Sunday  15/05/2011/2011 Issue 14108

الأحد 12 جمادىالآخرة 1432  العدد  14108

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

وجهات نظر

 

الكلمة في بناء الوطن
د. فهد بن سعد الماجد

رجوع

 

الكلمة أو الكلام هو: ذلك اللفظ الذي يتحرك به اللسان لكنه- في الحقيقة- هو ذلك المعنى النابع من القلب، كما قال بعضهم: الأفكار الكبيرة إنما تنبع من القلب. ويحدثنا يونس بن عبد الأعلى أنه سأل الشافعي عن مسألة فقال الشافعي: إني لأجد بيانها في قلبي، ولكن ليس ينطق به لساني.

إذن: فالكلمة حروف تعبر عن فكرة، ولذلك قالوا في تعريف الكلام: ما كان مكتفياً بنفسه.

وحين تكون المعادلة هكذا: (الكلمة بناء الوطن)، فمعنى ذلك: أن الكلمة فاعل مؤثر في بناء الوطن بناسه وأفكاره، وحاضره ومستقبله، ومشروعاته وطموحاته.

وقد يكون صحيحاً: أن الحياة لم تشهد - فيما نعرف من تاريخها - مثل حياة هذا اليوم في انتشار الكلمة وذيوع صيتها، فملايين الكلمات تكتب وتقال وتنشر في الكتب والصحف والمنتديات الأدبية والإلكترونية ومنابر الجمع والمؤتمرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

إن النتائج - أحياناً - تبرهن على المبادئ (لا في سياق فلسفة البراجماتزم أو المذهب العملي الذي يقول: إن أهمية المبادئ في نتائجها العملية) ولذلك فهذا الناتج الكلامي الكبير يبرهن على صحة التمييز الفارق ما بين الإنسان والحيوان بميزة « النطق « حين قالوا: الإنسان حيوان ناطق.

لا جرم إذن: أن يكون الإنسان بهذا المستوى الكبير والعالي في إنتاج الألفاظ.

ونحن نعرف أن الله تعالى امتنَّ على الإنسان بنعمة البيان فقال سبحانه:

{خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} فالبيان هبة من الله تعالى، وإذا أحسن الإنسان تدبيره تطوَّر إلى أن يكون موهبة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: « إن من البيان لسحراً « وما بين الهبة والموهبة ميدان واسع يتسابق فيه الناس.

إنه لا حاجة بنا أن ندلل على أن الكلمة هي « الهادي والحادي « لقاطرة الحياة، والهادي هو الذي يكون في مقدمة الناس يرتاد لهم الطريق والحادي: هو الذي يكون في ساقتهم يحدوهم في المسير.

والكلمة تقوم بهاتين المهمتين في آنٍ، فكما أنها تنظِّر وتدعو، فإنها تبارك وتزكي وتستدرك وتصحح، وإذن: فإن لرواد الكلمة في كلِّ أمة - لا سيما المتحضرة منها - ريادة ومكانة حتى قال كارليل عن قيمة» شكسبير» عندهم: إنا معشر الإنجليز نرى شكسبير أثمن لنا من الهند.

ولا يخفى أن أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام هم رواد الكلمة الأول بما أنزل الله عليهم من كتبه ورسالاته، حتى كان خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم وكانت معجزته القرآن الكريم الذي هو في الذروة العليا من البيان والإعجاز.

ولذلك إذا كانت الأمم تحتفي بالكلمة وروادها فنحن المسلمين أحق الناس بذلك، لأن رسالتنا إلى الناس عبارة عن كلمة طيبة.

وفي هذا السياق جاء الأمر الملكي الأخير الخاص بتعديل بعض مواد نظام المطبوعات والنشر؛ حيث كان مستهدفاً (الحفاظ على الكلمة وتحمُّل مسؤوليتها والتحذير من خطورتها على الفرد والجماعة)؛ إذ إن ضرورة أن تؤدي الكلمة أثرها المطلوب في بناء الوطن مشروطة بأن تكون موضوعية في مضمونها وإيجابية في نتائجها، ومتى ما فقدت أحد هذين العنصرين فستكون بالضد من المقصود المصلحي من إطلاقها كتاباً أو خطاباً. وتأتي أهمية هذه التعديلات والمشهد الثقافي السعودي والعربي على سبيل العموم ما زال يعاني (ضعف منهجية الكلمة) إن صح التعبير، وهذا الضعف ليس وليد عصرنا الراهن بل له امتداده لأكثر من قرون، ولقد سجَّل أحد المثقفين العرب شهادته على القرن الماضي، وشهادته تلك ما زالت صالحة للتطبيق حتى في عصرنا الحاضر، فهذا (قسطنطين زريق) يقول في كتابه (الوعي القومي)، وكأنه يتأسف على بعض كتاب عصره، وهو بالمناسبة أحد دعاة القومية العربية: «لسنا نعيش اليوم في عصر ترف عقلي ورفاهية فكرية في عصور الترف والرفاهية. قد يُسمح للكاتب أن يقول: لي الحق أن أكتب ما أريد وأعبر عما في نفسي كما أشاء». ثم يقول: «إن عصرنا عصر أزمة فكرية وضيق عقلي. وكما أنه لا يسمح للناس في زمن الأزمة المالية أن يبذروا أموالهم في سبيل شهواتهم الخاصة وأمورهم التافهة فكذلك يجب ألا يسمح لقادة الفكر في عصر الضيق العقلي والأزمة الفكرية أن يبددوا قواهم على المسائل الطفيفة والأبحاث الجزئية، فعلى كل منا عندما يهم بكتابة مقال أن يتساءل بصراحة: إلى ماذا أرمي؟ أتراني أضيف بمقالي فوضى إلى هذه الفوضى الفكرية التي يتخبط فيها عالمي، وأقذف بعنصر جديد إلى العناصر التي تتطاحن في محيطي، فأزيد فيها بلبلة أمتي واضطرابها الفكري أم أنا أعمل لتوجيه قوى هذه الأمة العقلية نحو فكرة صائبة أو عقيدة واضحة؟ فإذا لم تكن غايته من هذا النوع الأخير فخير له وللأمة أن تظل كلماته مدفونة في نفسه، وأن يبحث له عن طريق آخر يخدم بها أمته ولغته».

وهذا الكلام نقلته بطوله؛ لأنه جيد في موضوعنا وحالتنا، ودليل صدقه على حالتنا الراهنة أيضاً أن عدداً من نقاد الكُتّاب يقرون ذلك ويشهدون الشهادة نفسها؛ ففي كتابه (انتحار المثقفين العرب) يكتب الدكتور محمد جابر الأنصاري أنه: «في الكتابات العربية الحديثة تغلب تصورات الأنا ورغبات الذات وأهواء النفس حتى في النظر إلى الحقيقة والمجتمع والتاريخ والعالَم، ونقل توصيفات الوقائع والحقائق والأرقام، ويغيب حضور الموضوعات مدار البحث بدقائقه المحدودة؛ فنحن ما زلنا نكتب غالباً المقالة الذاتية، ونادراً ما أنجزنا كتابة المقالة الموضوعية التي هي مدخل المعرفة الحقة، أي الحضارة الحقة».

وإذا كان هذا هو الواقع وهذا هو المشهد أو بعضه فما هي الكلمة إذاً التي نريد؟

وإذا آمنا بالكلمة رسالة وأثراً، فإنه لا يكفي ذلك حتى نكون محسنين فيما نقول أدباً وفناً، ولن يتحقق ذلك ما لم توجد لدينا « ثقافة الكلمة «

وتحديد ثقافة الكلمة بمحددات صارمة واضحة يبدو من الصعوبة بمكان، إذ إنها نطاق واسع يتشعب في حقيقته إلى علوم وظروف لكن يمكن أن يقال باختصار: إن الكلمة لن تكون ذات معنى وجدوى حتى تعمق أفكارها، وتتكثف دلالاتها، وهذا العمق والكثافة هو نتيجة اطلاع واسع ليست القراءة إلا إحدى وسائل هذا الاطلاع لا كل الاطلاع، ومن اكتفى بالقراءة فصحيح أن رأسه قد يكون « مكتبة علوم « لكنه بالتأكيد لن يكون ذا كلمة تحمل فكراً رصيناً يساهم في بناء مجتمع عبر إبداع أفكار وإنتاج حلول.

ومتى ما وصل عمق الكلمة إلى مرحلة متقدمة « بلغة الأطباء « فإن: الإدراك القوي يستطيع أن يجد غذاء فكرياً في كل موضوع «بلغة الأدباء.

وأيضاً فإن عمق الكلمة وكثافة مدلولها لا يكفي وحده في ثقافة الكلمة حتى يشايع ذلك ويخالطه حسها ورهافتها، إذ العمق دون إحساس مرهف ربما أدى إلى تصحر الكلمة « بلغة البيئة « ما يجعلها ثقيلة على النفس لا تقبلها ولا تثق بها. وإذا كان عمق الكلمة يستفاد من قوى العقل، فإن رهافتها تستسقى من ملكات الجمال في النفس، وليس صحيحاً - أبداً - أنه يمكن أن يفصل فصلاً تاماً عند أداء الكلمة ما بين الدفق العقلي والشعور النفسي إلا إذا افترضنا أن الإنسان آلة صماء. ولكن الفرق ما بين متكلم وآخر هو القدرة في إحداث التوازن الصحيح بين القوتين النفسية والعقلية، بحيث تصاغ الكلمة صياغة صحيحة ومؤثرة، وقد يكون ما ذكرته هنا هو الأولى بالصواب حيال الآراء التي طرحت في علم النفس والاجتماع والتي ناقشت مسألة: من يقود العالم الأفكار أم العواطف؟ فذهب بعضهم إلى هذا وبعضهم إلى ذاك، وفريق ثالث قال: العالم لا ينقاد لا بالأفكار ولا بالعواطف، بل بالناس، الناس بأفكارهم وعواطفهم وأفعالهم، ونصل من هذا إلى نتيجة: (أن الفعل العقلي لا يحدث في الإنسان دون نصيب من العاطفة وقدر من الإرادة مهما يكن هذا القدر ضئيلاً) وأن افتراض فكرة مجردة من طاقة العاطفة وحرارة الإرادة افتراض ذهني مجرد لا حقيقة له.

وإذا كانت رهافة حس الكلمة ثانية اثنين في ثقافة الكلمة، فإن ثالثتهما رحابة الأفق للكلمة، وهو غير العمق وإن كان التفريق بينهما يحتاج إلى دقة نظر ومراجعة تأمل، إن عمق الكلمة يمكن أن نشرحه بقوة مدلولها ومتانة فكرتها في حدود ذاتها، بينما رحابة أفقها تتصل بأشياء كثيرة تحيط بالكلمة وليس بالضرورة أن ترجع إلى الكلمة نفسها، مثل اعتبار الظرف الذي قيلت فيه، واعتبار المآلات التي تؤدي إليها، وهذا يعبر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية بتعقل الأشياء ويقول: إنه لا يكفي أن تعلمها بل لا بد أن تتعقلها. ويستذكر في ذلك مقولة لأبي الدرداء حين وصف بعض الصحابة وهو شداد بن أوس، فقال: « إن من الناس من يؤتى علماً ولايؤتى حكماً وإن شداد بن أوس ممن أوتي علماً وحكماً « فنلاحظ هنا أن العلم وحده لا يكفي، بل لا بُدَّ من الحكمة التي تسوسه وتحركه وتديره الإدارة الصحيحة، وإذا كان يحي بن أكثم قد قال في القضاء: سياسة القضاء أشد من القضاء. فإن ذلك ينطبق أشد المطابقة على الكلمة فيقال: سياسة الكلمة أشد من الكلمة. فليس الأهم أن تكون كلمتك علمية قوية مؤثرة، بل الأهم أن تساس سياسة حكيمة: تعرف كيف تقول؟ وأين؟ ومتى؟ وهذا ما عنيته بسعة أفق المتكلم كاتباً أو متحدثاً، والذي سيهديه - بإذن الله - إلى الأحق والأصوب.

ومما يساعد على توفر هذه الرحابة للأفق هو الاطلاع الواسع سواء كان هذا الاطلاع اطلاعاً على كتب أو تأمل وتفكر في الآفاق النفسية والكونية، أو حتى الاطلاع على عوائد الناس وتصرفاتهم وأحوالهم وشؤونهم، وفي القرآن الكريم أمر الله عز وجل في غير ما آية بالسير في الأرض وبالتفكر في الآفاق وفي الأنفس.

وكما أن من ابتغى أن يكون ذا صدر واسع منشرح فعليه ألا تزعجه الأقاويل بل يصبر على كل ما قيل، فإن من طمح إلى أن يكون ذا أفق عقلي رحب فعليه ألا يحقر أي كلمة فلربما كانت فيها فكرة لم يُلق عليها ضوء الشمس بعد، ورب فكرة رائدة تأخذها كانت طريحة على الرصيف، كما كان يفعل الشاعر والقاص الإرجنتيني « بورخيس» فقد قال عنه مدوَّن مذكراته « ويليس بارنستون» إنه (كان يلتقط عبارات وحكماً من سائقي التاكسي والخدم والموظفين العاديين بالطريقة التي كان يغرف فيها من صاموئيل جونسون وأوسكار وايلد).

أيضاً: التواصل مع سائر العلوم وإن بطرف يتيح للأفق أن يكون أوسع وأرحب لأن تصور بعض المسائل على الوجه الأكمل قد يتطلب عدة أدوات معرفية ولذلك يقرر الخطيب البغدادي: (أن الفقيه يحتاج أن يتعلق بطرف من معرفة كلِّ شيء من أمور الدنيا والآخرة).

وتواصل العلوم بعضها مع بعض بحيث يدرك المختصون في ذلك الفن مقدار ما وصل إليه المختصون في فن آخر هو دليل رقي حضارة هذا البلد أو ذاك، ففي عام 1978 بثت سفينة الفضاء (فوياجر) صور بقعة حمراء في كوكب المشتري، وقد صدرت بخصوص هذه البقعة عدة نظريات حتى قبل بث هذه الصور منها نظرية « فيض الحمم البركانية « ونظرية» القمر الجديد» ونظرية» البيضة» ونظرية «عمود الغاز» وهنا يروعك الشاعر « جون أبدايك» بوصفه لهذه البقعة وكأنه يساعد العلماء في سبيل الوصول الصحيح لتفسيرها حين قال:

بقعة حمراء كعين متألمة

في اضطراب يهيج الحواجب

وبيت هذا الشاعر يذكرني ببيت لأبي العلاء المعري في قوله:

وسهيل كوجنة الحِبِّ في اللون

وقلب المحب في الخفقان

ثم إنه إذا فقد هذا الأفق الواسع للكلمة فلربما جاءت نتائج الكلمات عكسية لمراد المتكلم من الإصلاح، وقد أنشد المعري في «رسالة الغفران» قول الشاعر:

وسورة علم لم تسدَّد فأصبحت

وما يتمارى أنها سورة الجهل

ومن فقه الإمام الشافعي أنه كان من مذهبه عدم تضمين « الصناع والأجراء « إلا إذا تعدَّوا ومع ذلك فلم يكن يظهر هذه الفتوى مراعاة لمصلحة المجتمع وذلك خشية من «قضاة السوء وأجراء السوء « كما كان يقول.

فهذا هو الفقه الذي يراعي الظروف والأحوال، ويدرس المآلات والنتائج. ومن ثقافة الكلمة أنها ومع قوتها ورهافتها وأفقها، فإنها لا تؤدي مفعولها، أو لا تكون ضمن نسقها الإيجابي المؤثر ما لم تكن وفق « رؤية راسخة ومنهج واضح « وذلك لأن الكلمة التي تصدر وفق منهج ورؤية ثابتة تكون ضمن سياق متكامل له ما قبله وله ما بعده أو بكلمة أخرى يكون لها محيطها الذي تنبت وتعيش فيه بخلاف الكلمة المنبتة التي لا أصل لها ولا فرع فإنها وإن بدت كأحسن ما تكون حرفاً وجرساً فلن تؤتي « ثمرة « إذ لم تكن من « بذرة «. وهذا يبين أن الكلمة لا تكون ذات مفعول جيد ما لم تبن وفق رأي محكم بدقة وتدبير ومراقبة، وإذا فقدت الكلمة منهجها فقد فقدت بوصلتها وستبقى محتارة مضطربة لا تقوى على الرسوخ والثبات كما قال كنفوشيوس:

(من تعلم من غير تفكير فهو في حيرة، ومن فكر من غير تعلم فهو في خطر).

ومتى ما تهيأت للكلمة ثقافتها التي تجعل منها كلمة إيجابية فالبتأكيد أنها ستعمل في « هندسة البناء « فإن الكلمة « البناءة « وعبر العصور تبني جيلاً بعد جيل، وفي ذلك لا أزال أتأمل قوله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.

فهذه الكلمة والتي هي كلمة التوحيد أورثها إبراهيم الخليل عليه السلام ذريته من بعده وإن تعاقبت بهم الأجيال لعلهم يرجعون إليها فتبني منهم ما انهدَّ، وتثبت ما تداعى. وفي قوله « باقية « فائدة مهمة، فإن الكلمة البناءة لا تذهب أدراج الرياح بل تبقى حتى يوجد الرجل الصالح أو الجيل الصالح الذي يقوم بها وتقوم به.

والكلمة البناءة لا تحقق « التأثير فقط « بل تنهج «التعمير» إذ هي تعمر الأنفس والديار.

فهي أولاً: رسول الفكرة ومعبرة عنها ومعبر لها، ولا تكون الفكرة إلا بكلمة، وهي بذلك من تحقق العمل في أرض الواقع كما قال ابن تيمية:» أول الفكرة آخر العمل».

ومن الخطأ أن تحصر وظيفة الكلمة» البناءة» في الوظيفة الناقدة لا الرائدة، وإن كانت الوظيفة الناقدة ضرورية إلا أن الرائدة أعلى وأكمل، ولا تعارض بين وجود الاثنتين، بيد أن الإشكال أن تلغي الناقدة الرائدة، أو تسيطر على ساحة المشروع الثقافي بحيث لا يبقى للأخرى غير وهجٍ يلوح من بعيد.

والكلمة في « مشروع البناء « تكمل النقص وتسدد الخلل، وبدون الكلمة تفقد الأفكار والأعمال فرصة المراجعة والتصحيح، ولذلك كان « الدين النصيحة «.

يضاف إلى ذلك: أن الكلمة إذا توفرت لها ثقافتها، فإنها بلا شك تسل سخائم النفوس وتقرب ما بين الناس وتصنع من المجتمع وحدة متآلفة، وهكذا كانت تصنع كلمات النبي صلى الله عليه وسلم، فأثنى الله تعالى عليه بذلك في قوله سبحانه: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} ولم يقل سبحانه: (ولو لم يكن الحق معك لانفضوا من حولك) حيث إنه لا يكفي أن تكون الكلمة في ذاتها حقيقة وصدقاً، ما لم توزن بما سميناه « ثقافتها « التي تجعل منها كلمة تؤدي مفعولها الإيجابي البناء.

وإذا لم تحقق الكلمة الاجتماع والألفة، بل كانت بضد ذلك سبب فرقة وتنازع في الأمة الواحدة والمجتمع الواحد، فاعلم أنها كلمة لم يتوفر لها شروط الكلمة الهادفة البناءة.

وقد تنبه أبو حامد الغزالي لما سميته بـ « ثقافة الكلمة « حينما قال: -وما أحسن ما قال -: (أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق، أظهروا الحق في معرض التحدي والإذلال).

وإذا كانت الكلمة ستسل سخائم النفوس، فمن الطبيعي أذن أن تتكون النتيجة الثانية وهي: أنها ستبني الجسور وستشد الأواصر، ونحن في مجتمعاتنا البشرية نحتاج لذلك بكل تأكيد، ففي المجتمع الواحد فإنَّ مدَّ الجسور هذا يوفر له قوته وتماسكه الداخلي {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} وفي حال تعدد المجتمعات فإن مدَّ الجسور - أيضاً - ضروري لتحقيق الصالح المشترك بين الطرفين والصالح العام للبشر والله سبحانه يحب الإصلاح ويكره الإفساد، لاسيما وأن عالم اليوم أصبحت مصالحه مترابطة بشكل قوي ومعقدة في نفس الوقت وفي التنزيل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} وقد قيل بحق: العاقل من عرف زمانه. ولنذكر في الارتباط الطردي والعكسي ما بين الكلمة والعمل « أننا كنا عاملين عندما كنا قائلين، وأنه لم توجد قط أمة عرفت كيف تعمل إلا عرفت كذلك كيف تقول «.

ولنذكر دائماً أنَّ العرب الأوائل إنما أخذوا الكلمات المعبرة عن « الكتابة والشكل والرسم والبلاغة والدلالة « من حياتهم كأقوام رعاة وقبائل مترحلة، فالكتابة والشكل بمعنى: القيد. والرسم: أثر خطو الإبل على الرمل. والبلاغة: من الوصول إلى غاية المسير. والفصاحة: من اللبن الفصيح الذي زال رغوه، والدلالة للقافلة كالدلالة للكلام. وفي هذا الاستعمال العربي الأصيل ارتباط قوي وثيق ما بين الكلمة والحياة.

ولاشيءٌ يدوم فكن حديثاً

جميل الذكر فالدنيا حديث

قال جلَّ ذكره: {وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.

الأمين العام لهيئة كبار العلماء

 

رجوع

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة