Thursday  26/05/2011/2011 Issue 14119

الخميس 23 جمادى الآخرة 1432  العدد  14119

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

قال أبو عبدالرحمن: وعدتُ بالحديث المبرهن عليه بأقلام المتنفِّذين الفاعلين على الكرة الأرضية بقدر الله الكوني، وهو رسم سياسة تغيير في الشرق ذات غاية زمنية.. ووعدتُ بالحديث عن السلب والإيجاب الذي سينال أمتنا بما هو مشهود، وربما هو مُستنبط، وبما هو طرح أسئلة بلا جواب تقتضي تأمُّلاً فكرياً وفقهاً ساسياً يتجاوز التحليل السياسي الذي يربط بين أحداث العصر، ويغفل عن المؤثرات التاريخية القديمة.. وكل هذا سأفي به إن شاء الله، والبداية بتعميق ما أسلفته عن مفهوم الشرق الأوسط الذي هو بلاد العرب والمسلمين كما هو الواقع، وليس هو كل بلادهم.. إلا أن هذا الاصطلاح التقزيمي ولِدَ من قرارات الحلفاء بعد الحرب العالمية الأولى، وتحديد ما هو مفهوم الشرق الأوسط يضيق ويتَّسع بأقلام الباحثين (1)، وقد ذكر (هاليداي) أن أغلبية مسلمي العالم الذين يبلغون ملياراً لا يعيشون في الشرق الأوسط، وضرب المثل بإندونيسيا والباكستان.. كما أن في الشرق الأوسط غير مسلمين وغير عرب (2).

قال أبو عبدالرحمن: من الأقليات ما هو طارئ، ومنها مَن أبقاهم المسلمون قديماً على دينهم وحفظوا لهم حقوقهم.. وفي بلاد العرب ابتداء بالمملكة العربية السعودية ومنابر مصر وعلماء الشام مرجعيَّةُ المسلمين في الشرق الأوسط وغيره.. والسياسة في هذا العصر هي التاريخ المعاصر، والربط بين أحداثه، والإحاطة الجيِّدة بالأعلام الآدمية والمكانية، ومن هذا الملحظ فرؤيتي قاصرة وخبرتي بالأسماء الأعجمية من الأعلام الآدمية والجغرافية لا يستقيم نُطْقُها على لساني، ولكنني على قراءةٍ تتسع تدريجياً لتاريخنا المعاصر منذ الحربين الكونيتين، ثمَّ تألقتْ عنايتي بنزهة استقرائية مع مواد مجلة (حوار العرب)، وأحاول مواصلة قراءتي على ذلك النسق، ويُزكِّي هذه القراءة أمران: أولهما دراستي المبكِّرة لما في الأديان الثلاثة من أخبار بعضها شرعي صادق وبعضها وضع بشري، وأخراهما عنايتي اللاحقة بأبجديات المتغيِّرات في شرقنا العربي والإسلامي منذ الحربين الكونيتين اللتين اجتمع فيهما المنافع التحليلية والمبادئ الأيديولوجية لحرب الإسلام وإسقاط قادته، ولعل كتاب (سلام ما بعده سلام/ ولادة الشرق الأوسط 1914 - 1922م) لدافيد فرومكين بترجمة أسعد كامل إلياس يُعطي صورةً مصغَّرة عن ذلك.. ومن أخطر مبادرات (سلام ما بعده سلام) ميلاد الصهيونية على أرضنا ممارسة وهي مولودة فكراً قبل ذلك - ومعنى العنوان عندهم: (سلام لنا ما بعده للشرق سلام)، وليس معناه: أن ذلك منتهى السلام للشرق -، واستطاع الصهاينة أمثال هيرتزل ولويد جورج الإنكليزي ووردويلسون أن يجعلوا ذلك مُمَهِّداً لوعد بلفور، وأن يجعلوه همَّاً عالمياً يتصدَّى لتنفيذه القوى المتنفِّذة بعد إقناعهم بأن كلَّ عمل صهيوني عدواني ضد العرب والمسلمين هو عمل الربِّ سبحانه وتعالى ومشيئته في المنطقة؛ وحينئذ فلا إثم من جرَّاء مساندة العدوان، وميلاد السلام في شرقنا إنما هو سلام للأمم المتنفِّذة، وهو سلام ما بعده سلام حسب مشاعرهم آنذاك، وما يرونه من بواعث لاستقرار سلامهم ومستقبلهم.. وتزامن مع ميلاد (سلام ما بعده سلام) جهود المنظِّر الكبير (جورج بوش) [1796 - 1859م] الجدِّ الذي قال عنه الدكتور عبدالرحمن الشيخ: ((هو بروفيسور، وعالم من أعلام الاستشراق الأنجلو ساكسون، وأستاذ في جامعة نيويورك سيتي في اللغة العبرية)).. وأنتم تعلمون أن اليهودَ أشدُّ الناس عداوة للنصارى، وقد وجَّهوا عداءهم الفكري والسلوكي الآثمإلى هذا العالم من مطلع القرون الوسطى التي هي قرون النور المادي العلمي لذلك العالم، وانصبَّ جُهْد اليهود الفكري على جَعْلِ ديانة البروتستانت اليهودية ديناً رئيساً لأهل الكتاب الآخرين (وهو ما يعرف باليمين المسيحي)، وجعلوا مصادرهم في العهد الجديد مصدراً ثانوياً قابلاً للتأويل والتشكيك معاً؛ فلما غمرتْ الديانة البروتستانتية القادة الجُدد، وخَفَتَ صوت الكاثولوكية والأرثوذكسية: كانت حماية إسرائيل مع التعجيل بقيام دولتها حسب أطماعها عقيدةً في قلوب المُتنفِّذين لا يرون فيها تأثيماً؛ لتصديقهم بوعود العهد القديم وشروحه والإضافات الوضعية، ورأوا أن كُلَّ ظلمٍ في تنفيذ هذه العقيدة مشيئةٌ ربانية بتكليف شرعي؛ بمعنى أن المشيئة الربانية موكولة إلى الجهد البشري الظالم.. تقدس ربي أن يكون الظلم هو مشيئته الشرعية؛ وبهذا الإيمان نَشِطَ تنظير جورج بوش الجدِّ، وليس هو تنظيراً فرديَّاً؛ وإنما هو تنظير مَرْجَعي في الفكر الغربي بالغين المعجمة، وقد نشط الدكتور عبدالرحمن عبدالله الشيخ في ترجمة كتابين من كتبه هما: (محمد صلى الله عليه وسلم مؤسس الدين الإسلامي ومؤسس إمبراطورية المسلمين)، و(وادي الرؤيا في تفسير رؤيا حزقيال أو إحياء عظام بني إسرائيل/ هل يتحول اليهود إلى المسيحية كشرط لعودة المسيح)، وهذا الأخير هو المرجع لأدبيات العولمة وصراع الحضارات ونهاية التاريخ والدولة العالمية الواحدة والمعركة الفاصلة (هرمجدون) التي يفنى فيها ثلثا العالم، ثم ثلَّث الدكتور الشيخ بكتاب: (ما بعد الجهاد/ أمريكا والنضال من أجل الديمقراطية الإسلامية) للأستاذ الدكتور نوح فلدمان، وهو أستاذ القانون الدستوري في كلية القانون بجامعة نيويورك، كما أنه لا يتحدث عن رؤية فردية؛ وإنما يتحدث عن برنامج دولة كبرى متنفِّذة، وهذا الكتاب وَعْد ضعيف وإيعادٌ شديد لشرقنا العربي الإسلامي بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م؛ لأن الكتاب طُبع باللغة الإنكليزية عام 2003م، وقد أنجز الدكتور الشيخ ترجمة (الشرق الأوسط الإسلامي الكبير) لتشارلز لندهولم، ووراء هذا الاهتمام الناشر أخي الدكتور عبدالله الماجد.. وعتبي على رموزٍ خيِّرة من بلادي نهلوا وعبُّوا من الثقافة الخواجية أمثال الدكتور سعد البازعي وعبدالله الغذامي - على أن للأول عملاً فلسفياً مشكوراً في كتابه (المكون اليهودي في الحضارة الغربية)، ولي ملاحظات طفيفة حول طروح اسبينوزا التضليلية غير الجادة، وليسذالظرف مجالاً للاهتمام بها -، وهكذا الدكتور عبدالعزيز المانع الغارق في نصف الحكمة العربية مع المتنبي، والدكتور محمد الهدلق الغارق مع البلاغة العربية، والدكتور أحمد الضبيب الذي أتحفنا بموضوع محلي عن لهجة عامية شرق الجزيرة، وأما الدكتور منصور الحازمي فيجب أن تُستوفى منه زكاة القلم والغربة في طلب العلم؛ فهؤلاء الفضلاء أولى بالتصدِّي لمثل هذه الكتب ترجمةً ودراسةً لو انتفضوا انتفاضة المحارب المجاهد بعد استراحتهم مع الحداثة والألسنية والتاريخ المحلي؛ فهم أبناء الفطرة، وذوو الولاء لأمتهم ودينهم ووطنهم، وهم رموز فكرية؛ فكيف تُحرم أُمتهم من جِدِّيتهم في الظروف الحالكة منذ أحداث 11 سبتمبر 2001م عندما استقبل العالم الأقوى أمتنا بأسنان التمساح أو الأسد الضاري؛ فيغتفر لهم الغفلة عن المتغيرات قبل ذلك؛ فأما متغيرات ما بعد الحربين الكونيتين فقد استُهلكت وعُني بها الأمشاج الفكرية المختلفة الاتجاه في مصر وغيرها منذ هيضة نابليون على الشرق الأوسط، ثم ترتب على ذلك تعاقب ثوراتٍ بأيديولوجيات مختلفة خُدعت بها أمتنا طويلاً؛ حتى كانت تزن الأمور من خلالها.. وكان لصاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل جهد يُذكر فيُشكر عن معاناة الفكر العربي باجتماع النخبة للنقاش؛ فصدر عن ذلك مجلة حوار العرب التي كشفت ما في الزوايا من خبايا في أدلجة تلك الثورات بأقلام جمعت بين رصانة الفكر وسَعَة الخبرة بتاريخ المتغيرات، وليس هذا تزكية = 100 %؛ فكل عمل بشري فيه مدخل لخلل في الرؤية أو في الاستقراء العلمي، وذلك طبيعة البشر.. ولما استقرَّ وضع شرقنا العربي والإسلامي على ما يريده المتنفِّذون من فرقة أيديولوجية ومذهبية وطائفية: حدث تغييرٌ جزئي بكارثة حزيران عام 1967م، ولم نجد في العطاء الصحفي والأدبي إلا الشماتة واليأس مع الغفلة عن كل تسييس عالمي يُراد بنا، ولقد جمع الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود رحمه الله تعالى الشمل وبلسم الجرح بالعمل العبقري عام 1973م الذي تم به الاقتحام الشجاع العبقري لخط بارليف لولا أن نتائج هذه الحرب التي تجعل العرب في مركز القوة عند التفاوض أُحبطت بكامب ديفيد وما بعده، وبعد ذلك بأعوام جاءت المفاجأة بمثل (إعادة البناء) لغورباتشوف تسويغاً لسقوط الماركسية بأسرع من كَرَّةِ الطرف.. وسقوطها خير كثير لولا أن بعض صفوة المثقفين يرون أن في وجودها ضمانة لتوازن القوى الذي يرفع الغبن عن المستضعفين، والذيارخلدي أن توازن القوى موجود في المذياع والصحافة وليس له وجود على الساحة العملية، ولا وزنَ عسكريَّ للماركسية أمام قوة الولايات المتحدة، والمعسكر الماركسي عالة عليها اقتصادياً، وهو لا يملك المُشادَّة فيما يعكِّر صفاء الطرفين.. وبُعَيد عام 1962م صدر كتاب: (ما وراء السلام) للرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، وقد ترجمه مالك عباس، وهو مبادرة جديدة تتغير فيها المواقف للحفاظ على جملة (ما بعده سلام) التي وردت آنفاً في كتاب دافيدفرومكين؛ فقد أفرد بالبحث موضوعاً عنوانه: (بناء جسور جديدة مع العالم الإسلامي) تخوُّفاً مما هو أكبر من مسألتين ضعيفتين أُعْطيتا أكبر من حجميهما؛ ليسوِّغوا ما هو أكثر عدوانية.. المسألة الأولى عن الصراع غير المتكافئ بين العرب وإسرائيل؛ فقد أقحموا في هذه المسألة التحذير من تهديد الأصولية الإسلامية، مع أنه لا وجود آنذاك لأصولية ذات خطر، ولا وجود إلى هذه اللحظة لمصطلح الجهاد الإسلامي؛ وإنما الموجود على الساحة المقاومة الفلسطينية خارج نطاق المقاومة العربية الأم.. ومصطلح الجهاد الإسلامي حقيقة مشروعة أمام العدوان الإسرائيلي، ولكنه مُحَيَّد بمبادئ غير إسلامية اشترعها لأمتنا قهراً مَن تولَّوا السلطة بثورات عسكرية هي في حضيض الانتماء مسبقاً وبدعم خارجي معنوي ومادي؛ ولهذا نرى في كل ثورة مبادرة العالم المتنفِّذ إلى الاعتراف بها.. ونيكسون لا يتحدث عن رأيه الشخصي، بل هو يقص مخططاً حكومياً، ومقدمة الجور النيكسونية تلاحمٌ بين الأيديولوجي والتحليل النفعي وقد أنجزه بقوله: ((لقد زَرَعَتْ مصالحُنا الحيوية (متجسدة بحماية دولة إسرائيل، ومقاومة الإرهابيين المتطرفين) انطباعاً فاعلاً عن العالم الإسلامي.. كأنه كشكول من العرب المعتوهين غير حليقي الذقون، والفرس المتعصبين سليلي القرون الوسطى، وغير ذلك هو أسرة شديدة التفاوت قوامها 850 مليون نسمة موزعون على 190 جماعة عرقية تسكن في 73 بلداً حول العالم، وتسيطر هذه البلدان على معظم نفط العالم، وتمتلك كثيراً من أقوى الجيوش، بل وستحوز في القرن التالي على قوة تجارية استثنائية [لاحظوا استثنائية] أيضاً.. من هنا لا يجب أن نكف عن تعهداتنا لإسرائيل في عهد ما بعد السلام، أو أن نعدل عن مقاومتنا للنظامين المتطرفين في العراق وإيران حين يهددان مصالحنا.. فإن انكببنا على صياغة سياسة جديدة تجاه المسلمين لعهد جديد: علينا أن نتعلم أن ننظر إلى العالم الإسلاي ليباعتباره قوة موحدة وجيوسياسية راديكالية قائمة على مواجهة الغرب، بل باعتباره تجمعاً حضارياً وعرقياً متعدداً مستنداً إلى إيمان بالإسلام وتركة فتنٍ سياسية))(3)؛ فيا له من عداء وعدوان ظالم.

قال أبو عبدالرحمن: ما ذكره عن المتعصبين سليلي القرون الوسطى هم عند المتنفِّذين في شد وجذب بين إشارة خضراء يمرون منها وخط أحمر لا يتجاوزونه منذ أصبحت ثاني دولة عربية في الثِّقل العربي عسكرياً واقتصادياً أكبر قاعدة عسكرية ببداية التغيير الحديث في الشرق الأوسط، ومنذ سُلِّمت القيادة لهذه الطائفية اغتصاباً، وهذا هو الإشارة الخضراء ليكونوا وباء وتكديرَ صفوٍ في شرقنا في أي لحظة تريد أمتنا التحاماً يُعيد للعرب والمسلمين وجودهم المعتدَّ به.. وقال نيكسون: ((يتجلى في المركز الرمزي للعالم الإسلامي (وهو منطقة الخليج العربي) مصلحة حيوية عظيمة للولايات المتحدة لا يختلف عليها اثنان؛ فهي تشكِّل جسراً بين أوربا وآسيا وأفريقيا، وتهيمن على 55 % من احتياطي النفط العالمي، مع امتلاكها اثنين من أهم نقاط المرور في العالم - قناة السويس، ومضيق هرمز -.. ناهيك عن كونها أشد المناطق قلقاً واضطراباً على وجه البسيطة.. لقد أزهقت الحروب والهجمات الإرهابية في هذه المنطقة أرواح ما يزيد على 1.4 مليون شخص منذ عام 1980م.. وخلال السنوات الخمس والأربعين الماضية خاضت إسرائيل وجيرانها العرب خمس حروب - في الأعوام 1948، 1956، 1967، 1973، 1982م - سقط في سوحها ما يربو على مئة ألف شخص، وعليه أنفقت إسرائيل وجيرانها الممثلون بمصر والأردن وسوريا 11 مليار دولار للأغراض الدفاعية سنة 1992م، كما قدمت أمريكا في السنة نفسها 1.8 مليار دولار على شكل مساعدة عسكرية و1.2 مليار دولار على شكل مساعدة اقتصادية لإسرائيل؛ فيما قدمت مساعدة عسكرية قيمتها 1.3 مليار دولار واقتصادية قيمتها 900 مليون دولار لجيران إسرائيل العرب)) (4)، ويعبر نيكسون بكل صراحة عن مشروعية الدعم للعدوان الإسرائيلي بقوله: ((للولايات المتحدة أيضاً مصلحة كبرى في المحافظة على وجود إسرائيل وأمنها؛ فنحن وإسرائيل لسنا حليفين طبيعيين عاديين، بل إن لدينا التزاماً أخلاقياً معها هو أسمى من أي اتفاقية أمنية؛ فقد أوضحتُ باقتضاب في اجتماعٍ لزعماء الكونغرس في مطلع حرب يوم التكفير عام 1973م: (ليس لأي رئيس أمريكي أن يترك إسرائيل تغرق في الوحل).. إن إسرائيل ملاذ ملايين العوائل التي قاست أهوال المحارق الجماعية الشنيعة، وهي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وأحاطت بها من يوم مولدها بلدان صممت على تدميرها))(5)؛ فالمحارق الألمانية المبالغ فيها جُعلتْ عقوبتها على العرب مع أن هتلرشف الفساد والعدوان اليهودي في بلاده، وأوربا تحيط بما أصاب بلادها وأرواح أسلافها من العدوان اليهودي، كما أن العرب منذ ترشيح الملك الحسين بن علي رحمه الله تعالى كانوا مع الحلفاء وليسوا مع هتلر.

وبتنظير جورج بوش الجد وزملائه نُسِيتْ العداوة الشديدة والعدوان الآثم من يهود ضد المسيحيين، وحلَّت البغضاء على المسلمين مكان الحوار معهم وهم أهل صدق النية الذي هو الضمانة لسعادة البشرية؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر كثيراً من الضلال المخالف لما جاء به عيسى بن مريم عليه السلام - وسببه تبديل اليهود وتحريفهم -، ثم أثنى على جملتهم بطائفة منهم في سورة المائدة بأنهم أقربُ مودة، وأثنى عمرو بن العاص رضي الله عنه على مرحمتهم وتحرُّجِهم من الظلم، وقد عايشهم في مصر، ومن البيِّن أن عيسى عليه السلام أرسله الله رحمة لبني إسرائيل الذين أرادوا قتله؛ فخيَّب الله مسعاهم، وفي مأثورهم عن عيسى عليه السلام: ((إذا ضربك أحد على خدك الأيسر فأدر له خدَّك الأيمن))، وشريعة عيسى بن مريم عليه السلام هي شريعة المحبة والتسامح، ولكن ليس هذا بمفهوم هذا العصر أنه تسامح في أداء أحكام الشريعة واستباحة ما هو محرم؛ وإنما هو شريعة تسامح ومحبة ويسر بمقابل ما هو تاريخي سابق، مما عاقب الله به يهود من تشديدٍ عليهم في الشريعة؛ لمحادَّتهم الله، وسعيهم بالفساد، وقتلهم الأنبياء، وتبديلهم دين الله، وتحريفهم الكلم عن مواضعه.. هذا من جهة القوم قبل اختراق الصهيونية، ومن جهة المسلمين فدينهم دين المرحمة: وفاء بالعهود في السلام، ولا تكون الحرب إلا بعد الخيانة بالعهد، ولا تكون إلا بعد البراءة، ولا تلتحم الصفوف إلا بعد الدعوة والمراسلة، وفي الحرب إنسانية رحيمة ما بعدها مرحمة، والدماء عند المسلمين ليستْ رخيصة كما في حروب اليوم، وإذا وضعت الحرب أوزارها فلا يُطارد مُوَلٍّ، ولا يقتل شيخٌ ولا طفل ٌولا امرأة، ولا يجوز التعرض لمن في الصوامع والبيع ممن لم يحضر الحرب، بل يُتركون لما نذروا أنفسهم له من العبادة، وإذا حصل اعتناق الإسلام حصلت الأخوَّة الصادقة، وارتفعت فوارق الانتماء عرقاً أو وطناً.. ومن أبقاه الإسلام على دينه فحقه غير مبخوس حسب العهد (له ما للمسلمين وعليه ما عليهم ما دام الوفاء بالعهد)، ولا غرض للمسلمين إلا الدينونة لله على دين صحيح لا شائبة فيه، والدعوة بالبراهين العلمية مقدمة على الدفاع عن النفس، ومقدمة على الجهاد ابتداء؛ فعناصر الخير مشتركة بين الديانتين لا ظلم فيهما ولا بخس كما في الاختراق الصهيوني، وجمهور المثقفين في الدول المتنفِّذة تعلم ذلك، ولكن الخناق المحكم من الصهيونية أنتج مثل كتاب: (من يجرؤ على الكلام) لبولفندلي.. وفي ديننا الصحيح أن التحالف مع الديانتين حاصل ولا بد، ولعل هذا يكون بعد الجرأة على الكلام، وبعد غلبة صوت الجماهير مما يعانونه من ظلم يهود، ولا يعلم إلا الله كم ستعاني البشرية من العذاب قبل التحالف المرتقب.. وجرى العرف على أن ما قُبيل خارطة الطريق هو الحرب الباردة مع إسرائيل، وههنا ملاحظتان: أولاهما أن الحرب الباردة بدأت حقيقة بتسلُّم عبدالناصر السلطة عام 1953م بعد ثورة 52؛ لأن الحرب التي تُصفِّق لها الجماهير مجرد هدير إعلامي في المذياع والجريدة يُوعِدُ بِن جريون وجولدا مائير وموشي دايان، ويوعد برمي إسرائيل في البحر.. حتى مسألة الجلاء قد فُرغ منها من قبل الحليفين بمجرد انتهاء المعاهدة، وما العدوان الثلاثي الذي أبلى فيه الإخوان المسلمون بلاءً حسناً - متأهلين لاحتواء ثورة 1952م - مع غياب الشرائح الأخرى: إلا جَسَّ نبضٍ سببه التهديد الناصري بدلاً من الجهاد الدبلوماسي في أمر مفروغ منه.. وإيقاف الحرب والجلاء بتهديد خروتشوف لا يُعكِّر ما اتفق عليه الحليفان، وإنما هو تمظهر من المعسكر الماركسي بقدرته على حفظ التوازن، والبرهان على ذلك أنهم هم الذين ضلَّلوا عبدالناصر عام 1967م عند إغلاق عبدالناصر للمضايق، وضمنوا له أن ذلك لن يُسبِّب له هجوماً إسرائيلياً.. والملاحظة الثانية أنها حرب باردة من قبل العرب والمسلمين لا غير، وأما إسرائيل فحربهم ساخنة مُبِيدة منذ انفصال الجيوش العربية بهزيمة عام 1948م بمذابح مروِّعة مثل دير ياسين، وبقيادة سفَّاحين مجرمين من أمثال مناحيم بيجين.. والعرب اليوم والمسلمون في شُغل وسلام معاً من قبلهم هم، وأما إسرائيل فلا تزال جادة في حرب متوالية لإبادة الشعب الفلسطيني والاستحواذ على كل ممتلكاته.. وكان الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله تعالى ابن الصحراء وابن الفطرة ينظر بفراسة المؤمن، ولا يؤمن بحرب عام 1948م، وتحمَّلَ الإيذاءَ والتُّهم وهو مِلحٌ على شرح وجهة نظره، ولم يستبن القوم الرشد إلا ضحى الغد!!.. وكانت مخاوفه من ثلاث جهات:

أولاها: أن الحرب فاصلة لا يُسمح بعدها بتجمُّع عربي بِحَجْرٍ من القوى المتنفذة.

وثانيها: أن ظرف العرب الضعيف لا يسمح بالتأكد من جَوْدة الأسلحة.

وثالثها: أن الظرف لا يسمح بانتخاب بديلٍ يُوثق به يقود الجيوش العربية، ولاسيما أن المهيمن على أرض المعركة أحد أعمدة الدولة العظمى يومها التي جادت بوعد بلفور.. ووقع ما كان يحذره عبدالعزيز؛ فكان الرصاص يفري صدور الأفراد في الصفوف العربية، وكان أحد القادة لا يسمح بإطلاق النار، ويقول: (ماكو أوامر)، ومن تجاوز بإطلاق النار إما ارتدت عليه بندقيته وإما خانته.. وكان رأي عبدالعزيز إمداد الفلسطينيين بالسلاح والمال والغذاء والدواء والتغاضي عن المتطوعين الذين ينسلون للجهاد بغير إذن رسمي؛ ولهذا فعل المتطوِّعون السعوديون الأفاعيل على الرغم من الهزيمة المرة؛ ولهذه المصابرة غاية هي أن يكون العرب في المناخ المواتي؛ فتكون مشروعية الحرب من جيوش عربية.. وبعد انفصام حرب 48 كان محرماً على العرب من قِبَلِ دول العالم أن يجتمعوا على مقاومة من احتل جزءاً من أرضهم، وأفنى الآلاف من أشقائهم!!.

قال أبو عبدالرحمن: ما حدث في الشرق الأوسط قبل فواقع عصرنا الحاضر افتُرِي عليه بالمفهوم الحديث لمصطلح لإرهاب؛ وإنما هو في الواقع دفاع عن النفس من جَرَّاء مظالم الاستعمار واعتدائه على الأنفس وخيرات الأمة، وطعنه في آخر الأديان الباقي على صفائه وهو للناس كافة، وفرضه ما لا يرضاه المسلمون من عنف في القول والسلوك والمعتقد باسم الحرية وهو في الواقع اعتداء على حرية الأمة، وأعنف ظلم سلوكي بلا مسوغ معقول بأي منطق تغيير هوية الشعب الفلسطيني وتسليم أرضه ليهود الخزر، واستباحة دماء الفلسطينيين، وقد أظهر خيوط الإرهاب التاريخية في العالم (هاليداي) بتحليلٍ جيد وبيَّن انتفاء علاقة ضرورية أو تاريخية بين الهويات الإسلامية وسياسة الإرهاب الوضعية، وقال بالحرف الواحد: ((وعلى أي حال لم يكن العالم الإسلامي هو الذي نظم مذبحة اليهود في الحرب العالمية الثانية، ولا هو الذي طرد السيفارديم من إسبانيا.. وفي كثير من البلدان اليوم نجد أن المسلمين هم ضحايا القمع والإرهاب - في بورما وكشمير وفلسطين وفي الآونة الأخيرة في البوسنة - ولا يستطيع أحد أن يزعم أن المسلمين المناضلين هم وحدهم المسؤولون عن هذه الأزمات)) (6)، وتحدث هاليداي عن الأصولية بالاصطلاح الرديء، وأنها أبعد تاريخياً من الفرقعات الراهنة الآن؛ فذكر في السبعينات أن الحركات الهندوسية الشوفينية عبَّأت الملايين لأعمال إرهابية، وهكذا الأصولية المسيحية في أمريكا، وأحال إلى مصادر لم تر النور باللغة العربية، وكم تمنيت أن يكون للقلم السعودي دور في تعريب مثل هذه المصادر.

قال أبو عبدالرحمن: عوداً إلى مصطلح الأصولية الإسلامية الذي رُبط بالإرهاب أذكر قبل المداخلة كلاماً فيه كثير من الإنصاف لفريد هاليداي أستاذ العلاقات الدولية في مدرسة لندن للاقتصاديات؛ فقد أشار إلى الواقع الراهن، وهو أنه يرتبط في الذهن الغربي ــ بالغين المعجمة ــ الإرهابُ بالشرق الأوسط، ويُـحمِّلُ معظمَ مسؤوليةِ الإرهاب العالمَ الإسلامي، ولقد دحض ذلك بأن كثيراً من الإرهاب في غير الشرق الأوسط، وأن ما حصل في الشرق من إرهاب وافد إليه حديثاً وليس نابعاً منه، وهو الإرهاب عند مثل الفوضويين الروس، والجمهوريين الأيرلنديين، والقوميين الأرمن، والبنغاليين الهندوس، وصهيونيي اليهود، وقبارصة الأتراك منذ عام 1945م.. كما ذكر معاناة الشرق من الإرهاب الذي أُوقع في أرضه (7).. وإلى لقاء إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتكال.

ـــــــــــــ

(1) انظر كتاب (الإسلام وخرافة المواجهة) لفريد هاليداي ص30 و39.

(2) المصدر السابق ص39.

(3) ما وراء السلام/ الطبعة الأولى ص146.

(4) المصدر السابق ص147.. قال أبو عبدالرحمن: الدعم الأخير لتسكيت من خانوا أمتهم، ولم يزد هذا الدعمُ شعوبهم إلا سوءاً.

(5) المصدر السابق ص148.

(6) المصدر السابق 134.

(7) الإسلام وخرافة المواجهة/ الدين والسياسة في الشرق الأوسط ص44-51 بترجمة محمد مستجير/ مكتبة مدبولي/ طبعتهم الأولى عام 1997م.

 

واقعُ الوعدِ والإيعاد في الشرق الأوسط
كتبه لكم: أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري -عفا الله عنه-

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة