Thursday  31/03/2011/2011 Issue 14063

الخميس 26 ربيع الثاني 1432  العدد  14063

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

ملحق اعلامي

 

ذرية بعضها من بعض
الملك عبد الله بن عبد العزيز ... همة الملوك وتواضع العلماء
اللواء الركن د. بندر بن عبد الله بن تركي آل سعود

رجوع

 

كعادته دائماً، أطل خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، يحفظه الله، في طلعته البهية على مواطنيه الكرماء الشرفاء الأوفياء، بل أوفى الأوفياء، في يوم الجمعة الثالث عشر من ربيع الآخر عام 1432هـ الموافق للثامن عشر من مارس عام2011م، وخاطبهم بكلمات مقتضبات لم تستغرق أكثر من دقائق معدودات، غير أنها جاءت مفعمة بكل معاني الحب الصادق لهذا الشعب السعودي الوفي النبيل، الذي أسكنه المليك في قلبه، فحمله معه أينما ذهب وحيثما حل.

وليس أدل على هذا من تصريحه، يحفظه الله، عند مغادرته مستشفى بريسبيتريان في الولايات المتحدة الأمريكية يوم الثلاثاء الموافق للخامس عشر من محرم عام 1432هـ، إثر تلك العملية الجراحية التي أجريت له، وتأكيده أنه لا يرى راحة لجسده المتعب بسبب ما أصابه من ألم، ولا نقاهة من مرضه، إلا في العمل من أجل هذا الشعب السعودي الكريم، الذي يحمل عبد الله بن عبد العزيز همّه ليل نهار، لأنه رجل شديد الخوف من ربه، ومدرك جسامة المسؤولية الملقاة على عاتقه من خلال موقعه الذي جعله مسؤولاً عن كل فرد من أفراد شعبه. ومن يتابع أقواله وأفعاله، يدرك مدى ما يتملكه من خشية من ربه عز وجل، بسبب مسؤوليته المباشرة عن رعيته، حتى كأني به يردد مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (والله لو أن بغلة بالعراق عثرت لرأيتني مسؤولاً عنها أمام الله تعالى، لِمَ لَم أسوِ لها الطريق).

أجل... جاءت تلك الكلمات المقتضبات مشحونة بكل معاني التقدير لهذا الشعب السعودي الأبي، والاعتزاز به، والحرص على خدمته، وتوفير كل ما يساعده للتغلب على مصاعب الحياة، فكانت كالغيث المنهمر، بل قل إنها كانت غيثاً منهمراً وبلسماً شافياً صادف أرضاً عطشى، فاهتزت وربت واخضرت فارتدت أزهى الحلل.

وصحيح.. كانت تلك القرارات الملكية الكريمة خيراً منهمراً شمل كل المواطنين في سائر أرجاء الوطن الغالي. وقد أجاد البعض وصفها حينما شبهها ب (تسونامي الخير) الذي يجرف في طريقه كل حاجة وفاقة وبطالة وفقر ومرض، ويقضي على كل ظلم وفساد، ويضع حداً لكل تسلط على العباد وتعطيل مصالحهم، ويؤسس لحياة ملؤها الاكتفاء والحب والوئام والاطمئنان والأمن والسلام.

وصحيح أيضاً أن الدولة، رعاها الله، أنفقت في جمعة الخير تلك مبالغ هائلة، تجاوزت ميزانية تسعة دول أوروبية وفق إفادة أهل الاقتصاد والمال، غير أن هذا لم يكن مصدر دهشة أو استغراب، لأن الكل يدرك أن خادم الحرمين الشريفين رجل كريم إذا وعد أوفى وإذا أعطى كفى، فكان عطاؤه معبراً بصدق عن شخصه الكبير ومكانته السامية في نفس مواطنيه.

ولا شك أننا كلنا ندرك مدى هذا الحب الذي نكنه لعبد الله بن عبد العزيز، فأسكناه جوانحنا منذ أن نشأ فينا فتياً، لأنه أوقف حياته كلها لخدمة دينه ووطنه وشعبه، فلم يعد يسعده شيء في هذه الحياة الفانية أكثر مما يدخله من سرور على شعبه، وما يؤديه من خدمة له من أجل تحقيق مصالحه وأمنه واستقراره، وتأمين مستقبل مشرف لأجياله. وإثر قرارات جمعة الخير تلك، اندفعنا كلنا إلى الشوارع، وصحيح كان اندفاعنا فرحاً بما سمعناه من قرارات ملكية كريمة، لكنه كان أيضاً فرحاً برؤية خادم الحرمين والاطمئنان على صحته واستجابة لطلبه، فكنا في تفاعلنا ذلك نزجي الشكر الجزيل لله رب العالمين أن منّ على مليكنا بالصحة والعافية، ونرفع أكف الضراعة لله العزيز الكريم أن يديم عليه الصحة ويلبسه ثوب العافية دائماً ليقود المسيرة ويحقق لنا كل طموحنا وآمالنا في الحياة، ويحرس مسيرة الخير القاصدة هذه حتى تحقق أهدافه هو لهذا الوطن العزيز وأبنائه الأوفياء الكرماء المخلصين. ولهذا لم يكن غريباً أن تضيق صفحات إعلامنا المقروء وتعجز قدرات إعلامنا المسموع والمشاهد عن الاتساع لتعبير المواطنين عن حبهم وصدقهم وإخلاصهم ومعاهدتهم لمليكهم وقادتهم أن يظلوا على العهد دائماً وأبداً أوفياء مخلصين، ورهن الإشارة لما يطلبه منهم مليكهم الذي يحملهم في قلبه ليل نهار، فأسكنوه هم أيضاً قلوبهم الطاهرة النقية.

وصحيح أن تلك التفاعلات الإعلامية كانت مشحونة بعبارات الحب والتبجيل والتقدير والاحترام للمليك المفدى، ومن أحق منه بحبنا وتقديرنا واحترامنا وطاعتنا؟!

لكن انظروا إليه يطلب إلى شعبه الوفي عبر العلماء والمشايخ والمسؤولين والوزراء وممثلي الوفود الذين زاروه، أن يكفوا عن إضفاء لقبي (ملك الإنسانية) و(ملك القلوب) عليه، مقراً بالملك لله الواحد الديان وحده دون سواه، ومعترفاً بعبوديته لربه عز وجل، إذ جاء في خطابه لزائريه الذين وفدوا إليه في قصر اليمامة بالديوان الملكي يوم الثلاثاء 17 ربيع الآخر 1432هـ الموافق 22-3-2011م للسلام عليه وتقديم واجب الشكر نيابة عن المواطنين على ما تفضل به، حفظه الله، من تلك القرارات الملكية الكريمة التي شمل خيرها الجميع، جاء في ذلك الخطاب الملكي الكريم:(إخواني، هناك كلمتان مادام المشايخ حاضرين، وهي للشعب أجمع. إخواني، يقال: ملك القلوب، أو ملك الإنسانية.. أرجوكم أن تشيلوا هذا اللقب عني، فالملك هو الله، ونحن عبيد لله عز وجل، أما هذه، أرجوكم تعفوني منها. وشكراً لكم يا إخوان).

فانظروا إلى هذا التواضع الجم، وللزهد في الأضواء والمديح، ومن يعرف حكام آل سعود يدرك أن تلك سجية متأصلة في نفوسهم، إذ لايرون أنفسهم أكثر من حراس للدين، وحماة للوطن ومسؤولين عن خدمة المواطن وحمايته وتوفير أمنه واستقراره وعيشه الكريم.

فقد فعل ذلك من قبل الملوك سعود وفيصل وخالد رحمهم الله جميعاً، إذ طلبوا إلى مواطنيهم ألا يخاطبوهم ب(لقب صاحب الجلالة) أو(صاحب العظمة) مقرين ومؤكدين أن الجلال والعظمة لله وحده الكبير المتعال ولا يجوز لأحد أن يشرك أحداً مع الله في صفاته. ثم جاء خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، يرحمه الله، فلم يكتف بمناشدة مواطنيه إلغاء لقب (صاحب الجلالة) أو (صاحب العظمة) فحسب، بل اتخذ لنفسه لقب (خادم الحرمين الشريفين) اللذين نتشرف بخدمتهما، بعد أن تخلى طائعاً مختاراً عن كل ألقاب الملك وأبهته، يوم أعلن خلال افتتاحه مركز تلفزيون المدينة المنورة في 24-2-1407ه (1987م) قائلاً: (عن رغبة ملحة تخامرني باستبدال مسمى لقب صاحب الجلالة بلقب أحبه ويشرفني أن أحمله، وهو خادم الحرمين الشريفين، وسوف يعتمد هذا رسمياً من الآن).

والحقيقة لا غرو في هذا، فقد تعلم هؤلاء الملوك الكرام في مدرسة عبد العزيز الذي سبقهم إلى كل تلك الخلال العظيمة وغرسها فيهم منذ نعومة أظفارهم، لا بالأوامر والخطب الرنانة، لكن بالفعل والممارسة والتطبيق العملي، لأن حياته كلها كانت مبنية على تلك القيم، فقد أجمع كل من كتب عن عبد العزيز على شدة إيمانه بربه وثقته في نصره وتواضعه له واعترافه له بما أنعم عليه به، فها هو محمد المانع يقول في كتابه (توحيد المملكة العربية السعودية): قال لي عبد العزيز يوماً:(إن ما وهبني الله لم يكن بسبب قوتي، بل بسبب ضعفي وقوته سبحانه وتعالى). وبجانب هذا كان عبد العزيز شديد التواضع بطبعه، لاسيما مع أفراد شعبه، إذ يأكل كما يأكلون ويمشي بينهم في الأسواق، ويصعب على الغريب أن يميز بينه وبين أي فرد من أفراد شعبه فيما يتعلق بمظاهر الحياة اليومية، فها هو حافظ وهبة يؤكد في كتابه جزيرة العرب: (لقد صحبت الملك عبد العزيز في السلم وفي الحرب، وعاشرته في البادية والحاضرة، وخبرته في حالتي الرضا والغضب، وحياته الشخصية لا تكاد تختلف عن حياته العامة إلا يسيراً، فهي أشبه بنظام أوتوماتيكي لا يكاد يتغير).

وتكاد الدهشة تعقد لسان أمين الريحاني عندما قابل الملك عبد العزيز لأول مرة، إذ تساءل متعجباً: (أين أبهة الملك وفخفخة السلطة؟ إنك لا تجدها في نجد وسلطانها، وإن أول ما يملكك منه ابتسامة هي مغناطيس القلوب. لست أدري كيف حييته وأنا في دهشة وابتهاج من تلك المفاجأة الكبيرة، ولكني أذكر أنه حياني باسماً بالسلام عليكم وظل قابضاً على يدي حتى دخلنا الخيمة... مهما قيل في ابن سعود، فهو رجل قبل كل شيء.. رجل كبير القلب والنفس والوجدان. عربي تجسمت فيه فضائل العرب إلى حد يندر في غير الملوك الذين زينت آثارهم شعرنا وتاريخنا).

أما كرم عبد العزيز، فالأحاديث فيه لا تعد ولا تحصى، غير أنني أكتفي هنا بالقصة التالية التي أوردها محمد المانع في كتابه الذي أشير إليه آنفاً: (كان الملك عبد العزيز مسافراً ذات مرة، فغرز عدد من سيارات حاشيته، ورفض، كعادته، أن يترك مكانه حتى يتأكد أن جميع السيارات قد خرجت من الرمل. وفي أثناء ذلك نزل من سيارته وجلس في ظل شجرة. وفجأة وقف أمامه بدويّ لم يعرف أنه الملك، لأنه كان يلبس ثوباً بسيطاً وغترة. ثم جلس بجانب جلالته وقال له: أين الشيوخ ؟ فأجابه مبتسماً: لابد أنه مع الرجال الذين تراهم. وانتظر البدويّ أن تسنح له فرصة لرؤية الملك. وحين أخرجت جميع السيارات من الرمل استعد جلالته لترك المكان، وأخذ حفنة من الريالات وأعطاها إياه. وحينئذٍ مدّ البدويّ يده وقال: السلام عليك يا عبد العزيز. فسأله الملك: كيف عرفت أني عبد العزيز ؟ فقال: لا أحد يعطي بكرم مثلك).

والحقيقة أنني اكتفيت هنا بهذه القصة لأؤكد أربعة صفات جوهرية في الملك عبد العزيز:

الأولى: اهتمامه بأمر رعيته ورفضه مغادرة المكان إلا بعد الاطمئنان على سلامة الجميع والتأكد من خروج سياراتهم من الرمل.

الثانية: كرمه الذي لا يجاريه فيه أحد أبداً واعتراف الجميع له بذلك.

الثالثة: حرصه على المساواة بين نفسه ورعيته في كل شيء وعدم تمايزه عنهم، بدليل أن البدويّ لم يستطع التعرف عليه، لأنه كان يلبس ثوباً بسيطاً وغترة كسائر أفراد شعبه.

الرابعة: عزوفه عن الألقاب وعدم اكتراثه لها، ويتضح هذا جلياً من مخاطبة البدويّ له: السلام عليك يا عبد العزيز. ويضحك عبد العزيز ويرد التحية بأحسن منها فرحاً جزلاً لأن قومه يعاملونه مثلما يعاملون بعضهم بعضا.

وهذه الصفة الأخيرة هي التي وددت التركيز عليها هنا، إذ لا يرى هذا الرجل الكبير نفسه أكثر من خادم لرعيته، كما يؤكد هذا في قوله: (إنني خادم في هذه البلاد العربية، لنصرة هذا الدين، وخادم للرعية. إن الملك لله وحده، وما نحن إلا خدم لرعايانا. فإذا لم ننصف ضعيفهم، ونأخذ على يد ظالمهم، وننصح لهم، ونسهر على مصالحهم، فنكون قد خنا الأمانة المودعة إلينا... إننا لا تهمنا الأسماء والألقاب، وإنما يهمنا القيام بحق الواجب لكلمة التوحيد، والنظر في الأمور التي توفر الراحة والاطمئنان لرعايانا... إن من حقكم علينا النصح لنا. فإذا رأيتم خطأً من موظف، أو تجاوزاً من إنسان، فعليكم برفع ذلك إلينا لننظر فيه، فإذا لم تفعلوا ذلك فقد خنتم أنفسكم ووطنكم وولاتكم).

إذن ليس بدعاً أن يدعوه قومه ب(طويل العمر) أو (أبو تركي) بل ويناديه بعضهم باسمه مجرداً من النعوت والألقاب، كما ينادي أي فرد من رفاقه: (يا عبد العزيز). فيقبل عبد العزيز مبتسماً ومصغياً لأنه لم يكن يعبأ بالألقاب.

لقد أفنى عبد العزيز عمره في رعاية أفراد شعبه رعاية الأب أبناءه، لأنه يراهم أسرته التي هو كبيرها وعليه أن يعولها، وعلى الدرب سار أبناؤه من سعود حتى خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله، يحفظه الله، الذي يؤكد لنا في كل يوم تواضعه وحبه لنا، ويقابلنا معتذراً لأن ظروف مرضه لم تسعفه كي يستقبلنا ويصافحنا واقفاً كعادته دائماً، كما جاء في أول كلمته لضيوفه الذين زاروه في اللقاء الذي أشير إليه في صدر هذا المقال، إذ استهل كلمته معتذراً: (إخواني وأبنائي.. أشكركم وأتمنى لكم التوفيق، وأشكر كل واحد منكم رأيته وسلمت عليه، ولكن مع الأسف إنني لم أتمكن أن أقف، وإن شاء الله بعد أيام أو أشهر)... فلله درّك أبا متعب.

* مدير إدارة الثقافة والتعليم للقوات المسلحة

 

رجوع

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة