Monday  11/04/2011/2011 Issue 14074

الأثنين 07 جمادى الأول 1432  العدد  14074

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

الثقافة سلطة سلاحها المعرفة.. وعندما تندلع الثورة يصبح المثقف مشبوهاً، حتى لو صمت سيُحاسب على نواياه المضمرة! فالآخرون يدركون سلطته، ولا حيز لديهم، وقت الأزمات، سوى أن تكون معهم أو فأنت ضدهم!.. فما هو موقف المثقفين من الثورة؟

الإجابة ليست واحدة فالمثقفون أنواع وكذلك الثورات، إلا أن ثمة توجهات عامة شكَّلت موقف المثقفين في تاريخنا الحديث، وهي تكاد تشكل السمة العامة إلى وقتنا الراهن. إذا أخذنا أهم الثورات وهي الفرنسية وما سبقها كالثورة الإنجليزية، ثم ما تلاها خاصة الروسية والصينية، يمكن أن نميَّز ثلاثة مواقف. الأول والأكثر شيوعاً بين المثقفين هو الطرح اليساري الذي يرى في هذه الثورات وسيلة للتقدم الحتمي للمجتمع نحو الحرية والمساواة، وقد يبرر بعضهم وسائل العنف والاستبداد لتحقيق هذا الغرض.

وعلى النقيض، يأتي الموقف الثاني من المحافظين الذين يرون في الثورة انفعالات جماهيرية فوضوية مدمرة تقود إلى الاستبداد. فممارسات روبسبيير الإرهابية إبان الثورة الفرنسية كانت تطبيقا للنظريات الإنسانية لمونتيسكيو وروسو وفولتير الذين رفضوا الاستعباد الأرستقراطي.. وحُكم لينين وستالين الدموي كان تطبيقاً للاشتراكية العلمية لماركس وإنجلز اللذين تمردا على الاستبداد البرجوازي!

أما الموقف الثالث فهو المنتشر بين الأكاديميين والعلمويين، ويمكن اعتباره لا موقف، لأنه يصف ويحلل ويفسر دون اتخاذ موقف قيمي، ويرى أن مصطلح «الثورة» ذو دلالة وصفية وليست قيمية، فالثورة تغير فجائي يحمل في طياته قيماً متفاوتة أو متناقضة، تقدمية أو رجعية. نمطياً، يشمل نموذج الثورة مراحل تبدأ الأولى بالهيجان الفكري والسياسي مسببة انهيار النظام القديم، ثم أزمة سياسة طاحنة تؤدي إلى ظهور قيادة يسارية متطرفة، يتلوها ضمور اليسار وتوطيد السلطة على يد حزب قوي ذي قوة عسكرية ثم أخيراً عودة الاستقرار السياسي. وعودة الاستقرار تكون إما برجوع النظام القديم ممزوجاً بإصلاحات دستورية كبيرة، كما في الثورة البرجوازية في بريطانيا وفرنسا، أو بنشوء نظام جديد كما في الثورة الشيوعية في روسيا والصين.

بعد استتباب النظام للشيوعية الماوية في الصين أصبح أكثر من نصف العالم يتبع النظام الشيوعي، وبدأت تتفرخ الثورات اليسارية في أرجاء العالم الثالث، وأخذت الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي تتصاعد حتى بلغت ذروتها في أواخر ستينات القرن العشرين. وقتئذ صارت فرنسا مسرحا ثقافياً ممثلاً لهذه الحرب عبر معاركها الفكرية التي اندلعت بين الليبرالية والشيوعية، وبلغت الثورة الثقافية في فرنسا أوج مدَّها اليساري، وصار المثقفون وعلى رأسهم سارتر راديكاليين، وصارت اليسارية يافطة للمثقفين في العالم قاطبة. آنذاك، دعا سارتر لإنشاء المحاكم الشعبية لمواجهة المحاكم البرجوازية. ولكي يتفوق عليه منافسه ميشيل فوكو فقد دافع عن «العدالة الشعبية» من دون حتى محاكم!!

من هنا شنَّ الفيلسوف المحافظ والمؤرخ الفرنسي المشهور ريموند آرون هجوما عنيفا على المثقفين في كتابه معتبراً الثورة «أفيون المثقفين» على غرار مقولة ماركس «الدين أفيون الشعوب». إذ يرى آرون أنه إذا كانت الماركسية تدَّعي أن الدين يعد الناس بالجنة في الآخرة ويلهيهم عن الحياة الدنيوية، فإن الشيوعية تعد الناس وعداً خيالياً بالجنة على الأرض، وفي سبيل ذلك فهي تبرر العنف والتدمير بمنطق الغاية تبرر الوسيلة. لذا حذر آرون من خطر المثقفين الرادكاليين الذين ينطلقون بقفزات جامحة في الخيال السياسي من أجل فكرة سامية. تلخيصا لهذا الصراع الفكري للخمسين سنة الماضية، طرح فيردخ هايك فكرته قائلاً: «المسافة بين عقلانية فكرة سامية والخيال مجرد خطوة واحدة». الفرق بين الواقعي والخيالي هو في صورة من الصور الفرق بين النظام السياسي والمثقفين، فالسياسي مشغول بالأهداف المباشرة، بينما المثقف مشغول بالغايات الإنسانية الكبرى؛ النظام السياسي يبحث في البرامج عن الإمكانية بينما المثقف يبحث في البرامج عن الأفضلية، على حد تعبير المفكر الألماني ماكس فيبر.

ورغم هذا الصراع الفكري ظل اليسار محبذاً بين المثقفين، وظل سارتر وأشباهه يمثلون النموذج العالمي للمثقف، فالمثقف ليس مسؤولاً عن نفسه فقط، وإنما مسؤول عن كل البشر، كما يدَّعي سارتر الذي يرى أن المثقف شخص يهتم بأمور لا تعنيه إطلاقاً، فهو فضولي بطبيعته، يتجاوز الالتزام بتخصصه المهني بسبب ما لديه من روح ناقدة. نموذج المثقف السارتري انتقل إلى العالم العربي، «فنحن متأثرون بنموذج المثقف الفرنسي، كمثقف عام، له رأي في كل القضايا المهمة والكبيرة»، كما يقول المفكر العربي صادق جلال العظم.

حسناً، ما هو موقف المثقف العربي من الثورة المصرية باعتبارها الأكبر في التاريخ العربي الحديث؟ إذا أخذنا في الاعتبار طرح فيبر عن الإمكانية والأفضلية، وتأثير سارتر المبدئي، ومفهوم جرامشي للمثقف كناشط عضوي يرتبط بطبقة اجتماعية وينشر وعيها وتصوّرها عن العالم؛ فإن المثقف العربي، إجمالا، قد تخلف عن المرحلة التي طالما انتظرها، ولم يمارس دوره على الأقل كشاهد عيان لمرحلة ثورية نادرة يجتازها العالم العربي هي الأخطر منذ قرون. لقد كان مضطراً أن يجامل من أجل لقمة العيش ورفاهية أبنائه، تحت رقابة أعين الاستبداد.. محاصراً بكوابيس التخوين والتكفير.. وأقسى ما يخشاه تهمة مجانية تأتيه كرصاصة طائشة من مثقف آخر انتهازي يتربص بالجوائز.. ألم يقل المثقف النازي جوزيف جوبلز عندما أصبح وزير إعلام هتلر: كلما سمعتُ كلمة مثقف تحسست مسدسي!؟

من أول التاريخ الفلسفي كان أبو الفلاسفة سقراط ثورياً متمرداً حُكم عليه بالإعدام، فحاول تلميذه المخلص المتألم أفلاطون أن يلوذ ببرج عاج ويحرر الناس من بعيد ببناء جمهورية خيالية.. لكن أرسطو أبو المنطق تنبه إلى جموح خيال أستاذه، وطرح علم السياسة منفصلاً عن الفلسفة وصار معلماً ملهماً للإسكندر المقدوني أحد أعظم القادة الذين ظهروا في التاريخ!

ماذا نرى في كل هذا المشهد المضجَّر بالأفكار المتلاطمة؟ لعلنا لا نرى أكثر من ذلك المثقف الفرنسي الذي كان عضوا في جماعة تل كويل الماوية عندما زارت الصين عام 1974، كان متحمساً مأخوذا بما رأى، لكن لاحقاً عندما تراجع عن الماوية انتقد نظيره الصيني السابق بأنه كان يُظهر فقط الجانب الإيجابي من الشيوعية، فرد عليه الصيني قائلاً: «لقد أظهرنا ما كنت تريد أن ترى!».. ومحمود درويش يصدح شعراً «أرى ما أريد!!»

alhebib@yahoo.com
 

موقف المثقف من الثورة
عبد الرحمن الحبيب

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة