Tuesday  10/05/2011/2011 Issue 14103

الثلاثاء 07 جمادىالآخرة 1432  العدد  14103

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

«الأدوار المقلوبة» عنوان مقترح لرواية سقوط النظام المصري ومحاكمة وزير داخليته «المخضرم حبيب العادلي» مؤخراً بتهمة جرائم مختلفة من أهمها التربح من المنصب والكسب غير المشروع. فرواية تغيير النظام في مصر تشبه ملحمة درامية ما زالت فصولها تترى أمام أعيننا.....

..... بشكل لم نكن لنصدقه لو لم نشاهده فعلاً وحقيقة، وهي أقرب لكونها حلماً من كونها واقعا، وما زال بعض منا يفرك عينيه غير مصدق ما حدث، ويتشوق لمعرفة الفصل الأخير من انفكاك عقدتها (plot).

ومن الطريف أن بعض أبطال هذه الرواية لهم أسماء روائية بكل المقاييس لما تحمله من طرافة ومفارقة: مبارك، حبيب، نظيف إلى آخر الأسماء، ولعل ألطفها اسم «حبيب العادلي» كاسم لوزير داخلية بمعايير صاحبه، وهو اسم سينمائي رنان، و يدعو للتساؤل إذا ما كان اسما حقيقيا أم اسما فنيا حركيا مثل: «فاتن حمامة»، و»عمر الشريف»، أو «محمود زكي». وهناك إشاعات بأن اسمه الحقيقي «حبيب نزيه العادلي»، وقد تنازل من قبيل التواضع عن لقب «نزيه» حتى لا يجتمع «نزيه» و»نظيف» في حكومة واحدة. واكتفى بحبيب وعادلي، وهو اسم، بلا شك، وضع لغير مسمى، والرجل ليس له من اسمه نصيب، فقد جرت العادة أن يكون اسم وزير الداخلية في بعض الأنظمة من الوزن المخيف المرعب: «علي عنتر»، ، «علي الكيماوي»، «قذاف الدم»، أو «عتريس السجان»، أما حبيب العادلي فيناسب وزير عدل أو قاضي محكمة عليا، أو في أضعف الإيمان مأمور أنكحة على مستوى راق.

وللاسم ذاته، كما هو واضح، علاقة مفارقة بالرواية شبه السريالية وفصولها المشوقة التي تحاط بشخصه، إذا لا بد أن لاسمه دورا جوهريا في توليه هذا المنصب، فلا يمكن أن تجد اسما أكثر ملاءمة للتمويه على الشعب وجعله يتقبل الأدوار التي لعبها معاليه أكثر من هذا الاسم الجميل الذي يجمع بين المحبة والعدل. ولا أجمل منه إلا اسم من عينه محمد وحسني ومبارك، وكأنما الحكومة حازت على جميع الفضائل والشمائل ولو اسمياً فقط. وبكل روح «حبيّه» نقول لمعاليه، «العدل» في مثل روايتك ينطبق على الجميع، ولو دامت لغيرك ما آلت إليك، ومن بنى سجنا لأخيه سجن فيه.

المحكمة التي مثل أمامها صاحبنا «العادلي» محكمة قضائية مستقلة، نزيهة حسب أغلب الظن، و أكثر عدلاً من المحاكم التي نصبها لمحاكمة غيره. والأمر بحبسه اثنتي عشرة سنة بتهمة، التربح من المنصب وغسيل الأموال يعد سابقة في تاريخ محاكمات وزراء الداخلية العرب من حيث الشكل والمضمون أيضا. فالحبيب العادلي يحاكم بتهم خفيفة كان هو الشخص الأول من حيث المسئولية في محاربتها، ولو اتهم مثلاً بالعصيان المدني، أو بتهمة تجاوز صلاحياته من أجل حفظ النظام لربما كان ذلك أكثر انسجاماً مع اسمه ومنصبه.

وقد يقول قائل: إن «عدالته» قد يكون واقعياً حوكم من غير وجه حق، وأمام محكمة غير لائقة عربياً بمركزه. فقد جرت العادة في هذا الجزء من العالم أن يختفي وزير الداخلية بسرية تامة بعد محاكمة لا يعرف عنها إلا قاضيها وجلادها بشكل يضفي على اختفائه نوعا من الغموض البناء، وذلك حفاظاً على هيبته التي بناها، وكاريزميتيه الوحشية التي أسس لها، لتبقى ردحاً من الزمن بعد أن يختفي، و تنتقل مباشرة لمن يخلفه. أو إذا حوكم يحاكم أمام محكمة عسكرية مهيبة خاصة ترفع من شأن خاتمته، تكون هي المدعي، والمحامي، والقاضي، والجلاد، وتحكم عليه بتهم من الوزن الثقيل مثل الخيانة العظمى، أو التآمر لقلب الحكم لأن مثل هذه التهم هي التي تليق بمركز وزير للداخلية ورتبته العسكرية. فتهم مثل استغلال المنصب للتربح، أو غسل الأموال، تهم صغيرة تشكل إهانة شخصية لمقامه.

ثم إن التربح من المنصب لا يشكل تهمة يعاقب عليها النظام في عالمنا العربي. فالمناصب ما وجدت أساساً إلا للتربح، التربح أولاً وخدمة المنصب ثانياً، والإشادة ثالثاً. أليس التربح من المنصب أخير من التخسّر منه؟ وكيف نعرف أن المنصَّب كفؤ وذكي ما لم يُظهر ذلك، ويبرهن عليه بالتربح بشكل عبقري من منصبه. وملابسات القضية أن صاحبنا على الأعم الأغلب لم يكن ذكياً، ولا كفؤاً، وإلا لما تربح من الحصول على أراض بسعر بخس وبيعها لشركات تقيم عليها سكن ضباط بأسعار خيالية، فلوكان ذكياً لكتب الأراضي باسم غيره، قريب، صديق، نسيب، زوجه، حماه، ولكن على ما يبدو لم يكن صاحبنا يثق بأحد. ولو وجهت الأراضي لبناء مدارس، أو أوقاف، أو جمعيات خيرية لابتعدت الشكوك عن وزارته.

الحابس أصبح محبوسا، والجلاد تحول لضحية، وهو يلبس اليوم البدلة الزرقاء التي فصلها لمساجينه. ومن الصدف أن تكون البدلة من جنس الجريمة، فجرائم مثل جرائم صاحبنا العادلي تعد جرائم «ياقات زرقاء» أي جرائم الأغنياء التي تعني السرقة دونما حاجة لذلك، السرقة من أجل البطر أو التسلية. والتربح من أجل التمظهر، ولذلك ألبس بدلة فضفاضة زرقاء، وربما لو استقبل من أمره ما استدبر لأمر بأن تكون بدلة السجن من الساتان الناعم ذي اللون الوردي، ولبادر لتحويل السجن إلى زنزانات خمس نجوم، ولجعل زيارة السجناء مسموحة أربعا وعشرين على سبعة، تتخللها فقرات ترفيهية عن السجناء. لكن قضاء الله يأتي من غير أن نحتسب. فلا شك أنه سيجد زملاء له يسلونه في بدلته الزرقاء ممن سجنهم لنفس الجرائم التي أثبتت في حقه، ويستطيعون تجاذب أطراف الحديث حول أفضل الطرق لغسيل الأموال، وأفضل مساحيق الغسيل التي لا تترك أثرا.

حقيقة أجد «حبيب العادلي» مظلوما لأن التهم التي حبس من أجلها أصبحت عرفاً معتاداً، وشرعاً متعارفا عليه لدى معظم الأنظمة العربية. وهو لم يختلس إلا تسعين مليونا فقط في عموم عقد اللوحات الإرشادية، لم تصل حتى لمستوى إشارات مرورية، أو أجهزة الرقابة، مبلغ زهيد قياساً بحجم مصر، وعلى وجه الخصوص إذا ما كان من بينها لوحات تدعو للحفاظ على النظافة العامة والحرص على عدم غسيل الأموال في الأماكن العامة، لأن شركة «مغاسل العادلي» المحدودة سوف تقدم هذه الخدمات الجليلة نيابة عن عموم الشعب. والمبلغ زهيد جداً مقابل الاكتفاء بتلقي التوجيهات الشفهية غير المكتوبة بقمع الجماهير وإطلاق بلطجية شارع الهرم (عفواً فرسان وجمالة) عليهم. فعلى ما يبدو أن من مهام معالي الوزير أيضا غسيل التوجيهات التي ترد له شفاهة وليس غسل الأموال فقط.

والمبلغ إنما يعكس دنو همة معاليه، فالناس تتكلم عن مليارات، مليارات تحول للخارج مباشرة تحت أسماء مثل إسحاق، وجيكوب، وديفيد، و أسماء أخرى لا يجرؤ أي بنك على الإفصاح عن سريتها، وجميعها هذه الهويات العابرة للقارات صدرت بوثائق شخصية وجوازات من وزارة معاليه، ولكن ربما كان لاسم معاليه إثرة لدى نفسه فأثر الحفاظ عليه مهما كلف ذلك من ثمن. وهو على ما يبدو شخصية «بلدية قوي» لا يعرف طريق البهاما، ولا سمع شيئا عن بنوك بنما، وجزر الكيمان، ولا عن عقارات جورجيا، ومافيا روسيا، ولذلك وزع مبالغه بين مرتبة فراشة وبنوك الزمالك والدقي. وفي الختام نود أن نسجل تعاطفنا مع عدالته المحبوبة بأن نتمنى له إقامة طيبة في اللومان، ونقول له، تكفير وطهور إن شاء الله ، شدة وتزول معاليكم، وندعو لكم بأن تخرجوا أنظف مما دخلتم.

 

«الأدوار المقلوبة»
د.محمد بن عبد الله آل عبد اللطيف

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة