Wednesday  27/04/2011/2011 Issue 14090

الاربعاء 23 جمادى الأول 1432  العدد  14090

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

متابعة

 

دروس من وفاء ناصر المبيريك يرحمه الله

رجوع

 

في فجر تلبدت فيه الغمام بالخير، وأرعدت السحب بعطاء الكريم، وأبرقت السماء بهبات الرحيم وانتعشت الأرض بغيث الواهب الحكيم، فارتوت الأرض، وحيت الزروع، وتفتحت الزهور. في تلك الصبيحة المباركة من يوم الجمعة المبارك 11-05-1432 اختار المولى القدير عبده الفقير إلى رضوانه ذلك الرجل الشهم والجبل الأشم رجل المواقف ورمز الوفاء الخال الوجيه ناصر المبيريك إلى رحمته وسعة فضله بإذن الله. ومع تباشير ذلك الصباح الذي يوحي بكرم الله ورضاه وعفوه وتجاوزه، بكت لوفاته عيون الأوفياء وأدمى فراقه قلوب المحبين وأحزن فقده الأهل والمقربين. وكأن أديم السماء شاركت المحبين فما فتئت تمطر سحائب الخير والبركة منذ خروج روحه الطاهرة إلى بارئها العفو الكريم حتى روت قبره المهيب بمائها المنهمر مدرارا مرطبة ثراه مطيبة مثواه. إنه الفراق المحتوم والقدر المرسوم الذي قال عنه تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}

هو الموت ما منه ملاذ ومهرب

متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب

سنة الله في خلقه أجمعين لا يترك الموت شابا لشبابه، ولا رجلا لأهله، ولا ولداً لوالده. فكم من بيت دخله؟ وكم من شاب صرعه؟ وكم من وليد يتمه؟ وكم من كهل قصمه؟ وكم من مُلك بدده؟ وكم من شابة رملها؟ وأسرة نثرها؟ وكم قوي أوْهنه؟ وكم من صحيح عاجله؟ {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَآخرونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}

وقال أخاف عادية الليالي

على نفسي وإن ألقى رداها

مشيناها خطاً كتبت علينا

ومن كتبت عليه خطاً مشاها

ومن كانت منيته بأرض

فليس يموت في أرض سواها

وفي عصر ذلك اليوم، يوم الجمعة المبارك، وفي مشهد مهيب وموقف عصيب وزحام شديد تمدد جسده أمام صفوف المصلين وسارت جنازته بين رؤوس المشيعين لوداعه في الدنيا الفانية راجية لقائه في الدار الدائمة. رحل الشيخ ناصر المبيريك فنسأل المولى أن يجعله ممن يرثون الفردوس الأعلى وأن يجمعه الله بمن أحبوه في مستقر رحمته وتحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله. رحل رحمه الله وأبقى لنا سيرته العطرة على كل لسان من عرفه، رحل عنا وترك لنا دروساً من الحكمة والوفاء. كان يرحمه الله شيمته السماحة وسيرته اللطافة مع الحزم. شديد على الأهوال، واثق الحال، صادق المقال. مجلسه منبع للتعلم والحكمة ومصدر لعلوم من نوع آخر. فليس مجلساً للوعظ، وليس مجلساً للحوار المتكلف، والنقاش المبتذل، ولم يكن مجلساً لغيبه الناس ولا النميمة بينهم، بل كان مجلساً ثرياً بالعظات الواقعية، والمواقف البطولية، والحكمة الإنسانية. ولا تخلو رواياته من طرف لطيفة، ومواقف ظريفة تغنيك عن الحديث لساعات أو الكتابة بصفحات وصفحات.

عندما يتحدث تأنس لحديثه، وعندما يروي تأسرك تعبيراته، وعندما يحضر يجلّ حضوره، وعندما يحاور يقنعك رأيه، حتى لا يملك من يتحدث معه إلا احترامه وتقديره. يوجه أبناءه وبناته وذويه بالإشارة، وينتقد بألطف عبارة، ولا يزال لسانه رطبا من ذكر الله في كل حين مردداً في أركان بيته مع طلوع الفجر «لا اله إلا الله» وكان يرحمه الله تاريخاً يتحدث فإذا كان الرواة قد سجلوا تاريخ حائل القديم، فقد كان يرحمه الله حريا بأن يسجل تاريخ حائل في عهد الموحد الملك عبد العزيز طيب الله ثراه إبان إمارة عبد العزيز بن مساعد بن جلوي آل سعود طيب الله ثراه الذي كان من رجال الموحد الكبار الذين شاركوا معه في كل حروبه وساهموا معه في توحيد هذه الدولة وثباتها.

رحل الشيخ ناصر المبيريك وترك لنا أمثلة رائعة من سيرة الوفاء. فقد كان نموذجا فذا في الوفاء لسمو الأمير عبد العزيز بن مساعد بن جلوي أمير حائل والقصيم وصاحب المواقف العظيمة في إرساء وثبات مسيرة الدولة السعودية في عهد الموحد عبد العزيز وأبنائه من بعده رحمهم الله أجمعين. كان الفقيد يذكر سمو الأمير عبد العزيز بن مساعد أكثر من ذكره لوالديه، وكان يراه المثل الأعلى والقدوة الشامخة والرجل الفذ الحكيم. كان مرجعاً في تاريخه وحكمه ومواقفه وقضائه. تعلم منه الحكمة والروية، وتتلمذ في مدرسته شتى علوم الحكمة والسياسة. لازمه منذ صغره كاتبا فمساعدا لوالده فمحاسبا فوزيرا للأمير في شئونه الخاصة. لم أجلس له مجلسا إلا وذكر فيه مواقف وعظات مؤثرة من سيرة الأمير. ولا تمر مناسبة ولا استشهاد إلا كان سموه حاضراً في كلامه. وكان من شدة حبه وإخلاصه للأمير يتمثل دوماً حكمه وآرائه ويردد مراراً أمثاله وأقواله. كان يروي مواقفه مع سموه بكل فخر واعتزاز، ويذكر خدمته بكل عزة وشموخ مستحضرا سيرة والده عبدالرحمن المبيريك وعمه مبارك المبيريك يرحمهما الله أثناء إمارة مبارك المبيريك الثانية عام 1351هـ، وإمارة سمو الأمير عبد الله بن عبد العزيز بن مساعد منذ عام 1366هـ. وحينما كان في منطقة القصيم كان مرجعا للأخبار العالمية والسياسية وذلك بما يصل للإمارة من مطبوعات وصحف لا تتوفر للجميع، حتى إن الشيخ العلامة عبد الرحمن بن حميد يرحمه الله كان يسأله دوما عن الأخبار العالمية ويطلب منه مخلصاً لما يرد في تلك الصحف والمطبوعات من أخبار ومقالات. عمل مع والده في المالية وكتابة المراسلات الخاصة ثم بعد ذلك مسئولا عن البريد والمراسلات مع سمو الأمير عبد العزيز بن مساعد أمير حائل حينذاك في أو آخر الأربعينات الميلادية ثم ملازماً له مسئولاً عن شئونه الخاصة حتى توفي الأمير عبد العزيز بن مساعد بن جلوى طيب الله ثراه عام 1397هـ.

وبفضل متابعته الدائمة للأخبار عبر الأثير حينذاك وما يصلهم من صحف ومطبوعات وبفضل قراءته الدائمة واطلاعه الواسع وملازمة الأمير عبد العزيز بن مساعد اكتسب سعة الأفق وحنكة المواقف والانفتاح المتزن والثقافة المتوازنة فكان من أهل الرأي والمشورة، ولطالما قص عنه المحبون قصصاً كانت مثالاً لأهل حائل ورواية لأجيالها. يلجأ إليه الكثيرون للنصح وينشده العديد من الناس للتخارج من مشكلاتهم الاجتماعية والحقوقية. وكان يروي مواقفه ثم لا ينسى أن يعزو فضلها بعد الله إلى الأمير عبد العزيز بن مساعد فما روى قصة إلا واستدرك فيه دور الأمير إما درساً أو علماً أو حكمة أو استشهاداً. وعندما يروي قصصه معه لا يملك أن تذرف عيناه حزنا على فراقه وحباً له. عجيب أمر هؤلاء الرجال الأفذاذ، فلم يكن الباعث إلى هذا الحب والولاء إلا شيم الوفاء والإخلاص فقد فرقت بينهم السنون وقطعت المنية بينهم الوصل ومع كل ذلك لا يكاد يفتأ بذكره وكأنه أمامه وفي مجلسه. حتى أن أبنه الأكبر حمد الذي لازمه طوال مرضه وتفرغ لخدمته كان يروي عنه أثناء مرضه أنه عندما تغيب عنه الذاكرة ينادي «جهزوا المبآخر وافتحوا الأبواب ابن مساعد بيجي». إنها المحبة الحقيقة التي استنكرها الجاهلون:

{قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ}

{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}

وأحسب أنهم يرجون من الله اللقاء تحت ظل عرشه يوم ينادي المولى القدير فيقول إن المتحابين بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي.

وكما قدم الفقيد في شبابه صوراً مشرقة من الوفاء عوضه الله براً ومكانة من ذوي الفقيد يرحمه الله فكان أصحاب السمو وصاحبات السمو يحفظون له هذا الوفاء ويجلون له ذلك البر. بدءاً بصاحب السمو الأمير عبد الله بن عبد العزيز بن مساعد أمير الحدود الشمالية يحفظه الله الذي كان له أخا وزميلاً وصديقاً في نشاطه وراعياً ومتابعاً ومسانداً له في مرضه. فكان يحفظه الله يسعى جاهداً بالقول والعمل أن يستعيد أبو حمد صحته ويعود إلى حيويته وبهائه. وكان ابنه الآخر صاحب السمو الأمير جلوي بن عبد العزيز بن مساعد حريصاً على الوصل كثير السؤال والزيارة والمتابعة. كما بادلنه صاحبات السمو الوفاء بالوفاء فكن معه في مرضه يوجهن ويدعمن ويسألن ويرعين فكانت صاحبة السمو الأميرة الجوهرة بنت عبد العزيز بن مساعد يحفظها الله تهاتفه يومياً، وتسأل عنه دورياً، وتتابع حالته صحياً، وتوجه برعايته، وتقلق لأمره، وتحزن حزنا كبيراً هي وأخواتها الأميرات مع المعزين في وفاته. وكان لوفاء أحفاده أثراً كبيراً خاصة عندما اصطفوا مع أبناء الفقيد وذويه يتقبلون العزاء من المعزين كأنه أبٌ لهم. فما أجمل الوفاء وأثره عند أهل الوفاء.

سأشكر لا أني أجازيك منعماً

بشكري ولكن كي يزاد لك الشكر

وأذكر أياماً لدي اصطنعتها

وآخر ما يبقى على الشاكر الذكر

كما رزقه الله بر أبنائه الكرام حمد ومحمد وعبد الرحمن وعبد العزيز الذين لم يعتادوا أن يروا ذلك الجيل الأشم في حاجة أحد قط حتى أعياه المرض فلتفوا حوله بلباقة وتسابقوا لخدمته ورعايته بحساسية تدرك شموخ الكبار وعزتهم. ثم بناته الكريمات نورة وطريف وموضى وسارة ووفاء اللاتي كنّا نعم المعين لوالدتهم في معاناتها ولوالدهم في مرضه ورعايته، وما يرجى من أمثالهم بعد وفاته أكبر. رحمه الله الفقيد رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته

{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.

د. أحمد بن عبد الرحمن الشميمري

 

رجوع

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة