Monday  16/05/2011/2011 Issue 14109

الأثنين 13 جمادىالآخرة 1432  العدد  14109

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

قال أبو عبدالرحمن: آثرت في المسائل الشائكة أن تكون المداخلة مُحرَّرة مكتوبة خوفاً من سوء الفهم، ولكنني بُليتُ بسوء الفهم فيما هو مكتوب مُحرَّر؛ ذلك أنني في مقالتي (آن للقلم أن لا ينتشر إلى حين) وصفتُ مطلع القرن الحادي والعشرين بالشؤم، وذكرتُ أن مِن منطق (مجمل الديمقراطية) أن يكون حليفَ (حريةِ الجماهير)، وحرية الجماهير في المملكة العربية السعودية هي (ما اقتضته البيعة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم)؛ فوجدتُ تعليقاً لبعض الأحباب في الإنترنت يرى أن تشاؤمي نظرة ضيِّقة، ورأى الخير والبركة فيما نعايشه من ثوراتٍ عربيةٍ محاربةً للمفسدين ومحاكمةً لهم.. وفي سياقه استخفاف بالإيمان القائم على أن ما يجري (فتنة ومؤامرة محاكة)، وهذا في رأيه ليس بالمنطق الواعي!!.. ثم أردف ناقداً بأن رأيي أن (الديمقراطية هي البيعة على الكتاب والسنة)، وهذا ما لم أقله لا بنص صريح ولا بنص مُـحْتمل الدلالة ؛ لأن الديمقراطية في تقريره أن الحكم للشعب أو غالبيتهم وهذا لا أخالفه فيه وجوداً لا حكماً، وطالما أفضتُ في بيان المفهومين الوجودي والحكمي بهذه الجريدة ولاسيما مقالاتي عن (ضرورة الرقابة، وأزمة الثقافة)، ولم أتعرض لهذا في الموضوع الذي ناقشه المحب أبو تميم وابن تميم محمد بن إبراهيم الريحان شريكي في الهموم الظاهرية إن كان متفقاً معي على أن الظاهر الذي أدين لله به أصولٌ قطعيَّةٌ شرعيَّة تحصر فهمَ نصوصِ الشرع المطهَّر في براهين الترجيح الدالة على مراد المتكلم يقيناً أو رجحاناً باشتراط برهان تصحيح من لغة العرب، وباشتراط استحضار النصوص الشرعيَّة في المسألة، واستحضار أوجه الدلالة في لغة العرب، وحضور العقل بكل ملكاته تمييزاً بعد استحضار ما في الذاكرة من تصورات؛ ليحصل (الفهم الفكري العلمي).. وأما ادِّعاءُ ظاهرٍ تقليداً للإمام ابن حزم رحمه الله تعالى أو غيره فهذا لا يحلُّ؛ بل كلُّ دعوى ظاهرٍ يُخالفه مفهوم الشرع ويقين العقل أو رجحانه فهي مردودة على قائلها؛ فالظاهر تأصيل لا تقليد.. وطالما قلتُ: (القياس هو عمل القائس لا برهانه)، والقياس مِن الوسائل لاستظهار البرهان على أن (المقيس) مشمول بحكم (المقيس عليه) أوْ لا يكون مشمولاً.. ولا يكون مشمولاً بحكم المقيس عليه إلا بوجود نصٍّ شرعيٍّ على المعنى، وانتفاء الفارق المعتدِّ به فكراً؛ فإذا جاء مثل الإمام الفحل أبي محمد ابن حزم رحمه الله تعالى وقاس (الوتد) الخشبيالذي هو جماد على (العضو) الذي خلقه الله في الإنسان الحي في مسألة (الاستدبار بالوتد) -وهو الخصم الألد للقياس-: فإننا بالتأصيل الشرعي للظاهر نأبى هذا التناقض، ونرفض هذا التدنِّي في القياس الذي يأباه حذاقه، ويعجب مِن سُخفه من كان حذقهم للقياس وسطاً.. وإذا قال أبو محمد: (لا يأتي الخلق بمعنى المخلوق) قلنا: شرع الله أحق أن يُتَّبع، والحجة في لغة العرب؛ فالخلق جاء بمعنى الفَعْل في قوله تعالى: {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} (سورة الكهف/51).. وجاء بمعنى المفعول بدليل الإشارة في قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} (سورة لقمان/11)، ولا أُحصي في لغة العرب دلالة (الفَعْل) على (المفعول) مثل الحرث بمعنى المحروث في مثل قوله تعالى: {وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ} (سورة الأنعام/ 138)؛ فالمطعوم هو المحروث لا فِعْلُ الحرث.. وهذا عندما يكون المفعول من الفَعْل -أي مشتقاً- وليس اسماً جامداً؛ فالقبر اسم للحفرة ذات اللحد، وهو اسم جامد، ولكن إذا قلت: (قبرت قبراً) فعندنا فعلك للدفن في القبر، وعندنا المقبور وهو الميت؛ فيا أبا تميم -وأنت جلدة بين العين والأنف وإن قاطعتَ وأدبرتَ-، ويا أهل موقع الظاهر: إن كنتم تحبون الإمام أبا محمد ابن حزم رحمه الله فروموا سموَّ الاجتهاد كما فعل هو.. ولو كان التقليد مشروعاً لاتَّبعتُ مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.. هذه ممالحة ومداخلة عاجلة، وأيَّد أبو تميم حفظه الله أن البيعة على الكتاب والسنة للعلماء وأهل الحلِّ والعقد وليست للعامة؛ فبارك الله فيكم ولكم على هذه النقلة الكريمة، وبهذا أضمن أنكم رفضتم مجمل الديمقراطية.. مع أنني لم أتعرض في مقالتي لشروط البيعة.

قال أبو عبدالرحمن: موضوعي ههنا امتداد لما سبق في الأسبوع الماضي عن حديث الساعة (قتل ابن لادن)، وهو دور الجهاد الدَّعَوِيِّ من ثلاثِ زوايا، ثم ما يلي ذلك مِن نتائج ونبوءات؛ وفي كل ذلك جواب ما استشكله أبو تميم حفظه الله؛ فباسم الله ابدأ بموضوع تشاؤمي من أول القرن الحادي والعشرين الذي التحم فيه قتل زعيم القاعدة ابن لادن، وتحييد منطق أهل القاعدة ببداية الثورات، وكلاهما في مَصَبِّ محاربة الإرهاب، وهذا يقتضي بيان أمورٍ كثيرة:

الأمر الأول: أن مبعث التشاؤم طموحٌ إسلاميٌّ لا مُسكِّنات دنيويَّة.

والأمر الثاني: أن الطموح الإسلامي هو ديمقراطيَّة الجماهير، والشرق الأوسط جزء من بلادهم وليس هو كل بلادهم.

والأمر الثالث: أننا نعاني إرهاب القاعدة وإن جاء في سياق الدفاع؛ لأنه أعظم تدمير أصاب الأمة في بلدانها.. ونعاني إرهابَ إسرائيل، ونعاني إرهابَ أغيارٍ وغير أغيار من أبناء جلدتنا زرعهم الأعداء فكانوا عملاء عوناً على الأمة وليسوا عوناً لها، مع مظالم وفسادٍ لا يرضاهما دين ولا منطق، ونعاني إرهاباً بغطاءٍ فكريٍّ زائف، ونعاني ضغوطاً تجلدنا بسياط الإكراه؛ لأنها في مِظَلَّة أسلحة دمار لا نملكها ولا نقدر على مقاومتها.

والأمر الرابع: أن وِفاق العالمين الغربيَّيْن -بالغين المعجمة- على دعم بعض الثورات العربية سينال الأمة منه بعض الخير الدنيوي، وبعض الحرية الدينية في بلاد مرَّت بها حقبة زمنية لم يتمتَّع أهلها بحريَّتهم الدينية في نطاق ممارسة الأفراد.. وثمن كل ذلك جثث القتلى التي لا تُحصى، وتدمير المرافق والمنشآت، وفواتير تسديد عن حماية مدنيين، أو قروض لإصلاح منشآت، وفرض السلام لإسرائيل في حدود عام 1967م بلا مساومة، والضغط على إسرائيل إلى حين أو أحيان بأن لا تعتدي على مَن وراء الجدار العازل، وإقناع الذين وراء الجدار العازل (إن اتفقوا أو اختلفوا) بأن ما وراء الجدار هو حظهم من الأرض، وأنهم سيكونون آمنين ما لم يبدأوا الحِراك؛ وحينئذٍ يكونون إرهابيين، ومحاربة الإرهاب منطق مشروع.. ألا ترى أن منطق (سلام الشرق الأوسط) الذي طرحه نيكسون، ومنطقه هو منطق (جيمي كارتر) وغيره من المتنفِّذين - إلا أن كارتر بتضليل الصهيونية مقتنع (بعد أن كان العهد القديم هو المصدر الرئيس لليمين الذي كان في الأصل أحدياً ثم أصبح سبتياً): بأن حماية إسرائيل وإقامة دولتها وتوسعتها بلاغٌ شرعي - هو سلام إسرائيل؟!.. كان كارتر(1) يريد التعايش السلمي بين الطرفين على واقع الحال لنفوذ إسرائيل في عهده، ويرفض الإخلال بالسلام بزيادة العدوان الإسرائيلي؛ ولهذا أبدى اشمئزازه من (مناحيم بيجن)، وعجب أن يكون مجرمُ الحرب هذا منذ عام 1948م هو رئيسَ دولة إسرائيل.. سمعتُ هذا في المحطات الفضائية التي استعرضتْ شيئاً من مذكرات كارتر التي تبلغ خمسة آلاف ورقة، وعسى أن ترى النور قريباً باللغة العربية.. وأما نيكسون فإليكم منطقه: (وأنا أقول: إن التقديرات تشير إلى اقتراب السكان العرب في إسرائيل من 1.3مليون نسمة بحلول عام 2000م؛ فمن مصلحة إسرائيل أن تكف عن معاملة العرب كمواطنين من الدرجة الثانية.. هاهي فرص تحقيق السلام الدائم في الشرق الأوسط في أوج تألقها منذ نشأت دولة إسرائيل؛ فقد ولَّى عهد الاتحاد السوفييتي العدائي الذي يدعم أعداء إسرائيل من العرب، وحلت مكانه روسيا الديمقراطية التي تدعم العملية السلمية)(2).. وفي الخديعة الكلامية قال عن التعامل مع العالم الإسلامي: (إن إحدى النتائج الإيجابية لمبادرة السلام الجديدة بين إسرائيل وجيرانها العرب هي أنها تحجم، وربما تلغي عاملاً كان له تأثير سلبي على علاقات أمريكا بالبلدان الإسلامية غير العربية من المغرب حتإندونيسيا؛ فقد درج قادة معظم هذه البلدان على إخبارنا سِرَّاً بعدم موافقتهم على السياسات المتطرفة المعادية لإسرائيل التي تنتهجها البلدان العربية المجاورة لإسرائيل.. بيد أنه لم يكن ممكناً من الناحية السياسية فعلُ شيء سوى السير وراء رفاقهم المسلمين في معارضة إسرائيل، وسيعمل السلام العربي الإسرائيلي «بل السلام الإسرائيلي فقط» على تعزيز فرض إنشاء علاقات متطورة بين أمريكا وجميع البلدان الإسلامية.. وحذَّر نفر من المراقبين الحصفاء من بينهم (صاموئيل هنتنغتون) أستاذ جامعة هارفارد: أن الغرب لو أساء إلى العلاقات مع العالم الإسلامي لنشأ احتمالٌ أن يثير تصادمُ الحضارات حفيظةَ الغرب ضد الإسلام، ثم جاءت الصراعات العسكرية الأخيرة لتبرهن (على) صحة هذه الفرضية يوم اشتبك مسلمو البوسنة في يوغسلافيا السابقة مع مسيحيي الصرب في قتال حول السيطرة على البوسنة - الهرسك)، وأما في الاتحاد السوفييتي السابق فقد اصطرع الأرمنيون المسيحيون مع الأذربيجانيين المسلمين حول منطقة (ناغورنو - كراباخ).. وحتى في لبنان تجد الميليشيات المسيحية والمسلمة تتذابحان منذ سنين، وفي آسيا كذلك ترى الفتن الدينية قد ساهمت في إذكاء نار القتال في طاجكستان؛ وإذن يتحتم على أمريكا أن لا تجعل من تصادم الحضارات أن تكون السمةَ السائدة لعهد ما بعد الحرب الباردة؛ فالخطر الحقيقي كما قال (هنتغتون) ليس هو حتمية هذا التصادم، بل لأننا من خلال سكوتنا سنجعلها نبوءة ذاتية التحقق، ونحن إذ نستمر في تجاهل الصراعات التي تذهب البلدان الإسلامية ضحيةً لها فإنما نعد العدة لحصول تصادم بين العالمين الغربي والإسلامي) (3).

والأمر الخامس: أن ما ستحقِّقه الأمة من مكاسب دنيوية وبعض حرية دينية مكاسب لا يجوز التفريط فيها.. وأما الطموح الأكبر والأكثر فيُحقِّقُه بعون الله الجهادُ الدَّعَويُّ العاقل بزواياه الثلاث إلى أن يأذن الله بنصر المستضعفين في الأرض؛ فالربُّ الكريمُ الرحيمُ الجبَّارُ القهَّارُ أمضى قدره الكوني -ابتلاءً وامتحاناً- بأن يكون (العلم المادي) المنتج لجبروت الحرب بيد غيرهم لا بيدهم؛ فلا يكون ظهور الفساد في الأرض مما كسبته أيديهم.. ولو ملكوا تصنيع جبروت الحرب لمنعهم دينهم من صنع واستعمال القنبلة الذرية، ولمنعهم من كلِّ آلةٍ حربيَّةٍ يمتدُّ حريقها إلى أبعادٍ عريضةٍ طويلة تتجاوز العدوَّ إلى الآمن والمستأمَن، ولمنعهم من كل ما يجلب الدمار كتلويث البيئة، وما يبعث أمراضاً لم تكن معروفةً من قبل ذلك.

والأمر السادس: أن الربَّ الرحيمَ القهَّار الذي أَذِنَ بهذا الجبروت العلمي الحربي بأن يكون بيد مَن أساؤوا وبطشوا باستعماله ظلماً وعدواناً وبغياً وطمعاً مع إفساد الحرث والنسل والبيئة والإلحاد والإباحية وقتل الملايين: غيرُ مُحْبِطٍ طموحَ المستضعفين؛ لأن هذا العلم المادي الحربي المتغطرس يملك العلم ببعض البواعث والموانع، ولا يملك العلم بمفاجآت البواعث الأقوى والموانع الحاسمة كما أسلفتُ الحديث عن هذا كثيراً؛ فذلك كلُّه في غيب الله الذي يُبَدِّلُ حالاً من حال كما بدَّل الحال مِن (عاد) التي لم يُخلق مثلها في البلاد.. وبدايات كل ما أسلفته مشاهدة ماثلة في زلازل وأعاصير تتجدَّد كل عام ويقف العلم أمامها خاسئاً.. ومن هموم الاستعداد للقرن الحادي والعشرين الاستعداد لكوارث كونية منتظرة من جراء محاربة العلم المادي لناموس الله في الطبيعة.. والعلماء في أيامنا هذه يتوقعون ارتفاع الحرارة في كوكبنا الأرضي بشكل متسارع خلال عشر سنوات ابتداءً من يومنا هذا، وتوقعوا أن تكون هذه الكوارث خارج ديار المسلمين؛ وارتفاع الحرارة غير العادي منذر بكوارث طبيعية أقلها الفيضانات.. وأما في بلاد المسلمين فالكوارث مُنْذِرة بزلزال شديد لا مثيل له في بلاد مَن يشتمون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكفرونهم، ويبتدعون ديناً جديداً وإباحة جنسية بتضليل باسم الشرع؛ ثم لا يتعظون.

والأمر السابع: أن الله عصم الأمة الإسلامية أيام قوتها من التشريع للإلحاد والإباحية وتسويقهما، وهكذا عصمهم الله حال ضعفهم من قوةٍ جبَّارة تعيث في الأرض فساداً وتشرِّع للإلحاد وتسوِّقهما؛ ليكونوا شهداء على الناس؛ إذ جعلهم أمَّةً وسطاً.. وما في التاريخ الإسلامي من خللٍ في المعتقد والسلوك لم يكن تشريعاً ولا تسويقاً، بل له مَنْحَيَان:

أولهما: سلوكٌ مخالفٌ لدين الله أحدث خللاً في العقيدة والسلوك من مؤمنين عصاة لم يقدر عليهم الوازع الشرعي تطبيقاً من القائمين عليه.. وربما تدخَّل متطوِّعون مِن أهل الحسبة مع إجماع الإنكار عليهم باللسان، وهذا موجود في تواريخ المسلمين.

وثانيهما: إلحاد وإباحية حارب من أجلهما أغيارٌ من الأمم المغلوبة، وشاركهم عرب ومسلمون مرتدون وقعوا في أَسْر التضليل والشهوات؛ فتصدَّت لهم دولة المسلمين وأطفأت نيرانهم، ومن المتصدِّين لهم سلاطين مسلمون لم يسلموا من بعض الكبائر سلوكاً من غير استباحة ولا تشريع ولا تسويق.

قال أبو عبدالرحمن: تجاه هذه الأمور القاهرة لطموح المسلمين يتعيَّن حال الضعف هذه الجهادُ الدَّعويُّ السِّلميُّ العاقل من ثلاث زوايا:

الزاوية الأولى: زاوية علماء الشريعة الربانيين؛ لتبصير المؤمنين الذين يجهلون كثيراً من أحكام الدين؛ ولموعظة مؤمنين وقعوا في بعض السيئات.. وهؤلاء العلماء الفضلاء تفرَّغوا لمعرفة الشريعة، ولا باع لهم في متابعة الفكر المعاصر في مختلف حقول المعرفة، ولا يملكون صفة التخصُّص في هذا المجال.. وموقع هؤلاء المساجد والمنابر المحليَّة والمذياع والتلفاز المحلي.. ومن الخير أن لا يكونوا واجهة في الفضائيات ذات الصوت الجهوري ما لم يملكوا الحذق للفكر المعاصر؛ لأن مَن تكلَّم في غير فنِّه أتى بالعجائب، وفي هذا إماتة لديننا.. وأحكام الديانة تعني الفقه في العبادات والمعاملات والعقوبات والآداب الشرعية، وتحرير مسائل العقيدة.

والزاوية الثانية: زاوية المفكرين في حقولهم العلمية والثقافية، وضرورات الشريعة فريضة مُشاعَة؛ لأن كلَّ مفكِّرٍ مسلم في تخصُّصه العلمي والثقافي لا يكون مفكراً يُلبِّي طموح الأمة إلا بعد تربية شرعية منذ النشأة إلى آخر المراحل الدراسية قبل التخصُّص.. وواجب هذه النخبة شاق وعسير جداً له مقوِّمات في البنية الطبيعية، ومقومات من النزاهة؛ فمن مقومات البنية الطبيعية طلاقة اللسان بفصاحةٍ وبلاغة، وفكر بديهي أو مدرَّب بممارسة القراءة للمسائل الصعبة؛ فيتعثَّر الفكر في فهم أسطر في يوم أو يومين أو ثلاثة بعد قراءةٍ متكرِّرة، ثم يلي ذلك مرحلة يتذلَّل فيها فهم صفحةٍ في تلك المدة، ثم ينقاد عويص الفكر بالتدريج، وفي مرحلة من العمر يكونُ سفرٌ ضخمٌ جداً مثل (العقل المحض) لأمَّانوئيل كانط، أو (الوجود والعدم) لسارتر، أو كتب هيجل المعقَّدة.. تكون قراءة هذه الأسفار كقراءة كتاب ذي تعبير تقريري مباشر.. هذا هو معنى الفكر المدرَّب.. والفكر البديهي والفكر المدرَّب يمنحان صاحبهما بإذن الله سرعة استحضار التصورات والتصديقات من الذاكرة، ويمنحانه اللمَّاحيَّة الحادة بدقة التمييز، وسرعة التقاط العلاقات والفوارق بين الهُوِيَّات، ودقَّة التمييز بين الفوارق المؤثرة وغير المؤثرة في الحكم؛ فيحصل الفهم العام المعصوم بإذن الله؛ فلا يُعميه تضليل الأغلوطات، ولا يعجزه تحديد المقاصد بما يُسمَّى (احترازات التعريف).. ومن مقومات البنية الطبيعية عند المحاورة تقديم الإصغاء والصمت والتفهُّم قبل المداخلة، والابتعاد عن الانفعال والتهجُّم؛ فإذا وضحتْ الصورة، وانقطع المحاوِر، ولم يبق إلا المعاندة: فالمحقُّ في الخيار بين قوله للمعاند: (سَلاَماً)، وبين تعنيفه ببيان بلاغي وأريحيَّة فكرية.. وهذان الخياران حسب المتوقَّع من إصرار المعانِد، أو رجوعه، أو كسر شوكته إن كان له أتباع.. وفعل هذه النخبة من أجل طموحات الأمة، ومن مقوماتهم دقة التمييز الفكرية، وهم ذوو حقولٍ موزَّعة بينهم في السياسة والتربية (أي بناء المجتمع ودولته)، وفي التاريخ، وفي الفلسفة، وفي الآداب.. إلخ، وهذا المقوِّم الفكري يدفع عنهم التتلمذ الجبان لأفكار توضع في غير مجالها، ويدفع عنهم التسليم بمفردات جُعلتْ معايير من قيم الحق والخير والجمال وليست كذلك؛ وإنما هي تضليل باسم المعايير.. وليس دور هذه النخبة المَنَعَةَ والتَّحصين بأن لا يكونوا إمَّعات؛ وإنما دورهم في هذا وفأمرين آخرين هما: إقناع الآخرين، وكسر شوكتهم عن التأثير في الأمة؛ فتحصل بالأخير المَنَعَةُ للأمة كما حصلت للمحاور -بصيغة اسم الفاعل- نفسه.. ومن أمثلة وضع بعض الأفكار في غير موضعها ما يجده المعنيُّ بالألسنية وفروعها من تفسير النص الشرعي بدلالة سيميائية؛ فيرفض التفسير بوعي فكري تخصُّصي لا يرفض التطريز بدلالات السيمياء فيما يُستقبل من آدابنا، ومجال الرفض لتفسير النص الشرعي أن هذا التطريز الفني الدلالي المطلوب مستقبلاً وُضِع في غير موضعه؛ إذ فُسِّر به نص شرعي مطهَّر، وليس من معهود الشرع ولا من دلالة اللغة التي نزل بها الشرع هذه الدلالة السيميائية الحادثة.. وقلت: (إن ضرورات الشريعة حظ مشاع بين علماء الشريعة وبين النخب الفكرية العلمية أو الثقافية)، وقلت: (إن هذه النخب تُلبِّي طموحات الأمة)، ومن أهم الطموحات دَفْعُ الدَّجل عن الدِّين؛ فمن هذا الحقل الجمالي انتقل أمثال (أركون) إلى تفسير الشرع تفسيراً يجعل أمور الغيب أسطورة -ولهذا جولة في مناسبة ستسنح إن شاء الله-، ومثل ذلك قراءة النص من خلال استكمال فضائه؛ فهذا من باب الاستنباط المعهود إذا كان إكمال فضاء النص لا يعارض المعروف من حال كاتب النص، وحال مَن كُتب عنهم النص.. وما عدا ذلك فهو خيال أدبي لا يُحكم به على مُراد كاتب النص.. ومن أمثلة المفردات التي جُعلت معاييرَ (الحريةُ)؛ فالنخب يعلمون بكل مواهبهم وتخصُّصهم وتربيتهم: أن الإنسان ليس حُرَّاً أن يشتم أو يضرب أو يسرق، وهذا العلم وحده كافٍ في الدلالة على أن الحرية ليست معياراً، وإنما هي حق واجب لما هو معياري؛ فهي موضوع المعيار وليست هي المعيار نفسه؛ فالظلم (وهو سلوك بغير حق) مُـحَرَّم في العقل المحض، وفي العقل العملي، وفي الأديان؛ وبهذا فالتحرر من المظالم حق معياري.. وعكس ذلك (أداء الأمانة) فهي حق معياري عقلاً وخلقاً وشرعاً؛ فالتحرر من هذا الحق هو الظلم الذي كان التحرر منه حقاً معيارياً؛ ولكل أمة ديمقراطيتها، هي إما حق أو باطل، وتكون باطلاً إذا كانت حرية أيديولوجية وضعية، أو ديناً مُبَدَّلاً، أو منطقاً تحليلياً يستبيح خيرات المستضعفين ويظلمهم، وديمقراطية الإسلام غير ديمقراطية الغرب -بالغين المعجمة-؛ لأنها تعني حُكْمَ خالق الشعب ومالكهم للشعب؛ ولهذا فالأصل في ديننا العبودية لله والتحرر مما سواه؛ فالمسلم يتشرَّف بأنه عبدالله طاعةً لقضائه الشرعي، ورضىً وتسليماً بقضائه الكوني؛ فحن عبيده، أبناء عبيده، أبناء إمائه، ماض فينا حكمه، عَدْلٌ فينا قضاؤه.. وأما مقومات النزاهة فجامعها الصدق مع الله الذي يعلم السر وأخفى -وهو نفسه الصدق مع النفس-؛ فلا يُظهر ما لا يُبطن، ولا يستحلي المغالطة عمداً وهو يعلم في قرارة نفسه أنه مهزوم فكرياً؛ بل يُصغي إلى الحق، ويتراجع لتعديل مسيرته الفكرية.. ولا يهجم بالقطع فيما لم يصل إليه تحقيقه العلمي؛ من أجل أن لا تُهضم قيمته العلمية والفكرية؛ فهذا مُرَكَّب نقص؛ بل يسأل ويسأل ويقرأ ويقرأ حتى يعلم، ثم يكون مساره الفكري تبعاً لتحقيقه العلمي.

والزاوية الثالثة: زاوية قادة الأمة؛ وذلك هو الجهاد الدَّعوي السياسي، وقد أسلفت في مقالة الأسبوع الماضي مسألة الاتزان، وعدم مكابرة الواقع عما نقدر عليه وما لا نقدر عليه، وإتقان المعادلة بين السلامة والضرر والمصلحة والمفسدة.

قال أبو عبدالرحمن: وههنا ما هو مشترك بين الزوايا الثلاث، وهو التوعية في الداخل، واستصلاح الجماهير المنتمية إلى الإسلام، وتحذيرهم من مكائد الطائفية التي لا أمل في رجوعها إلى الحق؛ لأنها ذات أطماع سياسية؛ وبهذا يرقى مجتمع الجماهير إلى مستوى الحصانة والتلاحم على هدفٍ واحد.. وعمل النخبة (الزاوية الثانية) دفع وجذب؛ فالدفع بإحقاق الحق لمن يُخاف عليه من الأمة الوقوع في أحبولة التضليل، والجذب بإقناع من كان على حماس لضلالٍ عن غير قصد.. وصفوة الأمة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار كان إيمانهم العميق الراسخ بالبيان الدَّعَوي.. وأما مقدمات الإنباء بتغيير في الشرق الأوسط، وقد أنتج إلى هذه اللحظة الثورات والعمل الجدِّي في تحييد منطق القاعدة، وما هو متوقَّع باستنباطٍ أو إثارةٍ أسئلة: فلذلك حديث يأتي إن شاء الله، وهو المستعان، وعليه الاتكال.

الهوامش:

(1) قال أبو عبدالرحمن: كلام كارتر مزيج من إيمانه الذي أسلفته ومن بنيته النفسية قُبيل الاختراق الصهيوني.

(2) ما وراء السلام ص 158.

(3) ما وراء السلام ص 160-161.

 

الجهاد الدعوي السِّلمي العاقل
كتبه لكم:
أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري -عفا الله عنه-

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة