Friday  28/01/2011/2011 Issue 14001

الجمعة 24 صفر 1432  العدد  14001

  
   

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

حفظ الفروع وتضييع الأصول... عنوان لافت أسر انتباهي

قرأت الخاطرة التي كتبت تحت هذا العنوان فظلت تشغلني، وشغلتني إلى الحد الذي جعلني أتساءل طوال تلك الفترة كلما هممت بأمر أو فكرت في موضوع.. أو عرضت لي حادثة في طريق أو شاهدتها في التلفاز أو رواها راوٍ..

.. لم يحدث شيء من هذا أو ذاك إلا وساءلت نفسي من بعدها ترى أهذا الأمر وذاك الموضوع وتلك الفكرة فرع أم أصل؟

إذا فكرت فيها أو تمسكت بها أأكون متمسكاً بفرع أم بأصل؟ وإذا تشددت في المحافظة على أمر رأيته «فرعاً».. هل تنسيني تلك المحافظة أصلاً لا ينبغي أن ينسى؟

وهل أتناقض مع نفسي أحياناً فأحافظ على «فرع» من الأمور وأهدم عامداً أو بصورة مواربة «أصلاً» لا يجوز هدمه أو نقضه أو إغفاله؟؟.

والذي صاد هذه الخاطرة وسجلها تحت هذا العنوان ماذا أراد لنا من حكمة نجتنيها من وراء تدبرها؟

وهل هي حقاً تخفي تحت جدارها كنزاً يستخرجه الفرد أو المجتمع حتى يبلغ أشده فكراً وتأملاً..؟؟

من هنا طرحت أسئلتي كما تواردت إلى نفسي كي أشرك القارئ الكريم معي بالذي أرهقني. فالذي صاد الخاطرة العميقة هناك يصيد في الوقت نفسه عقول الذين اجتذبتهم إليها ليتدبروها متى عرض صيده عليهم.

وأنا هنا أعرض بضاعتي صريحة لا أراوغ فيها مراوغة الصياد يقدم طعماً يخفي سناً مسنوناً أو يدفن «فخاً» في التربة..

لقد أردت أن تتأملوا طويلاً هذا «العنوان الصيد».. «حفظ الفروع وتضييع الأصول» وأن تعايشوه.. وأن يأخذ منكم بالعدل ما أخذ مني، فتسألوا أنفسكم مثل ما سألت في أول هذه الصحائف. فقد أسست بحاجة حياتنا الماسة أفراداً وجماعات لفض التشابك واللبس والتعمية بين «الفروع والأصول» في شؤون حياتنا كلها ومراجعة شرعية توزع اهتماماتنا بينهما، وما يحدث أحياناً من مواراة لأصل خلف الفرع ربما إلى حد الضياع!!.

فإذا خرجت من نطاق نفسك لتقف منها موقف المحقق العادل مع المتهم وأجبت على تساؤلاتها، فطف بفكرك فيما حولك ومن حولك وأعرض بضاعة أسئلتك على الناس في البيت والمؤسسة والمصنع والمزرعة والمدرسة والمختبر والجامعة.

سل من يعلونك إن استطعت ومن هم دونك إذا وثقوا فيك ودون إجابتك وملاحظاتك المتأملة، وذلك محاولة للإجابة على مثل تلك الأسئلة.

هل ترى تطبيقات لهذا المبدأ الهدام «حفظ الفروع وتضييع الأصول؟»

هل تتسع تطبيقات هذا المبدأ أم تضيق؟

هل هناك سمات للمجتمعات التي تطبقه نعرفها بها؟. وهل لمجتمعات أخرى ترفضه وتطارده ملامح ومكانة مختلفة ندركها ونميزها بها.

لقد روي في شرح هذا المبدأ الخطير «حفظ الفروع وتضييع الأصول» قصة طريفة عن إخوة يوسف عليه السلام، ذلك أنهم حينما سمعوا صوت المنادي: «إنكم لسارقون»..!! «قَالُواْ: تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرْض وما كُنَّا سارقينَ.. ولقد صدقوا.. ولكن..!!

جاء في التفسير أنهم لما دخلوا مصر «كمموا» أفواه إبلهم لئلا تتناول ما ليس لهم..

فكأنهم قالوا: لقد رأيتم أننا كممنا أفواه أبلنا ومنعناهم عن قضم حزمة أو حزمتين من هنا أو هناك..!!

فكيف نسرق؟ أي كيف لمن يدقق هذا التدقيق فلا يحل لنفسه أن تأكل إبله النزر اليسير من زروع غيره.. كيف له أن يستحل السرقة؟

ونسي إخوة يوسف في غمار دفاعهم الحار، ذلك التفاوت ما بين التورع عن اختطاف أكله لا يملكونها، وبين ارتكابهم لجريمة إلقاء «أخيهم» يوسف عليه السلام في «الجب» معرضاً إما للهلاك أو للبيع بدراهم معدودة إذا انتشله بعض السيارة.*

ولقد حملتني القصة حملاً إلى سورة يوسف أتزود منها بما نقص من الذاكرة.. وهرعت إلى التفسير لأحيط بالأجواء التي حملت أبناء يعقوب بن إسحاق على الوقوع في جريرة «حفظ الفروع وتضييع الأصول» ولأتملى - من مشاهد حركة الكيدين المتواجهين.. ومنتهاهما في الفصل الختامي - ملامح الكيد والتدبير للشر وتتجلى في أفانينه من الحبكة والتنفيذ الماهر إلى التلفيق المرتب.. حين يتشيطن الإنس..!! والكيد المضاد تدبيراً لعودة الخير وسيادته.. بالذكاء البشري الخير وعناية الله تبرق وتشرق من خلال مجريات الأحداث. {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا، وَأَكِيدُ كَيْدًا، فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} (الطارق: آية 15-17).

فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه، ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون!

قالوا: وأقبلوا عليهم - ماذا تفقدون؟

قالوا: نفقد صواع الملك، ولمن جاء به حمل بعير، وأنا به زعيم

قالوا: تا الله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض، وما كنا سارقين!

نتذكر مع استنكارهم للاتهام أنهم مفسدون في الأرض.. المشاهد الهامة التالية تعلمنا من فنون مكائد النفس البشرية حين تنحرف فطرتها وأسلوبها في التحايل وتدبير الجرائم..

(يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف؟؟ وإنا له لناصحون) وفي موقع آخر (وإنا إذا لحافظون..) وفي موقع ثالث (لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذاً لخاسرون). وننتقل للمشهد الصريح وبعد الاختلاء بفريستهم.. نتعلم من هذه الواقعية بين يدي القرآن الكريم كيف يمكن للإخوة أن يصنعوا حين ينزغ الشيطان بينهم فيستجيبون له

«اقتلوا يوسف، أو اطرحوه أرضاً».. ثم «وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب!!»

ثم المشهد التمثيلي الملفق بعد الجريمة: «وجاءوا آباهم عشاء.. يبكون!». وتدبير الأدلة الباطلة: «وجاءوا على قميصه بدم كذب!!»

وهكذا نغلق القوس تعليقاً على قولتهم «ما جئنا لنفسد في الأرض..!» وهكذا فإن أعمال الإفساد في الأرض.. تحتاج للتدابير الدقيقة السابقة، ثم مضيا في هذا الطريق المخيف.. إعداداً للجرائم: الإعداد لمسرح الجريمة لتنفيذها بلا إمهال، الترتيبات اللاحقة لإخفاء الجريمة والتنصل منها، الثبات والصلابة على آثار الجريمة (عدم التأثر بحزن الأب وهو أبوهم) تلويث المجني عليه عند أول بادرة ومتى سنحت الفرصة «إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل» لتوغل الحقد في قلوبهم

قالوا: فما جزاؤه إن كنتم كاذبين؟. قالوا: جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه، كذلك نجزي الظالمين.

فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه.. كذلك كدنا ليوسف، ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم..

قالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل!!

فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم.

قال: أنتم شر مكانا والله أعلم تصفون!

قالوا: يا أيها العزيز إن له أبا شيخاً كبيراً، فخذ أحدنا مكانه، إنا نراك من المحسنين.

قال: «معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده. إنا إذا لظالمون»

هذه هي المشاهد التي تنتهي «بمجموعة الجب» إلى اتهام يوسف عليه السلام بالسرقة وهم يعلمون من أنفسهم وعنه ما يعلمون!.. أردت أن أنقلكم بها لمعاشرة أحداثها ولأجواء الانفعال بها، لتكشف لنا مدى جهود العقل الضائعة المبددة حين يذهل الناس عن الأصول ويتمسكون بالفروع، إن العقل البشري وحده دون حراسة من عقيدة.. أو ضمير مثل قوى الذرة حين تنطلق من قمقمها بلا كوابح..!

وإذا أردنا نماذج أخرى لمن يحفظون «الفروع» ويضيعون «الأصول» فإن الساحة البشرية تزدحم بأمثلتهم.. هناك من يطيع في صغار الأمور دون كبارها، وفيما كلفته عليه خفيفة أو معتادة، وفيما لا ينقص شيئاً عن عادته من مطعم وملبس. ومن الناس أقواماً قد يكثرون من الصدقة ولا يبالون بمعاملات الربا.

وهناك قوم قد يتحرزون من رشاشة النجاسة المادية، ولا يتحاشون من نجاسات الغيبة والنميمة التي تسمم أجواء مجتمع بأسره..!!

وأقواماً يتركون الذنوب لبعدهم عنها، فقد ألفوا الترك، وإذا قربوا منها لم يتمالكوا، وقد علمنا أن خلقاً من علماء اليهود كانوا يحملون ثقل التعبد في دينهم، فلما جاء الإسلام وعرفوا صحته لم يطيقوا مقاومة أهوائهم في محو رياستهم، وكذلك قيصر فإنه عرف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالدليل ثم لم يقدر على مقاومة هواه، وترك ملكه.

على أن من الناس من يكف هواه بسلسلة، ومنهم من يكفه بخيط.

* بتصرف عن صيد الخاطر للإمام ابن الجوزي - الجزء الثاني تحقيق ناجي الطنطاوي - راجعه علي الطنطاوي ص 230 - دار الفكر - دمشق - ص. ب 962 .

 

حفظ الفروع.. و.. تضييع الأصول..!! (1-2)
د. علي بن محمد التويجري

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة