Thursday  19/05/2011/2011 Issue 14112

الخميس 16 جمادى الآخرة 1432  العدد  14112

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

متابعة

 

كان له إسهام في تشكيل الذائقة الأدبية لجيلنا

رجوع

 

يأتي الشيخ عبدالله بن خميس - رحمه الله - على رأس قائمة الأسماء التي سكنت ذاكرتي وأثرت محصلتي في مراحل مبكرة من عمري حيث كان يصافح أذني بصوته المهيب عبر الإذاعة في برنامجه الشهير (من القائل)؟ وكنت حينها حدثاً أشارك والدتي سماع الإذاعة طوال الوقت فأغنى ذاكرتي الغضة بكل جميل من مختلف فنون الآداب والسرد ورغم أن ذلك البرنامج مخصص للأبيات الشعرية التي يسأله عنها المهتمون بإرسال أي بيت شعري لا يُعرف قائله إليه إلا أن موسوعيته جعلت من هذا البرنامج الإذاعي مادة ثرية في الشعر والأدب والسير والتراث وكان هذا الأمر طبيعي حيث إن الشيخ عبدالله بن خميس - رحمه الله - لم يكن مجرد مذيعاً يقدم برنامجا كلفته الإذاعة به ولم يكن لغويا أو شاعرا فقط بل كان جغرافياً وتاريخياً ورائدا من رواد التراث الشعبي وأحد المحرضين الدائمين على بعث القيم الأصيلة في نفوس الأجيال من خلاله.

مازلت أتذكر صوته الرخيم وهو يجيب عن أسئلة المستمعين حول الأبيات الشعرية (فصيحها وعاميها) فيبتدئ بذكر اسم السائل والبيت الذي يسأل عنه ثم يبحر بنا في رحلة ممتعة يزاوج فيها بين البيت الشعري مدار السؤال وإعطاء نبذة موجزة عن الشاعر والعصر الذي عاش فيه والسياقات التاريخية والمجتمعية والسياسية السائدة في الحقبة التي نظم فيها القائل شعره وموطنه الذي عاش فيه دون إطناب مخل ولا إيجاز مخل أو استهلاك لوقت البرنامج فضلاً عن ما أتسم به أسلوب الشيخ من رصانة في الأسلوب وجمال عرضه الشيق بأسلوب فيه الكثير من الجاذبية والتأثير.

من الطريف هنا وأنا أتحدث عن الشيخ والأديب -رحمه الله- أن أقول إنني عن طريقه عرفت ولأول مرة أن (الملك فهد بن عبدالعزيز) يرحمه الله كان ينظم الشعر وما زلت أذكر حتى اللحظة أنه أورد في أحدى حلقات برنامجه من القائل (قصيدة للملك فهد يرحمه الله) كتبها حينما كان مريضاً يتلقى العلاج في لندن إلى أحد الأمراء أظن اسمه (سمو الأمير فهد بن سعد) يشكو فيها لواعج شوقه يرحمه الله ويبث فيها لصديقة ما عاناه من المرض ثم يستعرض قصيدة الملك غفر الله له ولا يكتفي بذلك بل يورد رد صديقه بقصيدة يذكر(الفهد يرحمه الله) فيها أن هذا حكم الله ويبعث في نفسه الأمل مؤكدا له بأنه سيعود معافى للوطن بأذن الله والجميع في شوق لتلك العودة وكانت هذه الأخوانيات بين الملك فهد وصديقة قبل أن يتولى يرحمه الله مقاليد الحكم.

الشيخ بن خميس - رحمه الله - قدم من خلال (من القائل) مادة ثرية بلغة رصينة ينتقي لها مفردات فخمة جزلة يرسلها عبر الأثير بصوت جهوري تطرب له النفس وتسر به الروح.

لم يكن عبدالله بن خميس -رحمه الله- مجرد أديب بل هو رجل مارس فنون التأثير عن بعد فهو (في قلب نجد وأنا أحد أبنائه وتلاميذه في أقصى الجنوب وهو ودون أن يدري أو يعرف عنا شيء نشأنا وتربينا على ممارسات وقيم وعادات اكتسبناها عبر متابعته إذاعياً في مرحلة مبكرة من أعمارنا) ورغم بعدنا الجغرافي عنه فقد اخترق الآفاق وأصبح له وجوده وتأثيره عبر المذياع في خلق ذائقة جيل وإثراء خياله وصياغة فكره وأزعم هنا أن هذا التأثير الكبير تجاوزني ممتداً ليشمل جيلاً ممن هم في مثل عمري كان للشيخ (عبدالله بن خميس - رحمه الله - له إسهام بقدر كبير في تشكيل ذائقتهم وإنضاج شخصياتهم) لذا فنحن مدينون له بالفضل وعندما نسطر هذه الكليمات عنه فنحن نتحدث عن قامة تجاوزت حدود المألوف والمتعارف عليه وصاغت برنامجا عمليا عن (كيف تكون مؤثراً في الأجيال خارج محيطك الضيق).

نحن لا نجافي الحقيقة عندما نقول إن الشيخ (عبدالله بن خميس - رحمه الله - وعى دوره وعرف قدر نفسه فجعل منها مثالاً ونموذجا وقدوة وأستطاع أن يضع لنفسه منهجاً غدا بسببه رجل مؤثر ويكفيه أن له كل هذا التأثير فينا حتى دون أن نتشرف بلقائه أو نتتلمذ على يديه إلا عبر المذياع أو عبر نتاجه ومؤلفاته المتنوعة).

لو لم يكن الشيخ عبدالله بن خميس موسوعيا في علمه غزيراً في نتاجه باحثاً عن كل ما من شأنه أن يصنع منه (أمة) مستغلاً لبلوغ غاياته النبيلة كل القنوات المتاحة لإحداث فعل التأثير باحثاً بتعمق عما يفيد وينفع عارفاً ببواطن الأمور مستحضراً لدوره مؤمناً بقدرته على الإسهام بقدر وافر في تشكيل هوية المشهد الأدبي والثقافي وأجياله المتعاقبة وعبر مختلف الوسائط الإعلامية والثقافية المتاحة لما كان له هذا التأثير وهذا الحضور الطاغي في تلاميذ برامجه الإذاعية ومؤلفاته المتنوعة ولو لم يكن بهذا العمق لما وجدنا بين يدينا اليوم هذا الثراء المعرفي والنتاج الثقافي الذي تنوع بين الحضور الإذاعي والمؤلفات العديدة التي أثرى بها المكتبة المحلية في مختلف الفنون والآداب (ففي الجغرافيا قرأنا له بدهشة (جبال الجزيرة) المؤلف الذي يتحدث عن جبال جزيرة العرب ومواقعها) و(الدرعية) وفي الأدب الشعبي (الأدب الشعبي في الجزيرة العربية) و(المجاز بين اليمامة والحجاز) و(الشوارد) (عن الأبيات الشعرية التي عدت من الشوارد) فضلاً عن برنامجه (من القائل) الذي تحول مؤلفا

الأديب (عبدالله بن خميس) - رحمه الله - هو عدة شخصيات امتزجت في شخص فحواراته ومنافحاته عن اللغة العربية وعن التجديد في الشعر وعن الفصحى وأهميتها لم تجعله يغفل دور الأدب الشعبي كوعاء للقيم الأصيلة وكانت رؤاه معيناً ننهل منه النضج ونتوسل فيه روح الفهم الواعي وتلمس فيها نضج المفكر وموسوعية المثقف وعمق السابر لبواطن الأمور فهو غيور على الفصحى محذراً من أن تنساق الجموع نحو الدعاوى التي تصورها بأنها جامدة وأنها لا تستوعب الحديث من الأشكال والأنماط اللغوية والمدارس التي ابتدعتها النظريات والمدارس في مجالات الأدب واللسانيات والمذاهب الفكرية السائدة داعياً إلى التجديد الواعي الذي يمنح اللغة مكانتها وإلى تبسيطها والتعمق في بحورها وإبراز جمالياتها عبر كل المنابر وفي ذات اللحظة وبنفس القدر من الاهتمام والحماسة دافع عن اللهجة الشعبية وعدها معينا لا ينضب لكل جميل ووعاء لنقل الجميل من الموروث والقيم والسير والأحداث ورأى فيها روح تنبض بكل جميل ودعي إلى أن تكون العامية بحيويتها وقدرتها على استيعاب الروح الشعبية وقوالبها وسياقاتها الطبيعية معيناً لكل جميل ودعي إلى إستكناه ما تحمله من مواطن جميل وكشف ما تملكه من جماليات وبيان مالها من قدرات تأثيرية ونافح عنها بنفس القدر الذي دافع به عن الفصحى وطالب أن تكون العامية محل اعتزاز وتقدير كونها قادرة على تمثل ونقل جميل الصفات والقيم شعرا ونثرا وسردا بل أنه أقام مثالا وشاخصاً حياً على ذلك من خلال (من أحاديث السمر) الذي شكل إطلالة جميلة على موروثنا وقيمه وأصالته وتميزه وكان من أشد من يطالبون بأن لا نخلق عداء بين الفصحى والعامية وهذه المطالبات نبعت من فهم واع بقدرات وإمكانات كل واحدة منهما ثم إن واقع الحال يؤكد أنه في كل لغات الأمم السابقة والحالية كان هناك على الدوام اهتمام بالفصحى يساوقه اهتمام بالعامية دون حدوث تعارض أو تصادم بينهما فلكل منهما أدواته وإمكاناته التي يجب أن تستغل لإحداث الثراء المطلوب والتنوع الذي نحتاج إليه وهذه الآراء الحصيفة هي نتاج فكر باحث ونظرة ثاقبة أكتسبها الشيخ من بحثه الدائم وإطلاعه المستمر التي صنعت منه موسوعيا جاوز المألوف.

رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

ناصر محمد العُمري

 

رجوع

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة