي في المستشفى.. لتخرج كل أسرته وجيرانه في مظاهرة غاضبة أمام مقر الولاية، وتخرج بعد ذلك كل تونس إلى الشوارع احتجاجاً.

إن تنحي فخامة الرئيس زين العابدين سلمياً عن السلطة مهما كانت الأخطاء يُعد مفخرة لأفريقيا.. قارة العظماء التي ما زالت تعطي الكون نماذج تستعصي على الآخرين من أمثال: ليوبولد سنجور الرئيس السنغالي الراحل.. والشاعر الذي سُمي في فرنسا (أورفيوس) بسبب إصراره على الأمل ورجاء البشرية في انبعاث ما هو إنساني فيها، وفيها المناضل الحر نيلسون مانديلا، وهو الرجل الذي قضى ثلث العمر في زنزانة وأقرّ له العالم برمزية الحكمة.. فشكَّل نخبة من الحكماء لفض النزاعات المزمنة في عالمنا، وفيها جوليوس نيريري الذي أنهى حياته بفصل إنساني.. وهو يعمل في الأمم المتحدة لمصلحة تمدين العالم وإنقاذ ما تبقى منه خارج براثن الدكتاتوريات المتوحشة، وفيها سوار الذهب الذي أعطى العالم كيف تكون مواقف الرجال من ذهب، وكان آخرهم زين العابدين بن علي حينما استقل طائرته حتى لا تتحول تونس الخضراء إلى ساحات قتال ومواجهات، كان قادراً على تحويلها الى حمامات دم ومقابر جماعية على يد الجيش وقوات الأمن.. وكان رافضاً إلى آخر لحظة دخول مكافحة الشغب الفرنسي وغيرها.. في صورة تتنافى تماماً مع صورة لوران غباغبو المتشبث بالكرسي حتى الموت.. مما حوَّل ساحل العاج إلى منطقة كوارث بعد رفضه تداول السلطة سلمياً والقبول بالاعتراف بالهزيمة الانتخابية.

كنت أتابع الأحداث في تونس الخضراء وفتيانها الذين يضعون الياسمين بطريقة لا تليق إلا بشباب تونس حتى قال العالَم عنها ثورة الياسمين.. وأخشى عليها أن يكون الواقع مع الفوضى أمرّ وأقسى مما كان عليه.. وبخاصة أن أمامنا نماذج في الصومال والعراق والثورات على مر التاريخ لا ترحم وستأكل أبناءها في نهاية المطاف، وأكاد أجزم أن الرئيس زين العابدين بن علي لا يعلم بما اقترفته تلك الموظفة حينما صفعت المواطن محمد بو عزيزي على وجهه فتنحى سلمياً.. تلك الصفعة التي أصبحت أشهر من صفعة تلك الأمَة لحاتم الطائي.. حينما كان أسيراً في بني عنزة فقال عبارته المشهورة (لو ذات سوار لطمتني)، وأشهر من صفعة جبلة بن الأيهم حينما لطم أعرابياً فحكمَ سيدنا عمر بن الخطاب بصفعة مثلها.. فتنصَّر ولحق بالروم، وأنشدت العرب:

تنصرت الأعراب من عار لطمة

وما كان فيها لو صبرت لها ضرر

وأشهر من صفعة الأستاذ لتلميذه جاوس مما جعله يبتكر نظرية من نظريات الرياضيات.

وأعظم درس يمكن أن نستفيده من صفعة بوعزيزي التي أسقطت عرشاً قائماً أن هناك موظفين وحجاباً وبوابين يسيئون لوطنهم ومسؤوليهم بالتعامل السيئ مع المراجعين والمواطنين والزوار بالتعطيل والشتم والإقصاء والمحسوبية من حيث لا يشعر المسؤول.. وقد قرأت في الأغاني لأبي فرج الأصفهاني أن أعرابياً أتى من سواد العراق، ودخل بلاط عبد الملك بن مروان في دمشق ليتناول طعام الغداء، وينحر الجوع الذي تأبطه على مائدة عبد الملك بن مروان، فقال له الحاجب: ما أظنك إلا عيناً لابن الزبير، ولم يكن يومها في يد بني أمية إلا دمشق، فأجابه: يا هذا دعك مني، فإنما أتيت لغداء أمير المؤمنين، ولم يؤمن الحاجب بحجته فأخذ يراقبه ويترصد حركاته، ولما دخل عبد الملك قام الناس، ومعهم الأعرابي إجلالاً وتقديراً، وبعد قليل فُرشت المائدة وتزاحم الناس عليها وعبد الملك يراقبهم، وأحبَّ أن يباسطهم ويمازحهم في الحديث.. ومن عادة عبد الملك أن ينادم ضيوفه فقال بيتاً من الشعر:

إذا الأرطي توسد أبْرَدَيْهِ

خدود جوازئ بالرمل عين

وسأل لمن هذا البيت؟ وما معناه؟ ووعد بجائزة ثمينة، فأراد الأعرابي أن يقتص من ذلك الحاجب، فقال له: هل أخبرك الجواب علّك تفوز بالجائزة، فقال: نعم.. فقال له: قائله عدي بن زيد العبادي يصف البطيخ الرمسي، فقال الحاجب للأمير: أنا أخبرك الجواب يا أمير المؤمنين، فأخبره بجواب الأعرابي فضحك عبد الملك حتى استلقى على ظهره، وعرف أن الموقف فيه ما فيه، فطلب منه أن يخبره الخبر، فقصَّ عليه قصة الأعرابي الجائع مرة أخرى، وسأل الأعرابي ما الذي دعاك إلى ما فعلت، فقال: أحببت أن أُضحك أمير المؤمنين أطال الله عمره على حاجبه، وسأله مرة أخرى عن الجواب، فقال البيت للشماخ بن ضرار يصف الظباء عندما تستظل في الضحى والعصر بشجر الأرطي فقال له: «اطلب جائزتك» قال جائزتي: يا أمير المؤمنين: «نَحِّ هذا عن بابك فإنه يُشينه»، أظن تفاصيل القصة هكذا.. والله من وراء القصد.

abnthani@hotmail.com
 

أشْهَرُ صَفْعَةٍ فِي التَّاريخِ الإنْسَانِيّ
د. عبدالله بن ثاني

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة