Thursday  12/05/2011/2011 Issue 14105

الخميس 09 جمادىالآخرة 1432  العدد  14105

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

نذكر جميعاً تلك الحكمة المشهورة التي تقول: (العلم في الصغر كالنقش في الحجر)، ونسلم بها كأمر بديهي لا يمارى في صحته أحد. فعقول الصغار طريّة لم تتعبها بعد أعباء ما مضى من سنين العمر ومن تجارب الحياة

وخلايا أدمغتهم نشطة ومتفتحة لتلقّي المعارف وقوية الاستجابة والانفعال لما يستثيرها من نبضات الحواس مما يشبع الفضول أو يمس الوجدان، لكن التلقي وحده لا يحفر المعارف الجديدة في ذهن الصغير، لا سيما أن المقصود بالنقش في الحجر ليس قدرة الذاكرة على الحفظ فقط أي التذكر - بل هو التأثر أيضاً، أي بقاء ما تعلمه الصغير مؤثراً بشكل أو بآخر في نفسه، وعلى اتجاهات حياته فكراً أو سلوكاً. أما الذي يبقي المعارف المكتسبة في ذهن الصغير فهو التجريب والتمرين من خلال التكرار أو التقليد والمحاكاة أو ربط المدروس بالمحسوس أي تمثله حسياً أو اختباره عملياً. ولذلك نلاحظ في طلابنا الصغار أن كماً هائلاً من المعلومات والمعارف التي تحشى بها ذاكرة الطالب حشواً ويتم تلقينها إياه قسراً، دون أن تكون لديه الفسحة الذهنية لاستيعابها أو تمثّلها حسياً، لا يمكث في الذهن إلا بمقدار عمر الفصل الدراسي ثم تذهب دون أن تخلف أثراً. وهذا أيضاً هو الحال -أو بعض الحال- في تعليم شبابنا تعليماً مهنياً أو أكاديمياً. فعلى الرغم من أن التدريب صورة من صور التعليم تؤدي إلى تثبيت المعارف في الذهن، إلا أن كثيراً من مؤسسات التعليم تعطي الاهتمام كله للمنهج والمقررات ودرجات الامتحان. وهذا شيء حسن. أما الرديء فهو النظر إلى الجانب العملي التدريبي في العلوم التي تتطلب التطبيق العملي والتدريب، بقليل من الاهتمام لا يتجاوز بعض الشكليات مثل تسجيل الحضور وإحضار شهادة المشاركة.

ولكن هل تم إجراء التطبيق العملي؟ هل تم التدريب على الوجه الصحيح؟ هل أخذ الكل نصيبهم من التدريب؟ مثل هذه الأسئلة غير المستحبة، لا من المتدربين الذين يرون في التدريب عملاً ثقيلاً زائداً لا يضيف شيئاً إلى ما تم حفظه في المقرر، ولا من المدربين الذين ينظرون إلى التدريب على أنه حمل زائد على أحمال عملهم اليومي لا يلقون من ورائه جزاءً ولا شكوراً. وأما القائمون على التدريس في المعهد أو الكلية فهم لا يعيرون التدريب كل اهتمامهم، لأنه عمل يقوم به غيرهم في مكان غير مكان عملهم وتكفيهم شهادة التقييم من المدرب. ويترتب على هذه النظرة الدونية للتدريب أن بعض المتدربين يعتبره وقتاً للراحة وللخروج من مكان الدراسة. يذكرنا هذا الوضع بالدورات التدريبية التي يطلبها كثير من الموظفين لأغراض لا تمت لهدف الدورة بصلة، مثل الترقية، والابتعاد عن مكان العمل وتغيير الجو... إلخ. لكن الموظف مستقر على أي حال ويمارس وظيفته وليس على أبواب حياة جديدة. أما (المتعلم) فإنه يخاطر بمستقبله المهني إذا تهاون في التطبيقات العملية أو التدريب الميداني، كمثل حالة خريج من أحد المعاهد الصحية الأهلية تعطل تصنيفه المهني كفني تمريض لأن أكثر من لجنة للتصنيف لاحظت ضعف مستواه الفني من الناحية العملية، مع أنه أمضى فترة تدريب الامتياز (ستة أشهر بعد اختبار التخرج) في مستشفى إحدى المحافظات.

أما في أثناء الدراسة نفسها فكان هو ومجموعته يحضرون إلى المستشفى حسب الموعد المحدد لهم وينصرفون كذلك - ولكنهم لا يفعلون شيئاً يذكر غير إثبات الحضور. وبدون التصنيف لا يحصل على وظيفة. لكنه أعطى فرصة أخيرة وتم تصنيفه بعد قضاء فترة تدريب قصيرة في أحد المستشفيات المركزية.

وما هذا المثال إلا نموذج لغيره، فقد شاهد أحد وزراء الصحة ذات زيارة ممرضاً بأحد المستشفيات في قسم الإسعاف يتخبط في محاولة إدخال الإبرة في وريد أحد المرضى مما جعله يسأل مندهشاً عن سبب فشله في المحاولة فأجاب بأنه لم يدرب على ذلك في المعهد. ويقول مسئول بالهيئة السعودية للتخصصات الصحية إن مشكلة مثل هذا الممرض حديث التخرج لا تكمن في كمية ونوع المعلومات الدراسية بل في هزالة التدريب ممارسة وإشرافاً. ويتعجب أحد ملاك المعاهد الصحية من التهاون في تدريب طلابه في بعض المستشفيات الحكومية بحجة أن الأولوية في التدريب هي لطلاب المعاهد (أو الكليات) الحكومية مع أن مؤسسته تدفع مقابل تدريب كل طالب. وهذا بالطبع شيء مؤلم، إذا علمنا أن خريجي المعاهد الصحية الأهلية يمثلون ضعف عدد خريجي المعاهد والكليات الصحية المتوسطة الحكومية خلال السنوات القليلة الماضية.

وإليكم نموذجاً آخر من خارج القطاع الصحي والقطاع الأهلي سمعت عنه من أحد كبار رجال الصناعة الوطنية. وذلك أن كلية الهندسة في جامعة الملك سعود تبعث مجموعة محددة العدد من طلابها للتدريب في أحد المصانع حسب التخصص لمدة ثلاثة أشهر. لكن الطلاب يفاضلون بين المصانع في مدى اهتمامها بالانضباط والجدية، ثم يختارون المصانع المتهاونة التي تمنح التقارير بسخاء. وهكذا تذهب الثلاثة شهور سدى، ولكنها تحتسب دراسياً. صحيح أن التدريب - في حد ذاته - لا يصنع من المتعلم متخصصاً، لا سيما أن ساعات التدريب تقل كثيراً عن ساعات الدراسة نفسها، إلا أن الصحيح أيضاً أنه بالتدريب يتعرف المتعلم - حسياً- على المهنة التي سوف يمارسها، ويبدأ في تجربة المهارات التي عليه أن يتعلمها كي يمارس مهنته.

وهذا التعرف - أو التحسس - يقرب المادة إلى وجدانه، ويبرهن على جديته في التعلّم ويقوى قابليته بعد التخرج لاكتساب الخبرة والالتزام بالضوابط المهنية للممارسة ومتطلباتها. ولا يتحقق شيء من ذلك عند تهميش التدريب.

ومع أن هذا أمر يعرفه الجميع، إلا أن النظرة الدونية لأهمية التدريب ذات حضور بارز في ثقافة مجتمعنا. وأحد الشواهد على ذلك تقبّلنا لأسلوب منح رخص القيادة. حيث تكفي دورة واحدة بالسيارة لاقتناع المدرب بأنك ناجح في اختبار القيادة، دون اعتبار للمهارات المطلوبة في التعامل مع ظروف المرور والطرق والسيارة نفسها. وكل هذا يحتاج لتدريب وإلى وقت أطول من مجرد ساعة من نهار.

لكنها الثقافة المجتمعية التي تستغني بالعنوان (أو الواجهة) عن تمحيص المحتوى. الاستهانة بأهمية التدريب خطأ يقع فيه أيضاً المخططون والتنفيذيون، حيث يتجاهلون صعوبة عملية التدريب وتعقيدها. وفي حين أن الأستاذ يلقي درسه على عشرات الطلاب في وقت واحد ومكان واحد، فإن المدرب يتعامل مع مجموعات صغيرة من الطلاب يعلمهم فرداً فرداً كيف يطبقون ما درسوه بكثير من المشاركة والتركيز وبذل الجهد، وليس بمجرد الاستماع والحفظ. ويتم توزيع الطلاب على مراكز تدريب متعددة وعلى مواقيت متفاوتة تتماشى مع ظروف العمل.

خلاصة الأمر كله أنه ينبغي الرفع من قيمة التدريب وتفعيل دوره في إنجاح عملية التعليم وتحقيق أهدافها من خلال العمل على عدة محاور:

الأول: تجويد محتوى التدريب بما يتوافق مع العملية التعليمية.

الثاني: تهيئة مراكز التدريب بالمقومات المادية والقوى البشرية التي تجعل التدريب ناجحاً.

الثالث: تشجيع المدربين بالحوافز المناسبة على أداء مهمة التدريب بكفاءة وبرحابة صدر.

الرابع: تحفيز المتدربين على المشاركة الإيجابية في أثناء التدريب، وتطوير أسلوب تقييم المتدربين.

وما هذه المحاور إلا عناوين يعرف تفاصيلها المخططون والمختصون، ولكن عليهم أيضاً أن ينفذوها!

 

تعلم المهنة بلا تدريب مثل النقش (في الرمل)
عثمان عبدالعزيز الربيعة

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة