Sunday  01/05/2011/2011 Issue 14094

الأحد 27 جمادى الأول 1432  العدد  14094

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

مدارات شعبية

 

الرواية والرواة ..
جناية الرواية على الشعر النبطي البدوي (1/2)

رجوع

 

كتب - أبو إياس - عبد العزيز القاضي

قالت العرب «الشعر ديوان العرب», أي السجل الذي دوّن أحداثهم وحياتهم الأدبية والاجتماعية, والعرب إلى وقت قريب لا يعرفون من الأجناس الأدبية غير الشعر وعلى وجه الدقة لا يهتمون بغير الشعر وربما كان هذا عائدا إلى طبيعتهم المتأثرة بطبيعة بلادهم وإلى أميّتهم. وأظن أن التطرف المناخي مضافا إليه شظف العيش وقلة ذات اليد, لا يسمحان بالتأمل المترف الذي تقوم عليه الأجناس الأدبية الأخرى كالقصة والرواية والمسرحية وغيرها.

وإذا كانت طبيعة الحياة البدوية البدائية خشنة, تسم الإنسان بسرعة الانفعال والاشتعال وسرعة الانطفاء أيضا, فإن الشعر - في تصوري - خير الأدوات التعبيرية التي تناسب تلك الطبيعة الفسيولوجية للإنسان العربي الذي عاش في الصحراء ورتع في قفارها, وتشرب الحياة من مائها وهوائها وتضاريسها وطقسها. والشعر بدأ تنقله أول ما بدأ (مسموعا) ولم يتحول إلى (المقروء) إلا بعد قرون وتطورات حضارية ضخمة أحدثت تغيرات جذرية في الحياة العربية الاجتماعية والفكرية والثقافية. وقد شهد الشعر العربي حالة من انحسار (المقروء) والعودة إلى حالة (المسموع) في فترات الارتداد والانحسار الثقافي والحضاري في الجزيرة العربية, فكأن (السماع) صار سمة لبدائية الأدوات الثقافية وكأن (القراءة) صارت سمة للتقدم الثقافي.

والسماع يحتاج إلى ذاكرة نقية صافية قادرة على الحفظ, وهي متوافرة في البدوي الذي لم تتعرض فطرته وحواسه لملوثات الحضارة أكثر منها في الحضري الذي استهلكت حواسه تفاصيل الحياة المدنية وضجيجها, وانكسارات الرؤية, وضعف النقاء في الهواء والماء والتراب. والشعر - بخلاف الأجناس الأخرى - يساعد كثيرا على الحفظ لأنه يقوم على مذكِّرات تتمثل في الموسيقى اللفظية المنضبطة في الأوزان و في القوافي ولذلك وعته الذاكرة العربية أكثر مما وعت النصوص الأخرى وخصوصا ما ينتمي منها إلى (الخطابة) وهي الوجه الآخر من عملة الأدب العربي القديم.

ومشكلة السماع أنه - مهما بلغ من الدقة - يظل معرضا للتشويه, ومهما بلغت الذاكرة الإنسانية من القوة تظل ضعيفة جدا أمام ضبط (التدوين) ودقته, فالرواية المسموعة تسير على راحلة شفاهية يقودها اللسان والأذن, ويعيها القلب وتتنقل عبر جموع غفيرة من المهتمين عبر العصور إلى كل مكان, وهذا كفيل بسريان التشويه والتحريف إليها, فليس كل المتلقين على نفس المستوى من الاهتمام والحفظ والضبط, وليس كلهم لديه الوعي بأهمية هذا كله.

وإذا كانت الرواية المغلوطة تجني على الشعر وعلى الشاعر أيضا, فإن أهمية الضبط مطلب مهم ينبغي عدم التساهل فيه, أو التغاضي عنه مهما كانت الاعتبارات والدوافع.

وأظن أن عدم تحري الضبط في الرواية ليس كله غير مقصود بل هناك (عدم ضبط) مقصود للأسف وله أهداف متنوعة ومختلفة من أهمها التلميع, أو إخفاء المخازي, أو التشهير ومحاولة الإضرار بالآخرين والنيل من شخصياتهم وأخلاقهم أو مجرد التملح والانفراد بالروايات الطريفة ولو على حساب الحق والناس وقد ابتُلي بهذه الآفة طائفة من الرواة غير الثقات، وإذا كان التدوين لا يقوم إلا على السماع, فإن هذا يعني أهمية العناية بضبط المسموع والتأكد منه قبل تدوينه بأدوات مناسبة ومحاكمته محاكمة عادلة.

وفي عصر النهضة الثقافية في التاريخ العربي الذي بدأ مع استقرار الحياة في المجتمع الإسلامي والعربي بعد توقف الفتوحات والزحوف الهادفة إلى نشر الدين كان للرواة شأن كبير, وصار الأمراء والكبراء يقربون الرواة ليسمعوا منهم, وكانوا يكافئونهم على ذلك واستغل بعض عديمي الضمير من الرواة هذا الانتعاش الأدبي فأخذوا يختلقون القصائد والأبيات لينحلوها شعراء الجاهلية بدافع التكسب بها عن طريق التفرد بالرواية. ولم يكونوا ينسبون تلك القصائد التي يختلقونها لأنفسهم لأنها تفقد - حينئذ - علامة الجودة وهي الانتماء للعصر الجاهلي المقدس أدبيا. وكاد هذا النهج الوضيع يدمّر الأدب العربي لولا أن قيّض الله لهؤلاء المخربين من فضلاء الرواة والقادة من فطن لحيلتهم ونبَّه على اختلاقهم وكذبهم في الرواية.

والشعر هو الشعر بأي لغة كُتب, فالشعر النبطي في الجزيرة والخليج الذي يمثّل امتدادا طبيعيا للشعر العربي لكن بلغة أهله اليوم, وهي العامية. لا يختلف عن الفصيح في الشكل من حيث اعتماده على الوزن والقافية وفي المحتوى من حيث الاعتماد على الصور والمفردات المختارة والتأثير بالمعاني المطربة, والتنويع بجماليات الأسلوب.

وإذا كانت أقدم الشعر النبطي عُرفت في الفترة الهلالية في القرن السادس أو السابع الهجريين فإنه لم يزدهر ويستقم عوده إلا بعد القرن العاشر الهجري. وقد بدأ بعد أن شابهت ظروف نشأته ظروف نشأة الفصيح من بدائية في الحياة الاجتماعية, وتخلف حضاري, وظلام ثقافي, بداية مماثلة لبداية أصله (الفصيح) من حيث الاعتماد في الحفظ والنشر على الرواية الشفهية.

ولولا التدوين الواعي الأمين الذي بدأ ضعيفا في القرن الثالث عشر الهجري, ثم ازدهر في القرن الرابع عشر, ما وصلنا كثير من الشعر النبطي القديم الذي كان يُردد ويُتناقل شفاهيا.

وأظن أن كثيرا من الشعر النبطي البدوي على وجه التحديد اختفى وانطوى في صفحة النسيان ولم يصلنا منه إلا القليل وأظن أن السبب الرئيس في هذا الضياع يعود بالدرجة الأولى إلى اقتصار حفظه على السماع, على العكس من الشعر الحضري الذي دُوّن كثير من الجيد منه خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين.

لقد كانت حياة البادية حافلة بالأحداث, و لم يصلنا من شعرها القديم إلا القليل, وإذا عرفنا طبيعة الحياة البدوية أدركنا أنها بتلك الظروف تفرز شعرا غزيرا لأن لكل حدث قصيدة أو عدة قصائد, وأظن أن الأحداث الاجتماعية والعسكرية, الفردية والجماعية القبلية في حياة البادية غزيرة, فأين كل تلك الأحداث؟ وأين الشعر الذي سجلها؟ أظن أنه لم يصلنا منها إلا القليل وخصوصا ما سجله الشعر وتناقله الرواة.

إن مكانة الشعر في البادية أصلية لا فرعية, فهو نوع من الأسلحة التي تحارب بها الأعداء وتتفاخر بها عليهم, بل هو المنبر الوحيد للتفاخر بينما هو في الحاضرة فرعي لا أصلي ومظهر من مظاهر الترف والرفاهية, إذا استثنينا الشعر الحربي (العرضة) الذي يمثل طقسا من طقوس الحرب فيها.

 

رجوع

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة