Monday  09/05/2011/2011 Issue 14102

الأثنين 06 جمادىالآخرة 1432  العدد  14102

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

وجهات نظر

 

إنهم يسرقون المستقبل
هشام قربان

رجوع

 

تتراقص أضواء بألوان وأشكال مختلفة في غرفة القيادة الخاصة بسفينة السفر عبر حاجز الزمن، ويتحدث القائد الآلي بكلمات باردة معلناً نهاية الرحلة ومعرفاً بمدينة الوصول: نهنئكم بسلامة الوصول إلى المستقبل، أنتم الآن في العام 2057، واستغرقت رحلتكم عشر ثوان ضوئية، ويتلفت المسافر حوله، فلا يجد إلا جزيرة شاحبة قاحلة تحيطها مياه شديدة الملوحة، وعلى بعد يلحظ الشطآن الرملية خالية من المصطافين، والموج استبدل ضحكات الأطفال بأغنية إيقاعها نشاز وكلماتها كئيبة، وتقطع هذه التأملات لمسات إنسانية من القائد الآلي حين يعتذر عن عدم قدرته أن يتمنى للركاب زيارة هنيئة لعام 2057، ويتأوه القائد الإلكتروني ويتحشرج صوته وتكاد تطفر دموعه الاصطناعية من مكبرات الصوت حين يقول: الوقت الذي انتهت إليكم رحلتكم هو زمن الحصاد المر، ويتجرع أهله الحسرة والألم، ولعلكم تعذرونهم إذا عرفتم السبب!

يتجول المسافر في جهات مختلفة تنتمي لعام 2057، وفي كل زاوية تفزع ناظريه صور قاتمة وشخوص مشنوقة بحبال غليظة قديمة، زمن الحصاد المر هذا بذرت بذوره في الماضي، قبل عدة عقود، وادعى من بذرها أنها بذر لعنب وريحان، ولكن المزارعين في 2057 سرعان ما عرفوا زور الادعاء وزيفه، فما زُرع بالماضي لم يكن إلا شوكاً وعلقماً مراً، ويحاول المسافر تحدي السلبية ويبحث عن صور مشرقة، ولكنه لا يجد إلا صوراً مستقبلية ألوانها باهتة رخيصة قتل كل جمالها في مهده.

إن هذه الصورة المعتمة المخيفة للعام 2057 رسمت خطوطها الرئيسية قبل خمسين سنة بألوان زيتية خفيفة وثقيلة، وتحكي هذه الصورة مأساة لجريمة بشعة، لا سكين فيها ولا دماء ولا أشلاء ممزقة، وكيف لا تكون هذه الجريمة بشعة ونكراء وهي في حقيقتها سرقة للمستقبل واغتيال شمسه قبل فجره، ومن تفاصيل هذه الجريمة أنها خنقت ووأدت كل لام للتعريف في كل المعرفات في الماضي لتولد بعد خمسين عاماً نكرات لا موقع لها من الإعراب المستقبلي فأصبح الوطن مجرد وطن والولاء مفرغاً من روحه والقضية مجرد قضية هامشية. واستمرأ السارق وزادت وقاحته حين أجهض عيد المستقبل وسرق ألوان الفضة الفرحة من كل أهلته، ويالحسرة أهل العام 2057 حينما يكتشفون أن أعيادهم وعيديتهم سرقت قبل نصف قرن من الزمان المهدر.

تشير أصابع الاتهام إلى نون الجماعة، وضمائر أخرى استتر من بقى لديه حياء منها خوف الفضيحة، وتبجح أكثرها بالظهور حين اغتصبوا أمكنة من الإعراب لا تليق بهم فكسروا الصحيح ونصبوا ونهبوا المرفوع للمستقبل، وضنوا على حروف المستقبل وأطفاله فأكلوا وأفنوا كل ثمر الحاضر، حتى بذور المستقبل طحنوها وسرقوا لبها وسر حياتها، ويا لها من فاجعة للمزارع في عام 2057 حين يحصد سنابله الذهبية التي تعب وشقى في بذرها وسقيها، وإذا بالسنابل المنتفخة خاوية لا حب فيها، ويصيح المزارع المفجوع: يا أهل الماضي إن ديننا حُبكم، ولكنكم لا تعرفون الحُب حين سرقتم الحب من سنابلنا، ويفكر المزارع بجوع عياله فيلقى السنابل الجوفاء في مهب رياح اليأس ويسرع إلى ضرع ماشيته ليحلبه، ويا لها من فاجعة تفوق سابقتها حين يدر الضرع دماً وقيحاً وصديداً، أين ذهب الحب والثمر ومن سرق الحليب واللبن؟ ويا لخوف النملة من جوع الشتاء، واستيقظ الأطفال في صباح 2057 وطلبوا الحليب من أمهاتهم، ولكن الحليب اختفى من كل ضرع، وتشير أصابع الاتهام بمزيد من الجرأة، إلى مؤامرة خبيثة بين الذئب والراعي اللذين خططا ونفذا لهذه الجريمة قبل خمسين سنة، فحلبوا كل القطيع الآمن وشربوا الحليب كله هم وأولادهم، ثم توجوا جريمتهم بإفساد كل حلوب، ليت أهل القرية الطيبين اكتشفوا الجريمة في وقتها حينما ضحكوا واستهزأوا بذلك الناصح حين أنذرهم قائلاً: انتبهوا فقد سرق بعض من نأمن كل حليب المستقبل، استهزأوا بالناصح وردوا عليه بالسيمفونية المعتادة والمملولة: نحن بخير وحالنا أفضل من غيرنا!

من قتل المستقبل؟ ومن سرق خيراته وخنق ضحكاته؟ لماذا كل هذه الأنانية المفرطة والاستغراق في شهوة اللحظة الحاضرة؟ أسئلة مؤرقة واستفسارات ملحة تصعب إجابتها، ومحاكمات يستعصى إحضار خصومها ومتهميها وشهودها ليواجهوا ضحاياهم ودموعهم وآلامهم، لقد أصبح المجرمون عظاماً نخرة في قبورهم، فهل يجرؤ أهل المستقبل على نبش المجرم من قبره الذي يعلوه شاهد كلماته زور ومآثره مزيفة وتواريخه مغلوطة؟

إن سرقة المستقبل جريمة لا تغتفر حتى للأموات إذ لا بد أن تكشف مغالطات التاريخ وتعاد محاكمة الأموات لمعاقبتهم وفضحهم، محاكمة تعيد كتابة التاريخ وتصحح الوقائع وتعدل المفاهيم، فإذا ببطل الأمس الزائف يهرب عن قبره القراء والمداحون ومُهدو الثواب ليحل مكانهم أبناء الضحايا وعلى ألسنتهم دعوة مظلوم وشكوى إلى من يسمع الشكوى وينصر من ظلم، وتنزع يد العدالة الإلهية، التي تمهل ولا تهمل، النياشين والأوسمة من صدره المنتفخ ليحل محلها وصمة عار لمجرمين يكتب على جبينهم الخاطئة: هؤلاء أحقر المجرمين لأنهم سرقوا النور: نور المستقبل.

 

رجوع

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة