Friday  18/02/2011/2011 Issue 14022

الجمعة 15 ربيع الأول 1432  العدد  14022

  
   

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

تاريخ الإسلام زاخر بأعمال الرجال الذين أدّوا أدواراً مشرّفة في المسيرة لنشر الإسلام، والدفاع عن حوزته، وأشرقتْ صفحات أعمالهم، ببطولات مكّنتْ دور الإسلام في إسعاد البشرية.

ومن أولئك الرجال الذين تركوا بصمات خالدة، ومكانة وسمعة، وأثبتوا في عملهم بطولات شهد بها التاريخ:

القائد المظفّر يوسف بن تاشفين بطل «الزلاّقة» تلك الموقعة التي أخّرت سقوط الأندلس وبعثت الروح في الدويلات المتناحرة ولقد حرصتُ أن أحظى بزيارة مدينته الصحراوية التي شيدها لتكون قاعدة انطلاق للجهاد بعيدة عن البحر، مثلما بنى قبله عقبة بن نافع، في آخر القرن الأول الهجري، مدينة القيروان في الصحراء التونسية لتكون مركزاً إسلامياً لنشر دين الله، فصارت مراكش مقترنة باسم يوسف، لهدف جهادي رسمه، والقيروان مقترن ذكرها بعقبة بن نافع الفهريّ.

وكل منهما كان هدفه التصدي للنصارى، وأن تكون مدينته بعيدة عن البحر الذي تجوبه سفن البيزنطيين والرومان من جانب، وسهولة المدد من ديار الإسلام. وهذا فيه اهتمام بالبيئة، وأثرها في القدرة القتالية وسهولة المدد، والكر والفر.

لكن هناك فارق وجداني بين الطرفين: فالمسلمون يرجون نصرة الإسلام: اجتهاداً واحتساباً، ما لا يرجوه غيرهم.

زُرت مراكش التي تبعد عن الدار البيضاء بالمغرب الأقصى 400 كم تقريباً في فصل الشتاء بشمسها المشرقة، وفي القصبة وطابعها القديم، وممراتها الضيقة يسبح الخيال، مع تذكر التاريخ، واستيحاء المواقف، والسبب الذي جعل القائد الشجاع يوسف بن تاشفين يختار هذا المكان للمدينة -مراكش- الذي اقترن اسمها باسمه، وأطلق اسمها عند الغربيين على مملكة المغرب كلها. فقد أصبحت الآن مشْتى للغربيين يتمتعون بشمسها ونظارتها، وهكذا القيروان لكنها عند الزائر العربي المسلم، يجدهما انطباعاً تاريخياً، وقاعدة بطولية في إرساء مكانة الإسلام، حيث أرادهما المسلمون: من فكرة البناء والتأسيس، منطلقاً خالداً، وسجلاً إسلامياً في صفحات التاريخ لنشر دين الله، والدفاع عن حوزة الإسلام، بالمرابطة والانطلاق.

ولد يوسف بن تاشفين الصنهاجي الحميريّ في عام 410هـ في الصحراء وينسب إلى قبيلة حِميرَه اليمانية التي ذكر ابن خلدون عنهم بأنهم من عرب اليمن الذين نزحوا بعد انفجار «سد مأرب» وتفرق الناس «أيادى سبأ» وعليهم قام هذا المثل. ومنهم الأوس والخزرج، والمناذرة والفساسنة والدواسر، وكل هؤلاء من قبائل سبأ الذين خبرهم في سورة من القرآن.

أما حِمْيَرْ فعبروا إلى إفريقيا، ثم الشمال الإفريقي وانتشروا يقول ابن خلدون: إن القبائل العربية، لما وصلوا الشمال الإفريقي مع الفتوحات الإسلامية، بقيادة عقبة بن نافع، وجدوا أغلب السكان قد اختلفت ألسنتهم بالعُجْمة، فلم يعرف المسلمون لغتهم، فقالوا: ما أكثر بربرتهم فسمّوا من ذلك الوقت ب»البربرْ».

ويوسف بن تاشفين الذي عاش 90 سنة في حياة حافلة لصالح الإسلام والمسلمين وخاض أكبر معاركه مع النصارى «الزلاّجة» ذكر الزركلي في هامش كتابه الأعلام: أن ترجمته جاءت في 17 مصدراً، وسماه أمير المسلمين، وملِكَ الملثّمين وسلطان المغرب الأقصى، وأول من دُعي بأمير المسلمين. وكانت ولادته وقبيلته بالصحراء وفيها تأثر بطبيعتها والإقدام.

أما ابن خِلّكان في كتابه: مغيات الأعيان فقال: كان رجلاً شجاعاً، عادلاً مقداماً، فكان ملوك الأندلس يفيئون إلى ظل يوسف، ويحذرونه على ممالكهم، لما علموا أنه هيأ نفسه وجيشه ليحاربهم، فخافوه وكتبوا إليه كتاباً، لما علموا أنه قاصدهم قالوا فيه: أما بعد فإنك إن أعرضْت عنا، نُسبتَ إلى كرمَ، ولم تُنْسب إلى عجز، وإن أجبنا داعيك، نسبنا إلى عقْل، ولم نُنْسب إلى وَهنَ، وقد اخترنا لأنفسنا أجمل نِسْبتيْنا، فاختر لنفسك أكرم نَسْبَتيْكَ، فإنك بالمحل الذي لا يجب أن تُسْبق فيه إلى مكرمة، وإن في استبقائك ذوي البيوت ما شئت من دوام لأمرك والثبوت، والسلام.

فلما جاءه الكتاب مع تُحفٍ وهدايا، وكان يوسف بن تاشفين، لا يعْرفُ اللسان العربي والمرابطية، فقال له كاتبه.

أيها الملك هذا الكتاب من ملوك الأندلس، ينظمونك فيه، ويعرّفوك أنهم أهل دعوتك، وتحت طاعتك، ويلتمسون منك ألا تجعلهم في منزلة الأعادي، فإنهم مسلمون، وهم من ذوي البيوتات، فلا تغتر بهم، وكفى بهم من ورائهم، من الأعداء والكفار، وبلدهم ضيق لا يحتملون العساكر، فأعرض عنهم، إعراضك عمّن أطاعك من أهل المغرب.. فآنس من هذا الكتاب الهدوء، وتحكيم العقل، وكان كاتبه حليماً فطناً.

فقال يوسف بن تاشفين لكاتبه: فما ترى أنت؟ فقال: أيها الملك اعْلَمْ أن تاج الملك، وبهجته وشاهده الذين لا يرد بابه، خليق بما حصل في يده من الملك، أن يعفو ما دام قد: استُعْفي، وأن يَهَبَ إذا استوهب، وكلما وهب جزيلاً، كان أعظم لقدرِه، فإذا عَظُم قدره، تأصّل ملكه، وإذا تأصل ملكه تشرّف الناس بطاعته، وإذا كانت طاعته شرفاً جاءه الناس، ولم يتجشّم المشقة إليهم، وكان وارث الملك من غير إهلاك لآخرته، واعلم أن بعض الملوك الأكابر، والحُكماء البُصراء، بطريق تحصيل الملك، قالوا: من جَادَ سَادَ، ومن سَادَ قَادَ، ومن قَادَ ملك البلاد. فلما ألقى الكاتب هذا الكلام إلى يوسف بن تاشفين بلغته فَهِمَهُ وعَلِمَ أنه صحيح. فقال للكاتب: أجب القوم، واكتب بما في ذلك واقرأ عليّ الكتاب.

فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من يوسف بن تاشفين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية من سالمكم، وسلّم إليكم، وحكَمه التأييد والنصر، فيما حكم عليكم، وإنكم مما بأيديكم من الملك، في أوسع إباحة، مخصوصون منا بأكرم إيثار وسماحة، فاستديموا وفاءنا بوفائكم، واستعْلِموا إخاءنا بإصلاح إخائكم، والله سبحانه ولي التوفيق والسلام.

فلما فرغ من كتابه، قرأه على يوسف بن تاشفين بلسانه، فاستحسنه، وقرن به يوسف بن تاشفين، وأنفذه إليهم، فلما وصلهم كتابه أحبوه، وعظّموه وفرحوا بولايته، ملك المغرب، وتقوّتْ نفوسهم على دفع الإفرنج، وأزمعوا إنْ رأوا من ملك الإفرنج، ما يريبهم أن يجيزوا إليه يوسف بن تاشفين، ويكونوا من أعوانه، على ملك الإفرنج.

فحصّل ليوسف بن تاشفين، براي وزيره ما أراد من محبة أهل الأندلس، من المسلّمين له، وكفاه الحرب لهم (وفيات الأعيان لابن خلّكان ج7 ص114-115). وقد توسع كما توسع الدكتور السيد عبدالعزيز سالم في كتابه المغرب عن يوسف هذا الراغب الفائدة، حيث لا يحتمل الحيز البسطَ، ج2).

وفي وقته كانت حالة أمراء الطوائف سيئة يأخذ النصارى عليهم الجزية، فعزموا على الاستنجاد بيوسف بن تاشفين، فلما علم النصارى ذلك، بعث أمير النصارى «أدفونش» رسالة إلى يوسف بن تاشفين، أما بعد: فإنك اليوم أمير المسلمين، ببلاد المغرب وسلطانهم، وأهل الأندلس قد ضعفوا عن مقاومتي ومقابلتي، وقد أذْللتهم بأخذ الجزية، وبالقتل والأسْرِ، والذلّ والقهر، وأنا لا اقنع إلا بأخذ البلاد كلها.

إلى آخر رسالته التي جاء فيها، الاستخفاف بيوسف بن تاشفين، والاعتداد بقوته، فلما وصله الكتاب أمر أن يكتب على ظهره: من أمير المسلمين «يوسف» إلى «أدفونش»: أما بعد فإن الجواب ما تراه بعينك، لا ما تسمعه بأذنك والسلام على من اتبع الهدى.. ثم استعان بالله.

وزحف إليه واجتاز البحر، وانظمّت إليه قوات المرابطين وغيرهم، وتزاحف الفريقان، حيث قامت المعركة الكبرى الحاسمة في «سهل الزلاّقة» بين جيوش الإسلام والمسيحية، فانهزمتْ النصارى عند أول لقاء ودارتْ عليهم الدوائر، في ليلة 12 رجب عام 479هـ، فجُرَح «ألفونسو» جرحاً بليغاً، ففرّ مع بعض رجاله في جنح الظلام -وهو ملك قشتاله، ومعه 500 فارس من جنوده، وترك عشرين ألف مقاتل، من رجاله مقتولين في ساحة الحرب.

وانتهت المعركة الحاسمة، بنصر الله للمسلمين، حيث قويت عزيمتهم بهذا النصر، الذي ثبّت الله به أقدام المسلمين، كما كان أثر هذه المعركة عظيماً، في الأندلس وعادت المهابة للإسلام.

وقد كان لانتهاء المعركة بنصر المسلمين، والهزيمة النكراء للنصارى، دور كبير كدور انتصار صلاح الدين الأيوبي عليهم، في ديار الشام، بموقعة حطّين.. ولهذا الانتصار في «الزلاّقة» بالأندلس على يد البطل يوسف بن تاشفين في موقعة «الزلاّقة» عدة نتائج منها:

- الاستيلاء على الأندلس، و -إسقاط ملوك الطوائف. و-تقوية عزائم المسلمين بعد الوهن الذي أصابهم.

وكان يوسف يقول بعدما حقق الله له النصر: إنما كان غرضنا في ملك هذه الجزيرة أن نستنقذها من أيدي الرّوم، لمّا رأينا استيلاءهم على أكثرها، وغفلة ملوك الطوائف من المسلمين، وإهمالهم للغزو في سبيل الله، وتخاذلهم وإيثارهم الراحة.

وإنما هم الواحد منهم كأساً يشربها، وقينة تُسْمِعُهُ، ولهواً يقطع به أيامه، وتركُهمُ الجهاد، ولئن عِشْتُ لأعيدنّ جميع البلاد التي يملكها الروم، إلى المسلمين، ولأملأنها عليهم خيلاً ورجالاً، لاعهد لهم بالدعة، ولا علم عندهم برخاء العيش، وإنما همّ أحدهم فرس يروّضه، ويستفرهه أو صريخ يلبّي دعوته.

فرحم الله هذا القائد الفذ فقد مات عام 500هـ بعدما أدّب بعض ملوك الطوائف، وسجن المعتمد بن عباد، فانصاع له أمراء الأندلس، وبثّ الجيوش التي أظهرت النكاية في القشتاليين، والدفاع عن الثغور الإسلامية ويوسف بن تاشفين، قد رجع للمغرب، وأصبح يمد ملوك الأندلس بالجيوش والخيول بفرسانها، واستمر في حروبه، ووطّد الأمن في مملكته، وأسفط الأمر لولده من عام 495هـ أي قبل وفاته بخمس سنين واسمه «علي» وأوصاه بالإحسان إلى الرعية، والعناية بحماة الثغور، فلقد ترك أثراً وذكريات إسلامية، توسع في ذكرها والإشادة ببطولته، التي سجلها له المؤرخون وأرهبَتْ القشتاليين وغيرهم، وأوقفت زحفهم على ممالك المسلمين فترة من الزمن، وأيقظت مهابة الإسلام لدى الروم.

 

يوسف بن تاشفين: رجال صدقوا
د. محمد بن سعد الشويعر

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة