Sunday  06/02/2011/2011 Issue 14010

الأحد 03 ربيع الأول 1432  العدد  14010

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

سالت في حبها أحبار كثيرة، وسارت في وصفها أسفار عديدة. كانت تسمى عروس البحر الأحمر، وتوصف بالمدينة الجميلة، وتُنعت بالثغر السعودي الباسم. كان ذلك خلال عقود مضت، إلى أن جاءتها أمطار الأربعاء. أربعاء حج عام 1430هـ، وأربعاء صفر 1432هـ، عندها.....

.....ذابت عن وجهها كل المساحيق التي كانت تُجمِّلها في عيون المحبين، وتمزقت عن جسدها كافة الفساتين التي كانت تزفها في عيون المعجبين، فبدت وكأنها (عجوز) البحر الأحمر، وليست عروس البحر الأحمر، وظهرت وكأنها ثغر المملكة الباكي الحزين، وليست ثغرها الباسم السعيد.

مرة أخرى ومن جديد، وفي اتجاه معاكس تماماً، سالت في قبحها أحبار كثيرة، وسارت في نعتها أسفار أكثر. لقد تحول حبها إلى خوف ورعب وتوجس وريبة، وتبدل عشقها إلى حدب وجدب، ونفور وتوحش.

الذين ولدوا في جدة وعاشوا فيها، والذين عرفوا أمطارها وسيولها، أنكروها فيما بعد. أنكروها ولم يتنكروا لها بالطبع. لم يكن أحد ليصدق أن العروس (جُدَّة)، تتحول ببساطة وسهولة وفي ظرف ساعات قليلة إلى (الجَدَّة) جُدَّة. الأمر في غاية الصعوبة حقاً. ليس من السهل أن يستوعب أهل جُدة، ولا حتى الذين يرتادونها بين وقت وآخر، هذه التحولات التي طرأت على مدينتهم، حتى أصبحت في عيونهم كائناً مجروباً..!

من السهل أن تكتب عن جُدة ما بعد المطر والسيل، بناءً على ما ينشر ويكتب عنها في وسائل الإعلام وقنوات الاتصال. لكن تبقى هناك حلقات مفقودة في ترتيب الصورة الذهنية عن جدة المتحولة. ليس من رأى كمن سمع، والذين عاشوا الساعات الأربع لمطر جدة صبيحة يوم الأربعاء قبل الفارط، هم الأقدر من غيرهم على قراءة الصورة المتكونة لجدة العجوز في عيون الناس، وفي التقشير البيئي الذي فرضته الأمطار والسيول على وجه جُدة.

العيون كانت غائرة، ومسحة من الخوف كانت تعلو وجوه الذين خرجوا من منازلهم عصر يوم الأربعاء. رأيت من هرع هارباً من دار بدأت تتهاوى على رأسه، ومن سارع يبحث عن أبنائه وبناته، ومن خرج يبحث عن سيارته التي جرفها السيل، فلا يدري إلى أية بحيرة في أحياء جُدة، أخذتها السيول الجارفة.

مسوح التجميل التي غطت ميادين وشوارع جدة من قبل، لم تصمد أمام مطر الساعات الأربع، لأن العروس كشفت عن وجهها الحقيقي الذي أبان أنها كانت تتجمل فقط. أين صرفها الصحي..؟ أين تصريف مياه الأمطار..؟ أين تتجه سيول أوديتها الكثيرة..؟ بل أين الضمير في جودة تنفيذ بنيتها التحتية الأساسية، من تزفيت ورصف وإنارة وجسور وأنفاق وغيرها..؟ لا شيء من ذلك. إن كل الذي رأيته أمامي ظهيرة الأربعاء الشهير، بعد أن نجوت أنا وأسرتي من غرق محقق؛ كان يتهاوى ويتهادى مع سيول شارع فلسطين، وشارع الأمير ماجد، وطريق الملك، وطريق الملك عبد الله، وطريق الحرمين..!

أين المليارات التي كانت تطل علينا من صفحات الصحف خلال سنوات مضت..؟ كيف لم نعرف حتى اليوم، أن ثاني أكبر مدينة في المملكة، هي في حقيقة أمرها، حفرة كبيرة، أو مصباً طبيعياً، لستة عشر وادياً من جهتها الشرقية..؟!

لو وجهنا جزءًا بسيطاً من مليارات تزيين جُدة في سنوات خلت، لفتحنا وادياً جامعاً لكل هذه الأودية، هو أبو الأودية هذه كلها، الذي يلوي أعنة هذه الأودية العاتية، عن الاتجاه غرباً حيث جُدة، إلى الشمال، حيث الصحراء والمساحات غير المأهولة، التي تستوعب كميات سيول هذه الأودية.

كانت جُدة في زمنها القديم، تشرب من مياه الأمطار، ثم أصبحت تشرق بمياه الأمطار. سماها شاعرها الكبير (أحمد قنديل) رحمه الله: (أم الصهاريج)، حيث قال من قصيدة له في مدحها:

أم الصهاريج في الأمطار نملؤها

بالماء من مطر للبيت مجرور

فقد كانت جُدة في زمن الشاعر، تبحث عن قطرة ماء من سحابة عابرة لتشرب، قبل ظهور الكنداسة، وقبل أن تُسقى من مياه عين العزيزية، ثم من محطة التحلية في آخر الأمر، ثم جاء اليوم الذي ترفع فيه يديها إلى السماء، لتقول في صلاة الاستسقاء: (اللهم حوالينا ولا علينا).

لعل المرحوم الشاعر (أحمد قنديل)، ابن جُدة، هو أول من تنبأ بهرم وشيخوخة محبوبته جُدة، فقال قبل عدة عقود:

إن شئت فانظر إليها اليوم سيدة

عجوزة.. سئمت مضغ الدرادير

هذي الرواشين.. ما زالت بخلقتها

آثار ماض.. مطل كالبنادير

وتلك أسواقها الكبرى منشَّحة

من باب مكة حتى آخر البور

بها الأزقة.. كالأنفاس.. ضيقة

مزكونة.. مثل أكوام السحاحير

لما تزل رهن ماضيها.. ملولة

خنشورة.. أصبحت مأوى الخناشير

ثم أراد رحمه الله في واحدة من تجلياته الشعرية، تدليل وتدليع محبوبته جُدة، فقال من قصيدة له:

جُدتي.. أنت عالم الشعر والفتنة

يُروي مشاعري ويروقُ

ولو عاش رحمه الله، حتى أدرك مطر الأربعاء، ومطر الأربعاء، لقال (ربما):

جَدَّتي.. أنت عالم الرعب والمحنة

يُردي مشاعري ويروغُ

كل أربعاء وجدة وأهلها، بخير وسلامة ورحمة من رب العالمين، فجُدة هي بوابة الحرمين الشريفين، وأهلها هم جيرة البيت العتيق.

assahm@maktoob.com
 

الجَدَّة .. ( جُدَّة ) ..!
حمّاد بن حامد السالمي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة