Friday  06/05/2011/2011 Issue 14099

الجمعة 03 جمادىالآخرة 1432  العدد  14099

  
   

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

أفاق اسلامية

 

ثقافة النقد
د. محمد بن إبراهيم الحمد *

رجوع

 

النقد وسيلة كبرى للرقي والنهوض والإبداع؛ فبه تَرْشُد المسيرة، ويبلغُ البنيانُ تمامَهُ، ويعلو شأنُ الأفراد، وتصعد المجتمعات درجات في مراقي السعادة والمجادة.

والذي يَحْسُن التنبيهُ عليه ههنا أمور لا ينبغي أن تغيب عن الذهن حال النقد، سواء من قِبَل الناقد، أو المُنْتَقَدِ، أو المطَّلِع على النقد من عامة الناس.

فمن ذلك أن النقد أشبه بالدواءِ، والدواء يُحتاج فيه إلى عواملَ عِدةٍ كي يَقَعَ موقِعَهُ؛ فيكون ناجعاً مفيداً؛ فلا بد - قبل استعماله - من دقة التشخيص، وتحسس الداء، ومعرفة مقدار ما يستعمل منه، ومدى قابلية المحل الذي يوضع فيه.

ثم إن تلك المهمة تحتاج إلى طبيب حاذق ناصح. فإذا لم تُراعَ تلك الأمورُ كان ضررُ الدواءِ أكثرَ من نفعه.

وكذلك الحال بالنسبة للنقد؛ فلا بد فيه من بصير عاقل يمتلك أدوات النقد، وكيفية استعماله. ثم إنه لا تلازم بين النقد وبين الإسقاط والتجريح، وليس من ضرورة النقد تَتَبُّع المساوئ والمثالب. بل إن التأكيد على المحاسن والمناقب من أهم مهمات النقد.

كما أنه لا يلزم من النقدِ الإساءةُ إلى أهل المُنْتَقَدِ ولا إلى بلده، أو لونه، أو جنسه، أو عرقه، أو هيئته.

وإنما يكون النقد مُنْصَباً على أفكاره، وما يطرحه؛ فالنقد شيء، والطعن شيء آخر.

ثم إن الناقد البصير لا غنى له عن الذوق، وحسن المدخل، ولطف الإشارة، وجمال العبارة؛ فلا يكفي أن يكون لديه معلومةٌ صحيحةٌ لِنَقْدِ أمرٍ يستحق النقد، فيلقيه في أي صورة شاء. بل لا بد أن يُراعِيَ فيه الذوقَ، واللطفَ، وحسنَ التأتي.

ولا يحسن بالإنسان أن تسيطر عليه روح النقد، فيكون سيفاً مصلتاً ينظر إلى الأمور من عين مُغَبَّشَةٍ يعلوها الركام والضباب؛ فتراه بعد ذلك يتكلف النقد، ويبحث عن العيوب، ويبالغ في تتبع السقطات.

كما يحسن بالناقد أن يتجنب في نقده لغة التهوين ولغة التهويل؛ فالأولى تضعف الحق الذي يدعو إليه الناقد، ويدَّعي الدفاع عنه، والثانية تطمس معالم الحق، وتصد عن سبيله.

والحقيقة - كما قيل - تضيع بين التهوين والتهويل.

ويجمل به - أيضاً - أن يراعي أتباع المُنْتَقَد؛ فإنهم إذا رأوا أن متبوعهم أخطأ ورُدَّ عليه بأسلوب راقٍ كان ذلك أدعى لأن يتجنبوا ما وقع به متبوعهم، وأحرى ألا يتعصبوا له، ويقلدوه في الباطل.

بخلاف ما إذا كان أسلوب النقد جارحاً لاذعاً مقذعاً؛ فإن ذلك قد يدعوهم إلى التعصب لمتبوعهم ولو كان مخطئاً.

ثم إنه يحسن بمن تصدى لعمل من الأعمال أن يتسع صدره للنقد، وأن يدرب نفسه على استقبال ما يَرِدُ عليه من ملحوظات، أو تعقبات؛ فالنقد الهادف حياة المجتمعات، والمُنْتَقَدُ يرتفع قدره إذا تَقَبَّل النقد بقبول حسن؛ فذلك دليل سعة صدره، وسلامة قصده، وكِبَر نَفْسِه. أما أصحاب النفوس الصغيرة فلا يرون النقد إلا من زاوية ضيقة، ولا يريدون لأعمالهم إلا أن تقابل بالإعجاب، والإطراء، وكأنها وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

ومن هنا - كما يقول الأستاذ محمد كرد علي - جاء إمساك الناقدين عن النقد النافع؛ لئلا ينزعج المُنْتَقَد عليه، ويتخذَ ناقِدَه عدواً له. والحاصل أن النقد له أدواته، وآدابه، والناقد البصير يعرف كيف ينتقد نقداً بَنَّاءً، والمُنْتَقَد يجمل به أن يحسن التعامل مع النقد، والمتلقي من عامة الجمهور ينبغي له أن يفرِّق بين النقد الهادف، والنقد الهادم؛ فلا يكون إمَّعةً يُسْقِطُ من حسابه كلَّ من فُوِّقَتْ إليه سهامُ النقد.

وبذلك يكون النقد إصلاحاً للأحوال، وارتقاءً بالعقول، ونهوضاً بالآداب والمعارف والثقافة والعلوم.

يقال هذا الكلام لأن فئاماً من الناس يَتَقَحَّمون ميدان النقد، وهم ليسوا في عِيره ولا نفيره، فتراهم يبدون آراءهم في كل صغيرة وكبيرة، سواء في مسائل العلم، أو الأدب، أو السياسة، أو الاقتصاد، أو غيرها؛ فيضعون الناس تحت مِشرحتهم: نقداً، وتفنيداً، وتأييداً دون مراعاة للتخصص، ودون أن تكون لديهم أدوات النقد، وآدابه، ودون أن يكون لديهم قدر عالٍ من العدل، وسعة الصدر، وبعد النظر، وسلامة المقاصد، والرغبة الصادقة في الإصلاح؛ فيكون نقدهم ميداناً للمهاترات، والخصومات، وسبيلاً للتشفي، وذريعة لإسقاط الآخرين:

وإذا الخصمان لم يهتديا

سُنَّةَ البحث عن الحق غبر

ويُقال هذا الكلام - أيضاً - لأن نفراً من الناس يتبرَّمون من النقد، ويُصِمّون آذانهم عن سماعه.

كما أن هناك جمَّاً غفيراً من عامة الجمهور لا يكادون يحتملون أدنى كلمة تقال في أحد من الناس؛ فإما أن يُسقطوا ناقده، أو يسقطوا المُنْتَقَدَ عليه، كما أن منهم نفراً يَدَعون ما هم بصدده من الأعمال النافعة إذا تعرضوا لأدنى نقد يوجه إليهم.

* جامعة القصيم

 

رجوع

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة