Saturday  07/05/2011/2011 Issue 14100

السبت 04 جمادىالآخرة 1432  العدد  14100

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

محليــات

      

" أمينة" من أعز الصديقات اللاتي عشن معي فترة التأسيس للكثير من قيم العمل، والبناء، فقد كانت ترأس مؤسسة تربوية هي الآن واحدة من معالم التعليم الأهلي، ولها مريداتها اللاتي اقتدين بتعليمها وإدارتها،..

هذه "الأمينة"، بقيت أمينة على الصداقة والمعرفة ورفقة السنوات، لم تُنسها الأيام تلك الصباحات الغارقة في شتاء الرياض القارص، أو صيفها الحارق، ونحن نخرج من بيوتنا في اتجاهات مختلفة، لكن أقدامنا كانت تدلف داخل ميادين أعمالنا, وإن اختلفت في مراحلها الدراسية إلا أنها تتماثل في مهنيتها الأدائية، فهي مديرة مدرسة ثانوية, بينما كنت في مقتبل سلم الأكاديمية في الجامعة، وحتى عندما كانت تختلف بنا الأوقات فلا نرى بعضنا لشهور أو أيام، إلا أننا كنا نتلاقى هاتفياً،.. تعرفتها في مناسبة افتتاح مرحلة جديدة في مدرستها دُعيت إليها، فقد كان ديدن الدعوات للحضور أن تتقدمهن الكاتبات، حين كان البريق الأقوى هو للقلم، والدعوات الأولى تكون لحاملاته، ولم تكن المهنية وحدها التي جمعتنا، إذ وجدت من ثم في هذه الأمينة عقلاً نيراً، وعزماً قوياً، وطموحاً تلاقى في بعض جزئياته بطموحي، فتوطدت بيننا المعرفة، ومن ثم الصداقة.. ولعقدين وأكثر، بقينا نتحاور في أي أمر صغر أو كبر، جد أو طوته الأوراق في الشأن التربوي، وغيره، وظلت أمينة لي رمز الأستاذة الأكاديمية حتى بعد أن تركت المدرسة لتصبح زميلة في الجامعة ضمن أعضاء التدريس معنا..

بالأمس "أمينة" تهاتفني من مصر، وهي بلهجتها العذبة، وصوتها الذي بث الزمن فيه تجربته المعتقة, تواصل حواراتها معي في كل أمر،..

فيها أجد الإحساس الصادق بجمال البشر، ومنها أستمد الإحساس الأكيد بسلامة الطوية، ومنها يأتيني الشعور العميق بعذوبة الوفاء، كما أنني فيها أرى امتداد الحياة الجميلة، التي لا ينالها الغرض الخاص، ولا النية الخفية بمس..,

لكنها في آخر ما نقلته لي من أخبار عن جملة من الناس حولها, تعرفهم أو لا تعرفهم، أنهم بدأوا يصابون بالزهايمر، فذلك الأستاذ الذي صال وجال في الجامعات، وتلك التي كانت تدك الأرض من فرط ثقتها في ثقلها العلمي، وكثير من أسماء مشاهير في مصر تخبرني أنهم قد نسوا حتى أنفسهم..،

على أن هذا المرض لا يقتصر في مصر، إذ انتشر في أنحاء الأرض، وأُجريت البحوث عن أسبابه وعوامله، وشغل الطب به، فمنهم من يرده للوراثة, ومنهم من يلحقه بنقص في الغذاء، أو بخلل في نظامه، ومنهم من يضمه لقائمة أسباب المؤثرات النفسية، والصدمات العصبية،.. وهناك من يلحقه بخرف العمر.., وقد أُنشئت له الجمعيات، ومراكز العلاج، ولم يغفل عنه المختصون في المجتمعات البشرية طبياً..

لكنها "أمينة" في نهاية إتيانها على ذكر هذا المرض قالت:

"تعرفين كم أجد في هذا المرض نجاة للإنسان من واقعه، إنه نافذة هروب من براثن كل ما يؤذي مشاعر الطيبين، الجميلين، المسالمين الذين لا يقوون على تحمل كمية الأذى الذي يسببه الإنسان للإنسان"...

أمينة للمرة الأولى تتركني أفكر كثيراً وطويلاً من الوقت في رؤيتها هذه... وفي عبارتها الختامية لهذه الرؤية: "هو هروب مفيش غيره"..

فهل حقاً على الأحياء أن ينشدوا الهروب الذهني من إدراك الواقع المؤلم الذي يعيش فيه الإنسان المعاصر..؟

أم هل الذين يقولون بأن ما يجري على أرض الواقع من حروب أهلية أو سياسة غامضة، أو أحداث مرعبة، أو مواقف متشابكة، أو تداعيات لتراكمات يصدقون بأنها ظواهر صحية لتغيُّرات مستقبلية أكثر انفراجاً لأزمات هذا الإنسان المعاصر؟ فيقللون شيئاً من العتمة التي عمت في واقعه.؟

هذه "الأمينة" ما الذي تريد أن تصل إليه؟

وهذه العتمة إلى متى وتنقشع..؟

على الأقل قبل أن يُصاب السواد الأعظم من الناس بأمراض الهروب..؟

 

لما هو آتٍ
نوع من الهروب "مفيش غيرو"..!
خيرية إبراهيم السقاف

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة