Monday  21/03/2011/2011 Issue 14053

الأثنين 16 ربيع الثاني 1432  العدد  14053

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

المتوقع ألا تنال الروائية السعودية رجاء عالم جائزة البوكر العربية، ليس لأنها لا تستحقها بل لأنها بعيدة عن الأضواء في زمن ثورة الإعلام والاتصال، وبريق النجومية والإثارة الخاطفة، ولأن نصَّها بعيد عن الدارج النمطي. فصارت المفاجأة ثورة على الثورة.

منذ بضع سنين تدحرج حصى طارئ كثيف على الجبل الأخضر الصغير للرواية السعودية الحديثة الذي ظل يبنيه بهدوء لذيذ مبدعون أمثال رجاء عالم وعبده خال ويوسف المحيميد وغيرهم.

بعضه حصى لطيف خفيف من هوامش جبل الرواية وبعضه قوارير و»تنك» وسقط متاع تركه المتنزهون والسيَّاح على الجبل، وحين تدحرج مع رياح الحرية أصدر صخباً وضجيجاً..

الناس تلتفت إلى الضجيج، في البداية.. قيل عن هذا الضجيج أنه الأكثر مبيعاً، الأكثر حضوراً وتأثيراً، الأكثر ترجمة حتى أن إحداها تُرجمت إلى أربع وعشرين لغة، لعيون بنات الرياض وليس للرواية الركيكة. ولم يسلم من الانسياق بعض النقاد المأخوذين بالنسق، ربما لكي يحافظوا على بريقهم الإعلامي روجوا لسقط متاع العابرين، وازدروا المبدعين الغامضين، وأكدوا ألا قيمة لما لا يفهمه الناس!

في خضم هذا الرعاع النقدي الذي احتفى بتقارير قوارير مستعجلة فجَّة سمَّاها روايات فنية، كانت هناك روائية، نسينا حتى اسمها، ربما أنه رجاء عالم، البعض يظنه اسم لرجل، والبعض يظنه غير سعودي، بعض آخر يظنه اسم رمزي مستعار وراح يبحث عنه في الإنترنت، والكثير لا يعرفون هذا الاسم.. لكنها كانت تكتب بهدوء ورويَّة ومثابرة وتحلم أو تتوهم.. فما أطيب الوهم الذي يتشكل في قمم الجبال وليس في سقط المنحدرات المهشمة.. تكتب ولا يقرؤها إلا النزر اليسير من نخبة المبدعين.. وكان نصُّها الإبداعي يتلألأ عميقاً وتأملياً ومتعدد الرؤى كنقيض للنصوص المستعجلة.. يقول الشاعر ابن الرومي:

نار الروية نار غير مُنْضجة

وللبديهة نار ذات تلويحِ..

وقد يفضلها قوم لعاجلها

لكنه عاجل يمضي مع الريحِ!

إذا كان لارتفاع سقف الحرية في السعودية منافع جمَّة فإن له أوهامه الأولى، حين تتفذلك الألاعيب الصغيرة لتؤجل الروائع الكبيرة، حين تعلو أصوات كثيرة على السطح وتصرخ في المشهد، فيظن المستمعون أن الصراخ طليعة الفن. كان متوقعاً أن تنال الإثارة السطحية المشوقة فترة من سنوات لا تقل عن عشر مثلاً، قبل أن يملها الناس، لكن المفارقة السعيدة، أن الفترة أقصر مما كنا نتوقع، لأن الإنترنت لم يُقصِّر في ضخ التشويق حد الثمالة.. فأخذ الناس نفساً سريعاً حتى تبين لهم الضجيج من الغناء، أما الزَبَد فيذهب جفاء..

وأما رجاء عالم فسردُها من شفيفِ الرخام.. إيقاعُها من رفيفِ الحمام.. تجمعُ من شظايا الزوايا أناساً ومرايا، وتطرزُ من الصمتِ أيقونة الكلام. تزهد بالنجومية وتتركها لمن يلهث وراءها ويقتنصها عسفاً أو جدارةً.. ويا للمفارقة، ركضت النجومية إليها، وتتوجها على هرم رواية العرب من مشارقها.. لا بأس أن يشاركها القمة مبدع من مغاربها..

وكان عبده خال قد دشن مرحلة الإبداع العام الماضي، وقبل أيام أُعلن عن رجاء عالم سيدة للرواية العربية لهذه السنة.. وصارت أميرة الحكاية أو حكاية الأميرة، ليس مهماً.. المهم أن لم يتفرسنا الحزن طويلاً لبُعدها، كما يفعل حزننا على المبدعين العرب الذين ما فتئوا في ابتعاد قسري، لأن الشارع يقول لهم: لماذا لا تقولون ما نفهم؟ فلا يجيبونهم ببديهة أبي تمام: لماذا لا تفهمون ما يُقال؟ بل يهربون نحو اغترابهم الإبداعي ويستقبلون الذي لا يأتي..

جميلٌ ونادرٌ أن لم يتفرسنا الحزن طويلاً لبعدها الإبداعي فقد نالت على يدها ما لم تنله يدا أبي حيان التوحيدي الذي أحرق كتبه كلها قهراً وغبناً، وهو يندب إبداعه المهدر، نائحاً نواحاً أسطورياً: «هذا وصفُ غريبٍ نأى عن وطنٍ بنى بالماءِ والطين، وبَعُدَ عن أُلاّفٍ له، عهدهمُ الخشونة واللين.. فأين أنت عن غريبٍ قد طالت غربته؟.. غريب لا سبيل له إلى الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان؟.. إن حضر كان غائباً وإن غاب كان حاضرا». والغربة لدى التوحيدي مثلما هي لدى المبدعين العرب اليوم ليست غربة المكان، بل غربة الروح، لأنه لم يبرح ذات مكانه، إذ يقول: «هذا غريب لم يتزحزح عن مسقط رأسه، ولم يتزعزع عن مهب أنفاسه..» حتى يصل أبو حيان إلى غايته المنفيّة: «لأن غاية المجهود أن يسلو عن الموجود، ويُغمِضَ عن المشهود، ويقصى عن المعهود».. فعذراً أبا حيان قد أقصاك أجدادنا، ولا زلنا نفعل!!

مشابه لأبي حيان هربت رجاء من مدن الملح إلى صحراء الرؤيا اللامتناهية.. تختلي وحدها كي تكتب روايتنا العربية المكِّية، بعيداً عن ضوضاء الصحف وفرقعات الرواية الطارئة. وكان لها الصمت حين طال بنا الصوت.. وفي ضجيج المتلاسنين كان لها الهدأة كان لها الحنين من المبدعين ينتظرونها.. ويسألني صاحبي: أين كانت رجاء عالم، قبل هذه الجائزة؟ قلت: لا أدري، ربما في عزلة ضاق بها الكلام فاتسعت لها الرؤيا، على نقيض ما قاله النفّري: «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة».

إلى أين يهرب المبدع العربي حين لا يفهمه الناس؟ إلى داخله أم إلى خارج الوطن؟ إلى أفق رحب يمتدُّ من السجن الإرادي لأبي العلاء المعري الذي لم يتزحزح عن بيته أربعين عاماً فصارت لزوميات العرب، أم إلى فضاء المنفى الصحراوي للشنفري الذي تمرد على قبيلته وجعل أهله وحوش الصحراء الأوفياء بقصيدة صارت لامية العرب!؟

الانعزالُ الروحيُّ واحدٌ سواء كان سجناً في المنزل أو ترحالاً في الصحراء أم سفراً بين المحطات، إنما يتراوح الخيار الشكلي للمبدع، فهي حالة الرؤية لا حالة الكيان.. حالة الذهن لا حالة الواقع.. هو ما تراه في عينيك أنت لا ما في الصورة، أو كما قال محمود درويش «أرى ما أريد».. قيل لأحدهم، من يؤنسك؟ فضرب بيده إلى كتبه وقال: هذه. فقيل من الناس؟ قال: الذين فيها!

وكأني برواية رجاء عالم ترى الناس عبر ظلالهم الممتدة في التاريخ وترى الضوء في القادم من أيامهم.. وتتلمس حاضرهم في شعاب مكَّة فهي أدرى بشعابها..

alhebib@yahoo.com
 

البحث عن رجاء عالم!!
عبد الرحمن الحبيب

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة