Monday  30/05/2011/2011 Issue 14123

الأثنين 27 جمادى الآخرة 1432  العدد  14123

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

لماذا نقرأ الرواية؟ رد صاحبي: كي استوعب ما جرى في الفترة التي تناولها المؤلف. قلت: تغنيك كتب السير والتاريخ والدراسات الاجتماعية ففيها معرفة أكثر. وأجاب آخر: بل من أجل التشويق وقصص الفضائح، قلت: في التقارير الصحفية أكثر إثارة وفضائحية في زمن الإنترنت..

قال آخر: أقرؤها من أجل لذة الحكاية. قلت الحكاية يرويها أغلب البشر ولا تحتاج إبداعاً روائياً.. اذهب إلى جدتك واسمع منها حكايات لذيذة لا تنضب.. علق صاحب آخر: لا تعقدوا الموضوع، أنا ببساطة أقرأ الرواية من أجل المتعة أياً كانت: معلومات، فضائح، حكاية.. المهم أن استمتع.

قلت: تستمتع بماذا؟ المتعة موجودة في كل أنواع الفن. نستمتع بالمسرح وبالسيرك، لكن السيرك للتهريج والمسرح للدراما.. سيطرة التهريج في المسرح سيكون مشوهاً كما أن سيطرة الدراما في السيرك سيكون سخيفاً! المتع أنواع، والخلط دون وعي تشويه للذائقة، فلكل مقام مقال. فالذاهب إلى الاستمتاع يدرك ما يريد من نوع المتعة. مثلاً، أنت تذهب للملعب لتستمتع بمباراة لكرة القدم لا كرة اليد.. أنا أقرأ الرواية كي استمتع بإعادة تشكيلها للعالم الخارجي أو لعاملي الداخلي.. مهارة خيال الروائي في صياغة تجربته الذاتية التي تهز صور الواقع وتنبش دواخلك العميقة هي متعة من نوع خاص، والرواية مكانها الأجمل..

قال: أوه! لا زلت تعقد الموضوع، ما نفع روايات مبدعة تعيد تشكيل الواقع وهي بعيدة عن الواقع ولا تستهوي أغلب الناس الذين يريدون واقعهم كما هو؟ يريدون اجتراره كي يتمتعوا بمآسيهم كما يعرفونها مباشرة دون مواربة إبداعية.. هذه الفضائح التي يستمتعون بها في الروايات هي فضائحهم هم، يريدون أن يرونها في الآخرين.. دعهم يستلذون بها! أنا مثقف أقدم منك، وأقول لك، انتهى زمن هذا الإبداع المتعالي فلا أحد يلتفت إليه! عليك أن تفيق! عليك أن تعترف، أن ما ظللت تدافع عنه هو وهم! أنتم فاشلون! الروايات التي تزعم أنت أنها فجة وضحلة ومشوهة تنتصر وتسود المشهد الروائي..

هذا الحوار دار منذ بضع سنين وتكرر ما يماثله مراراً، حتى مللت وكدت أن أيأس لولا أن بدأت المعادلة تتزحزح رويداً رويداً حتى انقلبت.. حين أخذ المبدعون والمبدعات يستحوذون تدريجياً على مقدمة المشهد الذي تواروا عنه قسراً مع المد الشعبوي المؤقت.. وصارت الرواية السعودية المبدعة تتصدر المشهد الأدبي السعودي. بل إن الرواية السعودية على أيدي هؤلاء المبدعين أخذت تتقدم المشهد الأدبي العربي ككل.. العام الماضي فاز عبده خال بجائزة البوكر، وهذا العام فازت بها رجاء عالم..

وكأنه كان لا بد أن يكتمل العِقد السعودي بفوز رواية «الحمام لا يطير في بريدة» ليوسف المحيميد بجائزة «أبي قاسم الشابي» للإبداع الأدبي، التي تسلمها في تونس الجمعة الماضية.. وهي جائزة عريقة فازت بها الرواية من بين 130 رواية عربية. وكانت أعمال المحيميد تناطح القمم عالمياً، فروايته «فخاخ الرائحة» سبق أن دخلت القائمة النهائية من بين مئات الروايات مع روايتين أخريين لجائزة جان ميشالسكي العالمية. لقد فاجأنا يوسف بصمته الجميل.. فاز من خلفنا دون أن ندري بهدوئه الفادح، وكعادته ترك أعماله تحكي وترك النقاد والناس يقيمون.. فهاجسه الرواية.. الرواية من أجل الرواية!

لقد مثلت أعمال هؤلاء الثلاثة (عالم، المحيميد، خال) ظاهرة إبداعية فذة منذ الثمانينات.. وكان ينظر إليها باعتبارها حالة فنية فريدة فاقدة الهوية أو غير مرتبطة بالمشهد الأدبي السعودي العام قدر ارتباطها بالتجريب الغامض وربما العبثي.. وتم التعامل معها كهوس فني لا يؤخذ على محمل الجد.. فأعمالهم غريبة عن الواقع!

نعم روايات يوسف المحيميد غريبة عن الواقع لأنها لا تنقله كالمرآة ولا كالتقرير كما تجري الأحداث، بل تعيد ترتيبه من خلال المخيلة.. أليس الخيال هو الشرط الوحيد المتأكدون منه لكتابة الرواية كما يذكر كتاب «دليل القارئ إلى الأدبي العالمي» لمؤلفيه هيرلاندز وبيرسي وبراون، فيما الشروط الأخرى كالأحداث والشخصيات هي شروط غير مؤكدة على حد تعبيرهم..

وهكذا، في «الحمام لا يطير في بريدة» تعاقب متقطع للأحداث والشخصيات يتخلله صور للمعاناة في وعي الإنسان تبرق فيها التماعات من لا وعيه توقظ خيباته لتنفجر في ركام الخيبات الماضية، فتتداعى ذاكرته المهزومة في تدفق لا يتبع تسلسل المنطق الزماني ولا المكاني للأحداث الخارجية بقدر ما تقوده فيض التجربة الداخلية المحطّمة.. إنها ذاكرة فهد تركض خلفه لاهثة ومجنونة، حين يفكر بأنه ليس سهلاً أن يتمرد ويغامر، لكنه إن لم يفعل في مراهقته وشبابه، فلن يفعلها أبداً.. هنا تغدو الهزيمة دافعاً للانتصار.. والفشل محفزاً للنجاح..

وهنا يكون القارئ في خضم لقطات إنسانية ينثال فيها الخيال ليعيد ترتيب الطبيعة، ويجرد الواقع من قشوره ليسأل أسئلة خارج الواقع وداخله معاً: هل يطير الحمام؟ هل كانت الطيور تطير في بريدة قديماً، قبل أن ينتفوا قوادم أجنحتها؟ أم لم يعد ثمة هواء هناك، فلا شيء يطير، لا الطير ولا الريش، ولا الناس أيضاًً؟

قبيل نهاية الرواية التي امتدت على 360 صفحة يظل فهد الذي رحل بعيداً يتأمل حماماً بحديقة في لندن، ويسترجع ذاك الحمام الذي يتذكره جيداً، كيف كان يركض ويتقافز لاهثاً دون أن يطير، هل بسبب أجنحته الضعيفة أم لأنه منتوف الريش؟ هل لأن أرجلها مستقيمة كما اكتشف البيولوجيون بأن الطيور في العصور الغابرة كانت تقضي وقتها على الأرض لا على أغصان الشجر، حيث أثبتت الآثار بأن أرجلها مستقيمة تنفع للمشي لا للطيران؟ وهل الحياة في بريدة ما زالت متوقفة في العصور القديمة؟ وبعد أغنية وقطار وحقيبة تنتهي الرواية مفتوحة مشرعة أبوابها للقارئ كي يوصلها ما شاء من محطات الرحلة..

أمين عام الجائزة قال إن الرواية فازت مستوفية الشروط الإبداعية وتفوقت في اللغة والسرد والحوار، إضافة إلى تداخل الأجناس الأدبية والمعمار الروائي الفريد لها، فضلاً عن جرأتها الأدبية على المستوى الاجتماعي والسياسي. وهذه الأخيرة قد تشجع الباحثين عن الإثارة، فالإثارة ليست خللاً في الرواية بل الخلل أن تعتمد عليها لتغطى الضعف الفني.. روايات يوسف المحيميد ترجف ثيابها البيض فيضج لغط الموتى..

alhebib@yahoo.com
 

يوسف المحيميد يكمل العقد!
عبد الرحمن الحبيب

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة