Thursday  07/04/2011/2011 Issue 14070

الخميس 03 جمادى الأول 1432  العدد  14070

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

في كل ورقة حكومية وغير حكومية تلزمني بذكر ميلادي أكتب جزءا من روحي (طريف) بحبر أحمر يحكي اللهفة في دماء الحرية والوطنية، وفي كل سيرة ذاتية تفرض علي كتابة مدرستي الابتدائية أستحضر مدرسة ابن سيناء وأستاذي محمد داود نهار

من دهاليز صناديقي السوداء التي تستعصي على النسيان والاحتراق والإبادة والإقصاء مهما كان التحطيم كارثيا، وكلما اشتقت إليه رجعت لتوقيعه على تفوقي في شهاداتي التي كانت أكبر حجما وأقسى ورقا من طفل صغير لم يكن في خلده ذات يوم أن تنتزعه الأيام من رحم تلك الأرض وذلك الأستاذ.... (طريف) كانت ولازالت تعني ولادتي وتربيتي ووطنيتي وقيمي وأخلاقي وأهلي الكرام وترابي المقدس وحدود بلادي الغالية، صورة جدي وأبي وأفواج البشر الغرباء في بيتنا الصغير وإنسانه الشمالي البسيط الذي يحمل آماله على ظهره وهي لوافح كما قال الأديب المازني في صندوق الدنيا... (طريف) بكل تضاريسها أيام الشتاء القاسي وصوت حبات المطر على أرضها ووشوشات طيورها التي تحاكي فرح الطير والإنسان برحمة الله في تلك المدينة الحدودية التي أبت إلا أن تسكن في قلب أبنائها الذين طوحتهم السنون والغربة، تأبى رغم كل المصاعب إلا أن تتحدى فتبتهج بالأحلام والقيم ومنظومات الأقواس القزحية والفراشات الملونة، وتقاوم كل الرياح الهوجاء من أجل أن تتدثر بياض الثلوج في صور مربعانيتها البهية، مدينة تروي للزمان والمكان طهر الإنسان وطهور الجهات ورضا النفس وسرور الكائنات التي تصرخ في كل ربيع: ما أجمل المدن حينما ترتدي ثياب الربيع المنسوجة بألوان البنفسج الطموح والأزرق المستحيل.

ربما نحن أبناء جيل التابلاين كما يحلو أن يُسمى جيلنا الذي يعد آباؤه وأجداده هم البانون الحقيقيون لمدينة طريف بعدما توافدوا عليها من الصحراء والمدن والحواضر الأخرى في عهد الملك عبد العزيز -رحمه الله- آنذاك، ذلك الجيل الذي عاش في مرحلة استثنائية، وتجاوز كل معوقات الاختلاف والتناقض بين البادية والمدينة، والإقليم والقبيلة حينما نجح في مزج التمدن بالعراقة والتحضر بالأصالة بطريقة استثنائية.... نعم ... عرفت مدينة (طريف) السينما في التابلاين قبل مدن الخليج العربي التي يهتز لها العالم طربا اليوم، وشاهدت قناة التابلاين وأفلامها وبرامجها الرياضية التي ترسل بثها في وقت كانت تلك المدن يبهرها طنين ووشوشات موجات الراديو، وفيها أجريت العمليات المعقدة في مستشفى التابلاين الذي جعل لكل مواطن هناك ملفات لمتابعة المرضى وتطعيم الأطفال ورعاية البشر في وقت كانت الأمراض والجدري يفتك بالناس، ونظرا لتقدمها الطبي كانت الحالات المرضية تحول إلى طريف وعرعر من بيروت والأردن والرياض وجدة وغيرها من المدن التي تطورت فيما بعد، والأدهى أن مطار طريف وعرعر في تلك الفترة كان إقليميا تقلع منه طائرات الداكوتا إلى بيروت وغيرها من العواصم العربية والأجنبية، مارست طريف وعرعر ورفحاء الرياضة بمختلف أنواعها من جولف ومسابقات رياضية وسباحة أولمبية حينما كان الآخرون يحلمون بركوب الخيل والسباحة في البرك ومجمعات المياه وخير شاهد على ذلك الجيل أن ملعب الجولف في تابلاين رفحاء يعد أكبر ملعب للجولف في الشرق الأوسط آنذاك وآلمتني إزالته فيما بعد حرقا بحجة تكاثر البعوض، تكلم ذلك الجيل اللغة الإنجليزية حينما كانت اللغة الأجنبية ضربا من المستحيلات الأربع، وافتتحت التابلاين في طريف مدرسة حطين ومدرسة للبنات ليشهد التاريخ على أن (طريف) كانت من أوائل المدن التي افتتحت فيها المدارس النموذجية في وقت كانت بعض المناطق يمنع ويحارب تعليم المرأة ويعلم الأطفال مبادئ الهجاء في الكتاتيب وعلى الفوانيس، عرفت طريف الكهرباء وتميزت بشبكة الصرف الصحي التي وصلت كل بيت تقريبا آنذاك، وحفرت ثمانية آبار للماء العذب وكان الناس يردون عليها دونما خوف أو وجل من شيء وركزت على الابتعاث للدراسة في وقت كان الآخرون يحلمون بدخول مدينة ذات كهرباء ويدرسون على طاولة وكرسي.

ذكريات موجعة وحنين مثل صوت ذلك (الصيت) الذي كان كل سكان مدينة طريف يسمعونه بطريقة مميزة فيضبطون ساعاتهم عليه حينما يعلن بداية الدوام وانتهاءه في صورة تؤكد حجم الألم والمرارة التي اغرورقت منه عيون هولندية كانت تشهد على أن السيد جون ماكينجي مدير محطة التابلاين كان موفقا حينما اختار مدينة طريف ليدير من خلالها تلك المحطة العملاقة لاعتدال جوها وصفاء إنسانها، تشهد تلك الدموع على إنسانية السيد ماكينجي حينما عاد لها قبل سنوات ووقف على طلولها وبكى بعد ما سأل عن موظفيه من رجال تلك المدينة واحدا واحدا ولم يتمالك نفسه فأجهش بالبكاء وهو يغادرها على بوابة الطائرة بعد التفاتة الوداع الأخير، كان صادقا لأنه وضع صورهم على صفحة موقعه الإلكتروني بعدما عاد إلى بلاده، وذكر أنه ذهل تماما بعدما رأى كل عامر وقد تهدم وكل منجز وقد أزيل وكل شامخ وقد سوي بالتراب، واجتثت جذوع الأشجار الباذخة ومسحت تلك المسطحات الخضراء، التي كانت تحيط بالكانتين (سوبر ماركت)، وكانت المطاعم التي عرفنا من خلالها الدجاج المحمر والشاي العدني و الهمبرجر قبل أن تعرفه كبريات المدن، أزيل كل شيء وبيع بثمن بخس كخردة لمحلات التشليح، ثم تعاقبت على طريف شركات كبرى بعد ذلك مثل بترومين وسمارك وأرامكو ولكنها لم تقدم للإنسان المستنزف أي خدمة تساعده على التطوير والتمدن والعيش الكريم.

نعم يا مكنجي متّ قبل سنتين... وكنت أكبر شاهد على أن مدينة طريف كانت مهيأة لتولي الريادة في التمدن والتحضر لأن الإنسان هناك لم تزيفه المظاهر البراقة ولم تضربه الحضارة المزعومة في صميم أخلاقياته ومنظوماته القيمية، وكانت كما عرفتها شامخة تلك المدينة بفعل ما توافر لها من مقومات حضارية حقيقية وثقافات لم تكن لكبريات مدن تلك المرحلة، حتى تميزت ببنيتها التحتية، وكانت تلك الأجيال ناجحة لأنها أحست بالتقدير للعمل والوقت والإنسان فأعطت أجمل صور الإنجاز في ظل التعايش مع الغربيين آنذاك حتى بكيتم علينا وبكينا عليكم فأسلم منكم من أسلم واحتفظت ذاكرة تلك الفترة بأجمل التفاصيل عن الإنسان السعودي النبيل والشهم الكريم ومدينته التي تمنح الغرباء دفء التضاريس، وتروي كل من مر بها نبع الحياة، فأي مدينة تلك يا مكنجي وأي بشر كانوا يقطنونها، ولما أقسمت سواعدهم على أن الموت لا يمر من هنا أبدا اختصرت الدنيا كل زغاريد الفرح في عيون أطفالها، وكتبت في سفر الخلود كل حكايات رجالها العظماء الذين أرهقتهم السنون ولكنهم أبوا إلا أن يحطموا بمعاولهم أقسى الصخور، تقلدوا مناصب في التابلاين على بساطتهم وتربعوا على مقاعد المسؤولية على بدواتهم بنجاح، وبنو فأحسنوا البناء وتعاونوا دونما عصبية لبلوغ المنى البعيد على رغم شتاتهم وتفرق قبائلهم حتى أصبحوا أسرة واحدة في مدينة الفضيلة التي كلما مررت بها يا مكنجي أحسست أن مشرطا تولى إزالة جزء من ذاكرتي مع أطلال التابلاين العريق، وتولى مسح آثار أجيال من العطاء ومعجزات الرجال.

أصدقاء غابوا، وأستاذ لا أدري أين هو الآن، ومدرسة سمعت أخيرا من رفع اقتراحا لتغيير اسمها بحجة أن ابن سيناء زنديق، لتثبت السنون أن رياح التغيير ستنال أجزاء من أرواحنا وتاريخ طفولتنا وكأنه حرام على الأيام أن يبقى الجميل جميلا دون تشويه.

أيها السادة ما من أحد منا إلا ويحن لماضيه وتاريخه ومدينته وأهله - وهذه من سمات الوفاء والمروءة- ولكن الأقسى أن يحن المرء إلى شيء عزيز فلا يجد ما يعينه على الذكرى... والله من وراء القصد.

abnthani@hotmail.com
 

يا طريف... حُقَّ لجون ماكينجي أن يبكي أيضا!!!
د. عبدالله بن ثاني

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة