Sunday  08/05/2011/2011 Issue 14101

الأحد 05 جمادىالآخرة 1432  العدد  14101

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

قال أبو عبدالرحمن: كنتُ فرضتُ على نفسي عزلةً علميَّةً نَشَرْتُها في جريدة الجزيرة إلى أن يأذن الله بجلاء الغُمَّة واتضاح النوايا(1)، ولكن استجدَّ حدثٌ أثار اهتمام العالم، وكان موضوع الحديث في كل مجلس، وهو قتل ابن لادن زعيم القاعدة، وكنت أتحاشى الخوض في الحديث وإبداء الرأي فيه مع إلحاح بعض الإخوان على مشاركتي، ولم يكن امتناعي عن المشاركة تَقِيَّة سافلةً أُظهر بها ما لا أُبطن؛ فليس هذا من طبيعتي، وليس هو من عقيدتي الدينية الراسخة، ولكن الحديث الشفهي يكونُ محلَّ مقاطعات، وسرعةِ فهمٍ خاطئ؛ فيذهب واحدٌ إلى أنني مؤيِّدٌ لأعمال القاعدة، ويذهب آخرُ إلى أنني مبتهجٌ بقتل من يصفه كثير من المتحمسين للجهاد الإسلامي بأنه المجاهد الصادق؛ وفي هذا مخالفة للولاء والبراء الذي أوجبه الله على عباده المسلمين؛ وربما قوَّلني ثالثٌ ما لم أقل؛ وبما أن الساكت عن الحق شيطانٌ أخرس فإنني مُبيِّنٌ ما أدين لله به في هذا الموضوع بكتابةٍ مُحرَّرةٍ واضحةٍ لا مجال فيها للتأويل أو التقوُّل عليَّ.. ومسألة قتل الأمريكان لابن لادن حسب البث الإعلامي هو اليقين الثابت، وهو موضوع شكٍّ عند قِلَّةٍ ثم زال ذلك الشك؛ وللدخول في هذه المسألة أحب أن أُقَدِّمَ لذلك بثلاثة أمورٍ من الأصول الشرعيَّة التي لا يجوز التفريط فيها؛ فالأصل الأول (التفريق بين الغاية المشروعة وجوباً والوسيلة المحرمة)، والأصل الثاني (التفريق بين ثبات الجهاد إلى أن يرث الأرض ومن عليها وأنه لم يُنسخ وبين الوقت والحال التي يجب فيها الجهاد)، والأصل الثالث (التفريق بين أحكام الجهاد دفاعاً عن النفس وأحكام الجهاد دعوةً إلى الله)؛ وبناءً على الأصل الأول فمن كانت وسيلته وسيلة أهل القاعدة وفي قرارة قلبه أنه يريد نصرة دين ربِّه فالله سبحانه وتعالى يُحاسبه على ما وقر في قلبه، ويُخاف عليه بقواطع الشريعة من مغبَّات الوسيلة المحرَّمة التي يأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى، ولا يحلُّ لمسلمٍ أن يُكفِّر أو يُفسِّق، ولا أن يجزم بالشهادة في موتٍ على هذا السلوك المحرَّم، كما لا يحلُّ له أن ينفي الشهادة؛ والسرُّ في ذلك التعارض بين الغاية المشروعة والوسيلة المحرَّمة، بل يكل الأمر إلى علام الغيوب سبحانه وتعالى، ويحكم بتحريم السلوك الذي جاء الشرع بتحريمه بقطعيَّةٍ في الدلالة والثبوت.. وأما الأصل الثاني فلا يشكُّ مسلمٌ أن الجهاد بشقَّيه الدِّفاعي والدَّعوي ثابتٌ إلى أنقوم الساعة، وأنه لم يُنسخ.. وأما الجهاد قتالاً فليس له حكم الثبات في كل آن؛ لأن نصوص الشرع متواترة على أن التكليف على حسب القدرة والاستطاعة؛ ولهذا لا ينبغي لطالب علمٍ أن يقول: (إن المراحل التي مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعثه الله إلى أن دخل الناس في دين الله أفواجاً قد نُسِخَ حكمها عن الأمَّة بوجوب الجهاد؛ وبهذا تكون المراحل الأولى من الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والصبر على الأذى والمهادنة مما نُسِخَ بوجوب الجهاد؛ وبهذا أيضاً تنتفي الأُسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم في صبره ومهادنته قبل أن يُويِّدَه الله بالقدرة على القتال دفاعاً وجهاداً عندما جعل الله له دولة تحميه في المدينة المنورة).. أقول: لا يحل هذا القول لأنه خلاف القطعي من الشرع؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم أوجب الله عليه الجهاد بعد صبره وتحمُّله الأذى؛ لأن الله أيَّده بالقدرة على الجهاد.. وأما أمَّته فحكمهم حكمه بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام؛ فهو أسوتهم في الصبر والموادعة وتحمُّل الأذى قبل أن تحصل له القدرة على الجهاد، وهو أسوتهم في وجوب الجهاد حال القدرة.. ودين الله لا يؤخذ من نصٍّ واحد، بل يؤخذ من النصوص مجتمعةً مع مراعاة المقاصد التي استخرجها الاستنباط بقطعية لا احتمال فيها؛ وفي النصوص الشرعية القطعية أن الله لم يكلِّف عبادَه ما لا يُطيقونه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمرٍ فأْتوا منه ما استطعتم)، وأما المقاصد الشرعية فقد أنتجت معادلات دقيقةً أمينة بين المصالح والمفاسد؛ فالمفسدة الكبرى تُستدفع بتحمل الأمة مفسدة صغرى، أو تضحية بمصلحة صغرى أيضاً؛ وبهذه المعادلة حرَّم الله الخروج على الإمام المسلم الذي حصلت له البيعة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم اختياراً أو غلبةً ما لم يروا كفراً بواحاً عليه من الله برهان، وأوجب الله الجهاد معهم والصلاة وتحمُّل الأذى في إنكار المنكر باللسان والبيان لا بشقِّ عصا الطاعة باليد والسنان.. ومن المعادلة تحمُّل المفسدة الصغرى والتضحية بالمصلحة الصغرى لتحقيق المصلحة الكبرى مثلما ضحينا بهما في دفع المفسدة الكبرى.. وأما الأصل الثالث عن الجهاد الدفاعي والجهاد الدعوي فلا ريب أن شرائع الله بإطلاق بدأت بالجهاد الدعوي، وما أذن الله بالجهاد قتالاً، وما أذن الله بقضائه الكوني بمعاقبة من جحد الحقَّ وعانده وامتدَّت يده ولسانه لمن يدعو إلىلله على بصيرة إلا بعد سنين من الدعوة البيانيَّة والصبر على الأذى حسب أعمار الأمم؛ فنوحٌ عليه السلام مكث ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعو إلى الله على بصيرةٍ متحملاً الأذى، ثم جاء قضاءُ الله الكونيِّ باستئصال الظالمين، وهكذا عادٌ وثمودُ وقومُ إبراهيم وأصحابُ مَدْيَنَ والمُؤْتَفِكَاتُ وفرعونُ.. وأمَّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم أقصرُ الأُمم أعماراً، وكانت بعثته ثلاثة وعشرين عاماً أكثرها - وهي ثلاثة عشر عاماً - في الدعوة إلى الله بالبراهين وتفنيد الشُّبَه، وما أَذِنَ الله له بالدفاع حتى كانت له دولةٌ في المدينة المنوَّرة، ثم أَذِنَ الله له بالجهاد المُطلق لمَّا قَوِيَت الدولة، وأَمَرَهُ ربُّه أن يتعامل مع أهل الكتاب تعاملاً كريماً ضامناً لحقوقهم إذا تحقَّق دفعُ عُدوانهم؛ فكانت النتيجة أنَّ الجهادَ القتاليَّ جهادُ دعوةٍ في حقيقته؛ لأنَّه أبقاهم على دينهم بشروطِ ضمانِ حقوقهم ودفعِ عدوانهم، وما أذن الله للمؤمنين بالتحام الصفوف إلا بعد الدعوة البيانية بالبراهين الشرعية تأسيساً بالبرهان للحق، ودفعاً بالبرهان للباطل، وسبق كلَّ ذلك استصلاح المسلمين أنفسهم بأن يكونوا صفاً واحداً على هدفٍ واحدٍ؛ ولهذا أوجَبَتْ سورةُ العصر التواصي بالحقِّ والصَّبْرِ، وأَوْجَبَ عليهم أن يكونوا أولياءَ لبعضهم رحماء، وحرَّم عليم الظلم حتى في الدفاع عن النفس؛ فلا يجوز قتل المستسلم ولا الطفل ولا المرأة ولا الشيخ الكبير إلا من كان في معمعةِ المعركة حاملاً سلاحه.. وأما الجهادُ الدفاعيُّ فقد كان بعد صبرٍ مريرٍ وإخراجٍ من الوطن والدار والمال؛ فكم من مهاجرٍ ترك كلَّ ما وراءه في مكَّة المكرَّمة مهاجراً إلى الله ورسوله مُوَاسَى من إخوانه الأنصار رضي الله عنهم جميعاً.

وبعد الإلمام بهذه الأصول فإنني ألخِّصُ بعض الوقائع والمعادلات في حاضرنا الآن في دائرة الغايات والوسائل، ووجوب الجهاد وتأقيته، والتفريق بين الجهاد الدَّعويِّ والدِّفاعيِّ، وهذا التلخيص في أمور:

أولها: أن المسلم الذي غايته الجمع بين خيري الدنيا والآخرة، وكذلك مَن غايتُه دنيوية غيرةً وطنيَّةً قوميَّة وإن لم يكن همُّه دينياً: كلُّهم متَّفِقُون فكراً ومشتركون ممارسةً على أنهم مستهدفون بظلمٍ شنيعٍ بما مُنُوا به منذ قرن ونيِّفٍ من تجزئةِ بلادهم، واستعمارها استعماراً مباشراً، ثم استعمارهم استعماراً غير مباشر بالتحكم في قرارهم الديني والاقتصادي والثقافي مع ضغوطٍ وإكراهاتٍ وتعاملٍ غيرِ متكافئ في الحقوق؛ بالسيطرة على المواقع الإستراتيجية في بلاد العرب والمسلمين، وبالسيطرة على مواردهم الطبيعية الخام اغتصاباً تارةً وبثمنٍ بخسٍ تارةً؛ فإذا اقتضت الظروف التعامل مع ذوي الموارد بتعاملٍ عادلٍ في الحقوق فنتيجة ذلك استرداد الحق بالثمن المُجْحِف عن طريقين:

أحدهما ما أنتجته مواهبهم من عقابيل التضخُّم الذي تصبح به القيمة الشرائية لمئة دولار تساوي خمسة دولارات قبل التضخم الاقتصادي، وثانيهما جعل أراضي الموارد الخامِّ سوقاً إجبارياً للاستيراد فيما يهمُّ الأمة وفيما لا يهمُّها بأثمانٍ مضاعفة.. وأعظمُ ظلمٍ منحُ يهود بلادَ فلسطين العربية الإسلامية بعد القتل واغتصاب الأراضي والطرد لشعب فلسطين حتى أصبحت البقيَّة منهم بعد عمليَّات الإفناء المروِّعة في شريحةٍ من الأرض التي لا تفي بقليل من مقوِّمات حياتهم، ويهود أعجز ما تكون عن هذا البطش لولا هذا الدَّعم الجماعي من الدول القوية المتنفِّذة الفاعلة التي كان العرب حلفاء لهم في محنة الحرب العالميَّة الثانية.. ثم بهذا التعاون الدولي أصبح هذا الظُّلمُ الصَّارخُ حقاً عادلاً عندهم، بل تجاوز أصحاب اليمين الذين تحولوا إلى سبتيين منطقَ الأديان الإلهيَّة؛ فجعلوا هذا الظلمَ شريعةً من الله جاءت بها رؤيا حزقيال المفتراة على الله.

وثانيها: أن المسلمين على وجه الخصوص كما يؤمنون بأنهم فريسة الدول القوية المتنفذة يؤمنون أيضاً بأن أهل الكتاب الآخرين من النصارى فريسة للصهيونية العالمية التي أنشأها اليهود بمنطقٍ عدوانيٍّ في لاهوتهم المبدَّل، وفي لاهوتهم الطبيعي العدواني مثل التلمود، وهم يرصدون العدوان اليهودي على أهل الكتاب الآخرين بالقتل عدواناً مباشراً منذ القرون الوسطى، ويعلمون قوة مكرهم في صرفهم عن دينهم في مركزيهما شرق أوروبا ووسطها بابتداع ديانةٍ ثالثةٍ لفَّقها يهوديان هما كالفن ولورثر.. ويعلمون علمَ اليقين شدَّة قبضة المفسدين - وهم قلة - على مئات الملايين مِن العالمَيْن الغربيَّيْن، وقد صرَّح بذلك قلَّةٌ مِن الشجعان مثل ما كتبه أحد المفكِّرين الأمريكيِّين في كتابه (لا أحد يجرؤ على الكلام).. لماذا؟.. لأنه بعد سرقة الدين، ومجازرَ ارتُكِبَتْ بحقِّ ذويه في فرنسا وروسيا أصبح القانون العدواني الشهواني هو الذي يحكم السلوك والمعتقد، ومن ابتغى غيره فهو مجرم بمنطق سيادة القانون، ثم قدرتهم على جمع المال بالمراباة والحِرفة وغسيل الأموال بتسويق المحرمات مما أكسبهم القدرة في سيطرتهم على مرافق الحياة ولا سيما البنوك التي استجدت في العصر الحديث؛ فخنقوا الآخرين بالتلاعب بالاقتصاد والقروض الربوية والانغماس فيما يحطِّم النفسَ والعقلَ والجسد، مع الأعمال السرية الرهيبة، وإحكام السيطرة على كراسي الجامعات المتميِّزة، وإحكام السيطرة على الدساتير، وبراعتهم في المحاماة وجمع الأضابير لكل من يُشار إليه بالبنان ليوقعوا به المكيدة وقت الحاجة صدقاً أو تزويراً، والقدرة على الاغتيالات وتكوين جيوش غير نظامية في بلدان ذات جيوش نظامية؛ ولكونهم شُذَّاذ آفاق مُوَزَّعين في الدول فقد استغلوا حقوق المواطنة علناً ووظَّفوها سراً لولاء الصهيونية اليهوديَّة.. وأضف إلى كل ذلك قدرتهم الفكريَّة في خلخلة الفكر البشريِّ بعشراتِ المذاهبِ الفلسفيَّة ومنها ما ينتج بطشاً سياسياً كالماركسيَّة، وقدرتهم أيضاً على الترويج لمفرداتٍ جعلوها ذات قيمةٍ معياريَّةٍ وليست كذلك في الواقع كعداء السَّاميَّة مع أنهم من الخزر وليسوا ساميين، كما أن العداء اللاسامي سيفٌ مسلَّط على كلِّ الدول القويَّة المتنفِّذة؛ لأنَّ العرق الساميَّ فيهم نادر، وإلى هذا الترويج للمفردات أضافوا التزوير للاستعطاف والابتزاز كالمبالغات الكاذبة الهائلة عن محارق الأفراد في ألمانيا التيجُيِّرت بما فيها من صدق وكذب للعرب والمسلمين الذين لا يَدَ لهم في ذلك؛ فإن كانت المسألة مُقاصَّةً فالعدل أن تجعل لهم داراً في ألمانيا.

وثالثها: أن الله ضمن للمسلمين بالنصِّ الشرعيِّ الصحيح أن الله لن يُسَلِّطَ عليهم عدواً مِن سوى أنفسهم، وهذا هو الواقع؛ فهل دُمِّر العرب والمسلمون وظُلموا ونُهبوا إلا بارتداد كثيرٍ مِن أبناء جلدتهم عن دينهم، وقيامهم بأيديولوجيات سُيِّسَتْ لهم من عدوهم؛ فقد بدأ عصر الثورات في عالَمَيْنا العربي والإسلامي منذ سبعين عاماً بأيديولوجيَّاتٍ عدوانيَّةٍ راح ضحيَّتها أرواحٌ بشريَّةٌ كثيرةٌ من العرب والمسلمين، وقليلٌ من هذا مثل هذا الكم لا يذهب في مواجهة عدوان أي عدوٍّ من الخارج لو اتَّحد الصفُّ على الهويَّة التي أَوْرَثَنا الله بها الأرض، وإذن فالتسليط جاء من أبناء جلدتنا الذين مهَّدوا أكثر من سبيلٍ لمواطئ أعدائنا في أراضينا.

ورابعها: أن الغاية الكريمة للدفاع عن النفس والأرض والمال وحرية الدين جاءت بأسلوبٍ ووسيلةٍ يحرِّمها ديننا الإسلامي، ويحرِّمها كلُّ دينٍ إلهيٍّ صحيح قبل أن يُنسخ بالإسلام؛ فوسائل العصر الحديث أنتجت متفجِّراتٍ تُوْدِي بأرواحٍ آمنةٍ مِن أهل الأرض من العرب والمسلمين، وبأرواحٍ مستأمنةٍ وذمَّةُ الله لا تُخْفَر، وأرواح أبرياءٍ مِن الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى والعُبَّاد في المساجد، مع تدمير مرافق الأمة ومنشآتها؛ فأي غايةٍ مشروعة تبيح هذا الظلم الصارخ، وبأيِّ منطقٍ يكون هذا الإجرام جهاداً؟؟!.

وخامسها: أن الضرر لم يكن جزئياً كما مر، بل طوَّق الضرر الأمة كلَّها؛ لأن هذه الأعمال الإجرامية مثل تمرد الطفل أو المستضعف عندما يلقي بصخرة على من هو أقوى منه؛ فكانت النتيجة جلب كل العالم بفكرهم وعواطفهم وسلوكهم لمحاربة كل من كان همه إسلامياً؛ لأن هذا الإجرام صدر ممَّن يدَّعون أنهم سدنة الإسلام.

وسادسها: بهذا المنطق العداوني، وبغلبة منطق القوة على منطق العقل فُرضت المواقع العسكرية الاستراتيجية على منافذ بلاد العرب والمسلمين لمحاربة هذا الإرهاب، وتمادى الأمر حتى أصبحت العراق التي هي ثاني قدرة عربية فلسطيناً ثانية.

وسابعها: بالمنطق التحليلي النفعي، وبالمنطق الأيديولوجي المتخوِّف من قيام دولةٍ للإسلام كان التخطيط لإخضاع العرب والمسلمين وتفتيتهم منذ أكثر من ثلاثة عقود.. أي منذ (إعادة البناء) لغورباتشوف؛ فلما تبنَّى مَن يدَّعون أنهم سدنةُ الإسلام حادثةَ 11 سبتمبر عام 2001م عجَّل المتنفِّذون بتنفيذ مخطَّط تفتيت بلاد المسلمين المسمى تغيير أو تعديل خارطة الشرق الأوسط؛ فتم الأمر في عقدٍ واحدٍ منذ مطلع هذا العام 2011م، وهو عام الفتنة التي نعيشها بعد كارثة العراق؛ فبمنطق محاربة الإرهاب يكون بالعمل على الحيلولة دون قيام دولة إسلامية يُخشى أن تكون دولة قوية.

وثامنها: رسوخ الكره العالمي بلا استثناء للإسلام وللعالم الإسلامي، وخفوت الصوت الإسلامي إعلامياً؛ ليدافع عما افتُرِيَ عليه من وصمة الإرهاب بالصوت الإعلامي الأقوى للعالم المتنفذ الذي يرنُّ في كل أذن؛ لأن شبكات الإعلام تعرض صوراً حيَّةً لدمارٍ مشهودٍ يُنفِّده مسلمون يعلنون الجهاد؛ وهو جهاد باختطاف سائح أجنبي أعزل، أو اختطاف طائرة، أو عمليات انتحارية دُرِّب عليها شبه أطفال ولم يكن ضحيتها غير العرب والمسلمين ومنشآتهم، وقد أعلنت أمريكا - وهي أدقُّ إحصاءً بمواهبها العلمية - أنَّ جمهور ضحايا القاعدة هم العرب والمسلمون ومنشآتهم(2).. حتى حادثة 11 سبتمبر 2001م التي أقنعت القاعدة نفسَها بأنها صاحبة الحول والطول في تنفيذها (وهي فوق قَدَرها): قُبلتْ، قُوبلت بالتصديق والترحيب من الدول الكبرى التي تعلم علم اليقين أن القاعدة بريئة من هذه الدعوى عجزاً لا تورُّعاً.. إن عشراتٍ من الكتب لخبراءَ ومفكِّرين مثل كتاب (الإرهاب الدولي ودور أجهزة المخابرات- براءة العرب والمسلمين) تأليف (أندرياس فوف ميلوف) الرئيس السابق للمخابرات في ألمانيا (وقد عرَّب كتابه الدكتور سيد حسان أحمد)؛ فقد أعلن علمه بالتوثيق المحسوس أن الرموز العربية والإسلامية الوهميَّة هي السبيل لجعل أهل الشرق الأوسط مِشْجباً لحادث 11 سبتمبر من العرب والمسلمين، وهذه الرموز الوهميَّة من أمثال محمد عطا الذي جعلوه قائداً للحدث.. مع علمهم أن هؤلاء غير قادرين؛ وإنما هم على أقل تقدير واجهة عاجزة لمن دبَّر العمل سراً من الصهاينة، مع أن المؤلفين الآخرين بيَّنوا أن هؤلاء اختُطِفوا اختطافاً وبقيتْ جوازاتهم سالمة، ولم يكونوا ضمن رُكَّاب الطائرات الأربع ألبتة، ومفكرو العالم مجمعون على أن فقدان الصندوق الأسود محال، والعجب هو ما سبق الحدث؛ لأن في البرج خمسة وأربعين ألفاً، والضحايا منهم ثلاثة آلاف وليس فيهم غير يهودي واحد قيل: (إنه جاء زائراً مصادفة)، وأحصى الكاتب قائمة الأسماء الخواجية المسجلة الممثِّلة لمن سيركبون الطائرة وليس فيها اسم عربي واحد، وأكد علاقة الموساد الإسرائيلي بهذا التدبير(3)، وقد كُتب عن هذا الحدث فيوض متدفِّقة من الكُتب والمقالات، وأقتضبُ من أهمها ما تمسُّ إليه الحاجة، وممن أكثر في هذا المجال (نعوم تشومسكي) إلا أن له شطحات كقوله: ((في منطقة الخليج - حتى العناصر الغنية والمدنية - يحملون عداء شديداً تجاه سياسة الولايات المتحدةوغالباً ما يُعبِّرون عن دعم هادئ لابن لادن، وهم الذين يكرهون فكرة أنه (أي ابن لادن)(4) يُعبِّر عن ضمير الإسلام))(5).

قال أبو عبد الرحمن: منطقة الخليج عُرْفٌ على ما يقع على ساحل البحر من المنطقة الشرقية من جزيرة العرب، وثِقل هذه المنطقة المملكة العربية السعودية بالاصطلاح السياسي؛ وأما بالعرف الجغرافي فالمملكة العربية السعودية تقع على البحر من ثلاث جهات بينها مسافات شاسعة، ويحدها شمالاً دول عربية كثيرة؛ فهي سُرَّة الأرض بين أشقائها من العرب والمسلمين، وهي أكثر وأكبر من مسمى دولة خليجية، وهي تُحسِن المعادلة، وتقدِّم الجهاد السياسي؛ وليست دولة ثورية تُغرق شعوبها بثورات مضادَّة؛ فيتساقط آلاف الأهالي في سبيل التسابق على كراسيِّ الحكم، والمراهنة على الأيديولوجيات والطائفيات، وَتُهْدَر الأرواح بشعارات لا يتحقق معها إلا تدمير الجهاد السياسي، وهذه المنطقة عموماً تؤمن بأن الولايات المتحدة هي التي رفعت الشعارات الأربعة للحريات، وهي المصدِّرة للديمقراطية بمجملها، وهذه المنطقة أيضاً على علمٍ بوجهي السياسة العالمية أيديولوجياً وتحليلياً، وهي أيضاً منطقة الاتزان السياسي من جهة، ومنطقة التلاحم بين قيادتها وشعوبها من جهة أخرى؛ وإنما حصل الكدر من عاملين أولهما مكيدة الطائفية الأقلية التي ولاؤها لغير الدين والوطن والأمة، وثانيهما تحوُّل الجهاد المشروع ضد التغلغل الماركسي المخوف منه في أفغانستان إلى أعمال عدوانية غير مشروعة تستبيح الدماء المعصومة من المسلمين والمستأمنين، وتستبيح تدمير منشآت الأمة وقدراتها، ووراء هذا اختراق عالمي وبدعي مخالف لسياسة الإسلام في السلم والحرب، ولم يصطلِ نار هذه الفتنة مثل المملكة العربية السعودية التي أخذت بجدارة صفة (قاهرة الإرهاب)، وقد كشفت مواجهتُها للإرهاب عن عناصر أجنبية، وعناصر من العالم العربي والإسلامي، وعن صِبْيَةٍ مُغَرَّرٍ بهم من المملكة نفسها، ومنهم مَن بلغ منتصف العمر بعد التغرير.. وكانت المملكة حكومة وشعباً ذات رخاء في بناء المعاهد والمعابد في العالم الإسلامي، ومواسات المسلمين مادياً، وهذا دعم إنساني إسلامي سلمي، وليس دعماً حربياً؛ فلما استُغِلَّت هذه المساعدات للإرهاب تضرَّر المسلمون في السعودية حكومة وشعباً وجدانياً؛ إذْ حال بينهم الإرهابيون وبين الدعم الخيري السلمي؛ فكيف ساغ للكاتب نعوم تشومسكي أن يدرج منطقة الخليج في سياق الدعم للقاعدة؛ وبهذا الاتزان بهيمنة منطق المعادلة الإسلامية الكريمة كان الاتِّزان أميز في المملكة العربية السعودية؛ لأنها تحفظ هذا الازان بسياسة حصيفة ذات معادلة دقيقة بين المنافع والمضار، ولا تحارب ولا ترفض الديمقراطية بإجمال، وتناضل سياسياً عن قبولها أيضاً بإجمال؛ فهي ديمقراطية يتولى قيادتها العالم المتنفِّذ ترغيباً وترهيباً؛ فبادرت السعودية بإعادة تشكيل مجلس الشورى - كيفيةً لا وجوداً - بما تقتضيه المتغيِّرات، وكان أعضاء مجلس الشورى على كثرتهم أصواتاً ممثِّلة لكل شرائح المجتمع السعودي، وكان القادة جهة تنفيذٍ أمينة لما عليه إجماع المجلس حسب القدرة مبادرَةً أو جَدْولة.. وفُتح مجال الحوار الوطني، ولا تزال هذه المملكة ترحب بكل مبادرات الدول المتنفِّذة في مظلة مجلس الأمن فكراً وممارسة مادام الأمر صادراً عن مرحمة إنسانية لخدمة الشعوب المستضعفة؛ وإنما تتألم وتتحفظ إن كان وراء ذلك استحواذٌ فكري يهدم هوية الأمة، أو تقسيم لأرضها، أو طمع في منافعها عن غير طريق تبادل المنافع والتعامل العادل كما هو في عقود البيع والشراء تصديراً أو توريداً.. وحرية إبداء الرأي كانت موجودة في إدلاء زعماء القبائل والبلدان والمشايخ في مجالس ولاة الأمر بشكلٍ روتينيٍّ وبشكلٍ عاجلٍ عند الملمَّات، وكان الأمر مشورة؛ فلما كثرت المتغيرات، ووجد مجلس الشورى بشكله القائم الآن، ووجد الحوار الوطني: كان الأمر مشورة واستشارة تطوعية، وصيغ المجلس إذا جُدْوِلَتْ فهي عَن تحرٍّ من الأعضاء في التخطيط للمستقبل.. ولقصور الرؤية سابقاً كانت المشورة التطوعية عند النوائب؛ والاستشارة كانت ابتداء من الحاكم، وجاءت المبادرة من الرعية نفسها في رفض المسيرات التظاهرية؛ لأن هذه المسيرات على أحسن وجوه الظن لا تكون إلا مع عِظَم حاجة الأمة عند إمعان القادة في سد آذانهم وإغماض عيونهم عن سماع أو مشاهدة ما يهم الرعية من نوائب، وهذا بحمد الله إن وجد في شعوب تلقَّى قادتها كرسي الحكم إرثاً عن ثورات سابقة فلا يوجد في مجتمعنا السعودي؛ لأن قادتنا لم يأتوا على بضعة دبابات اغتصبوا بها الحكم بدعم خارجي سري، بل كانوا عريقين في الأمة من قرونٍ عروبة ًوديناً، وفوق رؤوسهم آلام أمة وآمالها يقضون على الأول بالآخر في وحدة لا مثيل لها، وشعار الراية، (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وما ورث أحد الحكم إلا ببيعة شرعية على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعروف ضمناً أن هذه البيعة تعني أمراً مسبقاً، وهو أن يكون القائد هو الأجدر، وأن طرق الوقاية والزجر في الجرائم والحدود مقتضىلك البيعة.. هذا هو ما أخذه شعبنا ودولتنا من مجمل الديمقراطية، وبقي الجهاد السياسي العاقل في رفض ما هو غير ديمقراطي بمنطق الدين المعصوم ومنطق العقل الإنساني المشترك الذي تغطشه الشبهات والشهوات، ولو دقَّقْتِ الرُّموزُ الإسلاميَّة في مشارق الأرض ومغاربها النظر لَبَهَرَتْها الدهشة أن تكون هذه المملكة بهذه الصفة (التي هي اتصال لا ينفصم بين الدين والحياة) هي الضحية الأغلبية والهدف للأعمال الإجرامية من قاعدة تدَّعي الجهاد الإسلامي، وكان الأولى أن تكون هذه المملكة هي مرجع المسلمين في منهجها من الناحية التطبيقية للإسلام بروح المعادلة والاتزان والجهاد السياسي.

قال أبو عبدالرحمن: هذه أصول ثلاثة ضرورية، وبعض وقائع تقتضي بيان دور الجهاد الدَّعَوي والدِّفاعي وَفْق المعادلة التي أسلفتها، وهذا ما سأفعله في أسبوع قادمٍ إن شاء الله، وإلى لقاءٍ، والله المستعان سبحانه، وعليه الاتكال.

**************

(1) قال أبو عبدالرحمن: بيَّنتُ كثيراً أن (النيات) جمع قلة، وأن (النوايا) جمع كَثْرة، وقد حكم بعض المعاصرين بأن (النوايا) خطأ لغوي بلا حجة، بل النوايا جمع للنية في الأصل اللغوي، وهو (نوية) مثل (طوية)، وطوية القلب هي نيته.

(2) قال أبو عبدالرحمن: في جريدة الجزيرة العدد 14096 في 29-5-1432هـ أحداث أخرى راح ضحيَّتها مسلمون ومستأمنون ومنشآة للمسلمين في بلادهم.

(3) انظر ص 82 - 85، و188 -193 من الكتاب المذكور.

(4) قال أبو عبدالرحمن: هنا غير مؤكد ولو عن قلة من المواطنين السعوديين؛ وإنما وجد دعم لمن تمسَّحوا باسم الجهاد الدعوي وإذا هم منتمون للقاعدة، وعاملت الدولة السعودية ذلك بصبر وأناة ومتابعة مضنية، ثم أحكمت السيطرة على الشر، وكانت الثمرة من كيد القاعدة تعطَّل وجوه البِرِّ في الخارج.

(5) أحاديث وحوادث قبل وبعد 11 سبتمبر 2001م بترجمة أحمد عبدالحفيظ الحافظ - دار الرضا للنشر بدمشق طبعتهم الأولى عام 2002م ص 68.

 

الخروج من العزلة قسراً
وكتبه لكم: أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري ـ عفا الله عنه ـ

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة