Sunday  27/02/2011/2011 Issue 14031

الأحد 24 ربيع الأول 1432  العدد  14031

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

في العاشر من الشهر الحالي (فبراير) مات الفريق سعد الدين الشاذلي قرير العين..عن ثمانية وثمانين عاماً، وفي اليوم التالي - الحادي عشر.. منه - كان جثمانه يشيع في جنازة عسكرية وشعبية مهيبة.. إلى مثواه الأخير، بينما كانت إذاعات العالم وتلفزيوناته وفضائياته تنقل إلى العالم عبر صوت الفريق ..

..عمر سليمان المرتعش نبأ (تنحي الرئيس حسني مبارك).. ومغادرته قصر العروبة، لتبلغ تراجيديا «النصر» الذي صنعه الفريق الشاذلي في أكتوبر 73م، واكتوى به بعد ذلك.. ذروتها «الدرامية» المعلِّمة: في تلك اللحظات القدرية المنصفة، ففي الوقت الذي كان يوسّد فيه بين الدموع والدعوات.. جثمان (بطل العبور)، ومحطم خط بارليف، وقائد أول انتصار عربي على الجيش الإسرائيلي وجنرالاته وعتاده الأمريكي.. والذي صنّفته الأكاديميات العسكرية بأنه خامس جيوش العالم التي لا تقهر: الفريق سعد الدين الشاذلي.. كان (الرئيس حسني مبارك) يسارع في لملمة بقية أوراقه لمغادرة قصر العروبة ل «المرة الأخيرة».. بينما أصوات شباب ثورة الخامس والعشرين من يناير تلاحقه في ميادين: «التحرير» بالقاهرة و»الرمل» بالإسكندرية و»الأربعين» ب «السويس».. وهي تهدر بكلمة واحدة: ارحل. ارحل. ارحل..!

فهذا العسكري المصري العربي الفذ.. الذي استطاع أن يتخرج من الكلية الحربية وهو في السابعة عشرة من عمره، وأن يشارك في الحرب العالمية الثانية.. وهو دون العشرين، وفي الحرب العربية الأولى ضد قيام إسرائيل.. وهو في السادسة والعشرين من عمره.. كان عليه - وبكل أسف - أن يدفع ثمن تفوقه وعبقريته العسكرية المبكرة منذ أول أيام بزوغه على الساحة الدولية، عندما تم اختياره وهو في الثامنة والثلاثين «قائداً» للقوات العربية الموحدة التي قررت جامعة الدول العربية إرسالها إلى (الكونغو) دعماً للشرعية التي كان على رأسها الزعيم الوطني المأسوف عليه (باتريس لومومبا).. تحت راية الأمم المتحدة، واستجابة لدعوة سكرتيرها العام آنذاك (داج هموشولد).. ليجد أمامه «العميد أحمد إسماعيل»، الذي كانت القيادة المصرية.. قد بعثت به إلى العاصمة الكونغولية (برازافيل) لدعم شرعية (لومومبا) أيضاً.. قبل أن تقرر الأمم المتحدة إرسال قواتها الأممية، فلما وصل إليها.. كانت حكومة لومومبا قد سقطت بفعل المؤامرة التي قادها ضدها رئيس الأركان الكونغولي (جوزيف موبوتو)، فكان يتوجب على العميد أحمد إسماعيل أن يعود إلى مصر بعد هذه المتغيرات التي جدّت.. وتولي الأمم المتحدة مهمة الدفاع عن الشرعية الكونغولية المنتخبة، بل ووصول القوات العربية المشاركة فيها بقيادة زميله (العقيد سعد الدين الشاذلي).. ولكنه آثر البقاء غيظاً وكمداً، وإن تمحَّك بعدم انتهائه من إعداد التقرير الشامل والمطلوب منه عن الكونغو والقوى العسكرية المتصارعة فيه (1961م)، وهو ما أخذ منه.. فترة شهرين (!!) حاول خلالها فرض هيمنته الإدارية والعسكرية على العقيد (الشاذلي) بحكم رتبته العسكرية الأعلى.. رغم اختلاف مهمتيهما و»مرجعيتيهما»، إلى أن انتهت الأزمة الكونغولية.. بمؤامرة اغتيال (لومومبا) التي أعقبها اغتيال (همرشولد) نفسه، ليعودا تباعاً من (الكونغو).. وهما في أعلى درجات التباعد بعد تلك الأيام، لكن القيادة في الجمهورية العربية المتحدة كانت قد عرفت خلالها تماماً.. مكانة العقيد الشاذلي العسكرية المتميزة التي لفت الأنظار إليها بمستوى أدائه ونزاهته واستقامته وترفعه عن دنايا المكافآت والانتدابات وما شابه، فكان أن كافأته بتعيينه «ملحقاً عسكرياً» لها في (لندن).. ليبقى هناك ما يزيد عن العامين، ثم يعود بعدهما إلى القاهرة، وتمضي به الأعوام.. حتى جاء عام 1969م، ليفاجأ بتعيين العميد أحمد إسماعيل - الذي أصبح لواءً - في منصب رئيس أركان القوات المسلحة المصرية.. بحكم الأقدمية العسكرية أيضاً، فقدم استقالته.. ولكن الرئيس عبدالناصر وعن طريق زوج ابنته (أشرف مروان).. استطاع أن يحمله على سحب استقالته، مع التعهد بأن لا يحتك به اللواء أحمد إسماعيل.. وعندما تم انتخاب أنور السادات رئيساً لمصر، اختار اللواء الشاذلي رئيساً لأركان القوات المسلحة متخطياً بتعيينه في هذا المنصب العسكري الرفيع ثلاثين لواءً ممن يسبقون اللواء الشاذلي في سلم الترقيات، ولكن الشاذلي.. كان الأجدر والأقدر عسكرياً، خاصة وأن الرئيس السادات قد جعل من عام 1971م.. عاماً للحسم بين حالة اللاسلم واللاحرب، التي تخللتها (حرب الاستنزاف) الطويلة وغير الحاسمة.. حتى يقطع الطريق على المزايدين عليه، ممن كانوا يطالبونه ب «الحرب».. وهم يتهمونه ب «التردد» حيناً في اتخاذ قرار الحرب، وب «الخوف» دائماً.. من اتخاذ قرار صعب كهذا، مما اضطره لتأليف عدد من القصص والروايات عن أسباب تأجيله ل «قرار» الحرب.. كان من أطرفها: قصة (الضباب) التي قال: إنها جعلت عبدالناصر يؤجل عام 1970م توجيه ضربة للعدو الإسرائيلي على الضفة الشرقية من قناة السويس.. المرة.. تلو المرة، ف «قصة» الحرب الهندية الباكستانية المشتعلة آنذاك (1971م).. وهو يدعي ويمرر على مستمعيه، بأن ذلك لا يسمح بقيام حرب أخرى غير بعيدة عنها!! لكن كل هذا التأليف.. الذي قام به السادات لم يفده، ولكن الذي أفاده.. هو قراره بإسناد رئاسة الأركان للواء الشاذلي، لأنه كان يحمل في طياته اختيار الرجل المناسب.. للمعركة القادمة حتماً، لتنطوي.. مرحلة الحسد والغيرة والمكابدات التي عاناها الشاذلي.. طوال التسعة والأربعين عاماً التي انصرمت من حياته.. حتى أصبح رئيساً للأركان.. بيده وحده - عسكرياً - قرار الحرب.

لكن معاناة اللواء الشاذلي العسكرية فالسياسية.. لم تنته بتعيينه رئيساً للأركان في 16 مايو عام 1971م.. بل امتدت معه وإلى ما بعد تحقيقه معجزة عبور قناة السويس.. التي أشادت بعظمتها ودقتها صحافة الغرب والأمريكية منها في المقدمة.. وهي تشير إلى أن عبور الجنود المصريين المفاجئ والمحكم يوم السادس من أكتوبر (العاشر من رمضان) عبر قواربهم المطاطية لقناة السويس كان أكثر سلاسة وانضباطاً من المرور في شوارع القاهرة، وهو ما أدى إلى سقوط (خط بارليف) والاستيلاء عليه، وإلحاق أول هزيمة بالجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر عندما رأى العالم - والعرب في مقدمتهم - ولأول مرة (الجنود الإسرائيليين) وهم يُقتادون إلى الأسر بالعشرات، مكتوفي الأيدي.. مطأطئي الرؤوس، ليتم تسريحه من الجيش فجأة وإجمالاً في 13 ديسمبر 1973م (!!) بعد اختلافه مع السادات، ووزير حربيته الجديد الذي جيء به من التقاعد ومُنح على الفور رتبة (المشير) الفريق أحمد إسماعيل.. على معالجة «ثغرة الدفريسوار» التي تسبب فيها السادات بقراراته العسكرية الخاطئة التي أقره عليها (المشير)، فإرساله.. سفيراً لمصر في (لندن) ثم في (لشبونة) العاصمة البرتغالية، مع حرمانه من أوسمة النصر ونياشينه.. التي جرى توزيعها في احتفال مجلس الشعب المصري بالذكرى الأولى لنصر أكتوبر، والاكتفاء بإرسال (نجمة سيناء) إليه، وتعليقها على صدره.. عبر موفد حملها إليه وهو في مكتب سفارته في (لندن)..!!.

لقد انتزع الرئيس السادات لنفسه في ذلك الاحتفال ودون وجه حق لقب (بطل العبور).. ليضمه إلى جانب لقب بطل حرب أكتوبر الذي أسبغته عليه الصحافة المصرية ورددته معها بعض الصحف العربية.. باعتباره صاحب (قرار الحرب) على إسرائيل في أكتوبر 73 - رمضان 1393ه ، إلا أن صحافة السادات.. استمرأت الأمر، وهي تجعل من السادات بطل الأبطال على الدوام، وفي كل أمر، فهو بطل الحرب.. وبطل السلام.. وبطل العبور.. الذي عبر ب «الأمة» من الهزيمة إلى النصر.. إلى آخر تلك المعزوفات التي كانت تقودها (جوقة) صحيفة الجمهورية، والتي كان يتوجب عليها أن تفرق - ومهما كان حجم الضغوط التي تتعرض لها - بين السادات (بطل الحرب).. والشاذلي (بطل العبور) احتراماً للحقيقة.. والتاريخ وإنصافاً لذاكرة الأجيال!؟

لقد ابتلع الفريق الشاذلي.. كل تلك التجاوزات التي تعرض لها دوره وتاريخه وسمعته العسكرية على يد السادات ولسانه، ولكن عندما حوَّل الرئيس السادات.. تلك المواقف إلى كتاب نشره على الناس بعنوان (البحث عن الذات)، تقدم الفريق الشاذلي باستقالته من منصبه (سفيراً في البرتغال).. وذهب إلى (الجزائر) كلاجئ سياسي، ليكتب مذكراته، ويرد على كتاب السادات و»ما قاله».. عن حرب أكتوبر وما جرى فيها من واقع تحضيره لها، ومعايشته اليومية لأحداثها، ومعرفته بكل ما جرى فيها.. من إيجابيات وسلبيات بحكم موقعه العسكري الرئيسي في الإعداد وقيادة تلك الحرب، وقد نشرها بداية على حلقات في مجلة (الوطن العربي).. ثم ضمها في كتاب يحمل ذات العنوان (حرب أكتوبر)، حيث كشف عن القرارات الخاطئة التي ارتكبها السادات رغم نصائح العسكريين المحيطين به أثناء سير المعارك، والتي أدت إلى ثغرة الدفريسوار، ثم خلافه مع السادات حول معالجتها.. والتي أدت بدورها إلى حصار الجيش الثالث، كما كشف في تلك المذكرات عن «تنازل» السادات عن نصر أكتوبر.. بموافقته على سحب القوات المصرية إلى غرب قناة السويس في مفاوضات فض الاشتباك الأولى.. واختتم مذكراته ب (بلاغ للنائب العام).. يطالب فيه بمحاكمة الرئيس السادات لإساءته استعمال سلطاته، ولتدخله عسكرياً فيما لا يحسنه.. الأمر الذي جلب على مصر عارا محادثات الكيلو 101 على طريق السويس القاهرة مع العدو الإسرائيلي، فما كان من السادات.. إلا أن يأمر بمحاكمته غيابياً عبر محكمة عسكرية.. سرعان ما انعقدت، وسرعان ما أصدرت حكمها ب «السجن» لثلاث سنوات مع الأشغال الشاقة!!

لم يعد الفريق الشاذلي من لجوئه السياسي في الجزائر.. إلا بعد أربعة عشر عاماً، كان السادات.. قد مات خلالها ميتته المعروفة، وخلفه نائبه اللواء طيار حسني مبارك.. حيث كان يمضي في الرئاسة آنذاك ما يسمى ب «دورته الثالثة»، فكانت المفاجأة بالنسبة للفريق الشاذلي.. وبعد كل تلك المواقف والابتعاد والفراق عن مصر.. أن يتم إلقاء القبض عليه لحظة وصوله إلى «المطار» ك «أي» مجرم تطارده العدالة!! حيث اقتيد لإنفاذ حكم المحكمة (الغيابي) رغم أن القانون المصري (ينص على أن الأحكام القضائية الصادرة غيابياً لابد أن تخضع لمحاكمة أخرى)، ولكن مبارك.. لم يكن ليأبه ب (القانون).. بينما كانت عودة الفريق الشاذلي تشكل فرصة ذهبية له لإنصافه فيما لو أنه احتفل بعودة بطل العبور الحقيقي.. بإرسال مندوب عن الرئاسة لاستقباله والترحيب به، ولكنه فوتها إلى أن جاء ثوار الخامس والعشرين من يناير.. ليحملوه على التنحي عن منصب الرئاسة!!فيذهب إلى شرم الشيخ.

ويحيا الفريق الشاذلي في قبره.. حياة الخالدين وعظماء الرجال، فتلك هي منزلته.. وذلك هو قَدْره: خالد بين الخالدين.. وعظيم بين عظماء الرجال..!

 

رحيل الفريق الشاذلي.. و»تراجيديا» النصر!!
د. عبد الله سليمان مناع

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة