Thursday  07/04/2011/2011 Issue 14070

الخميس 03 جمادى الأول 1432  العدد  14070

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الثقافية

      

لَو أَنَّ قَصْرَكَ يَا ابنَ يُوسُفَ مُمتَلٍ

إِبَرَاً يَضِيقُ بِهَا فِنَاءُ المنزِلِ

وَأَتَاكَ يُوسُفُ يَستَعِيرُكَ إِبْرَةً

لِيَخِيطَ قُدَّ قَمِيصِهِ.. لَم تَفعَلِ!!

ثالثاً - (يستعيرك): والشاعر هنا يكشف عن السبب الذي أتى بيوسف - سواء أكان والد المهجو أم يوسف u؟؟؟؟؟؟؟ - إلى هذا القصر، ويفصح عن الغرض الذي جاء من أجله، وهو أن يستعير من صاحب القصر حاجةً سنعرفها بعد ذلك، لكنني أتوقف عند اختيار لفظة (يستعيرك)، هذه اللفظة الدقيقة التي تعبر عن مكنون الشاعر، وتضيف إلى المشهد مبالغة أخرى تتزاحم مع بقية المبالغات فيه.

من المعلوم أنَّ الاستعارة هي الانتفاع بالشيء مع بقاء أصله وعودته إلى صاحبه كما هو بعد الانتفاع منه، وهي في هذا السياق لا تتطلب من المستعير أن يدفع ثمناً مقابل هذا الانتفاع، وهذا المفهوم يختلف عن مفهوم (الشراء) الذي لا يمكن معه الانتفاع بالشيء إلا بعد دفع ثمنه، كما أنه يختلف عن مفهوم (الصدقة) أو (الهدية) التي لا تتطلب ثمناً للانتفاع بها، لكن الأصل حينها لا يعود إلى صاحبه.

إذن فاختيار الشاعر للاستعارة هنا مقصود متعمد، والعدول عن الشراء أو الهدية والصدقة مقصود متعمد كذلك، أما لماذا؟ فإليك التوضيح في هاتين النقطتين:

أ - أما عدوله عن (الشراء) فلأن الشاعر هنا يصف قدوم هذا المسكين يوسف وهو يرزح تحت وطأة الفقر والحاجة، وبالتالي لن يكون معه مال لشراء ما يحتاجه من هذا البخيل الشحيح، إذن فالاستعارة هنا - باعتبار العدول عن (الشراء) إليها - تصور شدة الفقر وقمة الحاجة لدى يوسف هذا ولذا فقد لجأ إلى الاستعارة.

ب - وأما عدوله عن (الصدقة) أو (الهدية) فلأن الشاعر هنا يصف كذلك هذا المهجو - البخيل - ابن يوسف وغناه الفاحش المصحوب بالبخل الشديد والشح المتناهي، وبالتالي فيوسف الفقير المسكين - وهو يقف أمام عتبات هذا القصر المنيف وقد أتى به فقره المتناهي وحاجته الشديدة - يعلم علم اليقين أن صاحب هذا القصر شخص بخيل قد وصل القمة في التقتير، وبالتالي لا يمكن أن يفكر - ولو مجرد تفكير - أن يطلب منه حاجته باعتبارها هدية أو صدقة؛ لأنَّ هذا البخيل لا يمكن أن يقدم هذه الحاجة دون مقابل، بل ربما يغالي في هذا المقابل، فكيف سيعطيها إلى هذا الفقير - أياً كانت هويته - مجاناً ودون مقابل، إذن فالاستعارة هنا - باعتبار العدول عن (الهدية) أو (الصدقة) إليها - تفصح عن شدة البخل التي وصل إليها هذا المهجو إلى الدرجة التي اُشتهر فيها أمره بين الناس؛ ولذلك لم يُقدِم هذا الفقير على طلب حاجته باعتبارها هدية أو صدقة لأنه يعلم أنَّ قبول هذا البخيل لهذا الطلب بهذا الشكل يُعدُّ من سابع المستحيلات!.

إذن فالاستعارة هنا تتوسط مفهومي الشراء والصدقة، الشراء يتطلب ثمناً لا يملكه يوسف لشدة فقره، والصدقة تتطلب عدم أخذ ثمن مقابلها مع عدم عودتها إلى صاحبها وهو الأمر الذي لا يمكن أن يقبل به هذا البخيل الشحيح أو يفكر فيه؛ لهذا وذاك كان طلب يوسف دقيقاً وحكيماً يراعي كلا الطرفين.

رابعاً: (إبرة): وهنا يتجلى للقارئ الكريم الحاجة التي جاء من أجلها يوسف تحديداً، فما هي سوى إبرة واحدة، وهنا نتوقف قليلاً لنستجلي بعضاً من الدلالات التي يمكن أن نلحظها بعد أن عرفنا حاجة هذا الفقير المسكين:

أ - إفراد هذه الإبرة، فهي إذن إبرة واحدة يطلبها يوسف من هذا البخيل الشحيح.

ب - ما سبق أن ذكرتُه من خصائص هذه المادة (الإبرة) التي جعلت الشاعر يختارها، فهي شيءٌ تافه لا قيمة له، وشيءٌ صغير جداً لا يُقام له وزن.

ج - ثم لا بد أن تلاحظ أيها القارئ العزيز طبيعة مادة هذه الإبرة التي يود يوسف استعارتها من هذا البخيل، فطبيعتها ومادة صنعها لا تقبل أن تتغير أو تتبدل أو يصيبها عطل أو يتسلل إليها فساد، فلو كان الذي سيستعيره يوسف شيئاً ربما يغلب على الظن أنه سيصيبه ما سيؤدي إلى تحول عن حالته أو تبدل أو تغيير أو نقصان ولو كان يسيراً ككتاب مثلاً أو قلم أو رداء، أقول: لو كان يوسف سيستعير شيئاً من ذلك ورفض هذا البخيل لربما - أقول لربما - وجدنا له عذراً في ذلك؛ إذ لا يريد أن يُفسد عليه هذا المستعير غرضه وحاجته، لكن طبيعة الإبرة لا يمكن أن تتغير، حتى إن طريق استخدامها - وذلك عند الخياطة - لا يُتصوَّر معه أن يصيبها شيءٌ من شأنه أن يفسدها ويجعلها غير صالحة للاستخدام، أو حتى أن يمسها أدنى ضرر، مما يجعل العاقل يثق أنها ستعود إليه بعد الانتهاء من استخدامها وكأنها لم تُستخدم، وبالتالي لن يخسر هذا البخيل - فيما لو أعار هذا الفقير هذه الإبرة - شيئاً إطلاقاً.

د - ما يمكن أن تثيره معرفة ماهية هذا الطلب من تساؤلات تبعث الفضول وتستدعي التشويق، فلو كان هذا الفقير قد طلب أكلاً أو شرباً أو كسوةً ونحوها من الأمور التي تُطلب عادةً وتحتاجها النفس البشرية ويُدرك القارئ الكريم معها الغرض من طلبها بدهياً، لاستطعنا أن نتصور أولاً حالة هذا الفقير قبل أن يحصل على مُبتغاه، ونستشعر قمة حاجته التي يريد الشاعر أن يوصلها إلينا، ولعرفنا ثانياً الغرض الذي يريد أن يفعله بهذه الحاجة بعد أن يحصل عليها، ولأحسسنا بعد هذا كله بحجم الفرح والسرور اللذين سيسيطران على نفسه وروحه بعد أن ينتهي من استخدامه، أمَّا وقد طلب يوسف هذا إبرةً واحدة فإن النفس تبقى متيقظة متلهفة لمعرفة الغرض الذي سيفعله بهذه الإبرة الصغيرة التي ليس لها من شأنٍ يُذكر.

هـ - ثم أيها القارئ الكريم لا بُدَّ - وقد عرفت أنه يريد استعارة إبرةٍ واحدةٍ فحسب، وقبل أن تنتقل إلى غرضه من طلبها - أن تستحضر حال هذا المهجو - ابن يوسف التي عرضها الشاعر في البيت الأول، وأبرز ما يجب أن يستحضر ثلاثة أمور - وهي أمور يجب أن تُستحضر دائماً - :

الأول: الثراء الفاحش الذي يتصف به ابن يوسف.

الثاني: امتلاء قصره الفسيح بالإبر، بل إنه قد ضاق بها الفناء من كثرتها.

الثالث: وهو يتعلق بيوسف نفسه، فيجب أن تتذكر أنَّ هذه الإبرة التي يريدها سيأخذها (استعارةً) فقط، أي أنه سيُعيدها إلى صاحبها فور أن ينتهي من استخدامها.

إذن فصاحبنا الفقير يوسف - رغم كل هذا - لا يطلب سوى إبرة واحدة، أجل واحدة فقط فحسب، وفوق هذا فهو لن يأخذها ويتملكها، بل سيعيدها إلى صاحب هذا القصر المنيف الذي لا يحتاجها، بل إنه لن يفكر فيها حتماً، ولن يشعر - أصلاً - بنقصانها أو اختفائها، رغم أنها ستعود إليه عن قريب.

Omar1401@gmail.com
 

(الإبرة والقميص)
من تَجلِّيَات (الكُوميديا) الساخرة في الشعر العربي (3)
عمر بن عبد العزيز المحمود

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة