Monday  30/05/2011/2011 Issue 14123

الأثنين 27 جمادى الآخرة 1432  العدد  14123

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

مما أشير إليه في الحلقة السابقة من هذه المقالة، لاسيما في آخرها، شيء من مظاهر النظرة الدونية لدى البعض في جزيرة العرب تجاه اللغة العربية مقارنة باللغة الإنجليزية، ومن هؤلاء -مع الأسف الشديد- أناس من رجالات التعليم وكبار

المسؤولين في الدولة، واستطراداً في الحديث عن هذا الأمر يمكن القول:

قبل أن تستقل الأقطار العربية، التي ابتليت بالاستعمار الغربي، كان المستعمر هو الذي يفرض أن تكون لغته هي اللغة المستعملة في التدريس، وبعد أن ارتحل المستعمر من تلك الأقطار أصبح يوجد من المسؤولين فيها عن التربية والتعليم من هم مُتحمِّسون لأن يكون التدريس في أقطارهم بلغة غير العربية، ومن المعروف أن من بلدان الجزيرة العربية ما كانت تحت نفوذ الدولة البريطانية بشكل من الأشكال، وأنها نالت استقلالها رسمياً. فما الذي حدث؟

في قطر من أقطار هذه الجزيرة، التي هي مهد العربية، غُيِّر التدريس في الجامعة الأم بها من اللغة العربية، وشمل هذا حتى المواد الدينية والتاريخ الإسلامي والوطني، بل وقسم اللغة العربية باستثناء مسارين فقط من جميع مواد هذا القسم، وسُمح في قُطر آخر لم يقع تحت أي نفوذ أجنبي بأن يكون التدريس في المدارس غير الحكومية بلغة أجنبية، ابتداء من السنة الأولى الابتدائية، وإن كان تلاميذها عرباً مواطنين. ويبدو أن من أسباب ذلك التغيير وهذا السماح -إذا استبعدت نظرية المفكِّر الجزائري مالك بن نبي- أن بعض من قَدَّر الله أن تكون مقاليد الأمور التعليمية والتربوية في أيديهم قد خُيل إليهم أن التقدم المعرفي مرهون بأن تكون اللغة المستعملة للوصل إلى المعرفة لغة غير عربية، أي الإنجليزية، في ضوء التأمرك المرتفعة راياته في المنطقة. ولقد أشير في الحلقة الأولى من هذه المقالة، إلى أن مثل هذا التخيل ليس مبنياً على أساس صحيح، وأن مما يُؤيد عدم صحته رؤية منظمة اليونسكو، وما هو جار في اليابان وكوريا الجنوبية والكيان الصهيوني.

ومن أغرب ما سمعته بشأن تَبنِّي التدريس بغير اللغة العربية قول أحد من يرون هذا الرأي: إن هذا سيجعل الفرد من الجيل الصاعد لا يواجه مشكلة اللغة عندما يبعث للدراسة في بلد لغة أهله الإنجليزية والتدريس فيه بها. ومن مقتضيات هذا الرأي أن لا أمل يرجى بأن تكون مؤسساتنا التعليمية -مع ازدياد أعداد جامعاتنا في الفترة الأخيرة- مؤهلة لتعليم الجيل العلم المطلوب خلال الاثني عشر عاماً المقبلة على الأقل، وهي مدة التعليم من الأولى الابتدائية إلى المرحلة الجامعية. لكن ما هو أهم هو أن من يرون هذا الرأي ينسون، أو يتناسون، أن الأعداد الكبيرة للمتخصصين في العلوم البحتة والتطبيقية المفتخرة بهم جامعاتنا وما يوجد لدينا من مراكز بحوث قد حصلوا على شهادات عليا في تلك العلوم دون أن يعيقهم كونهم في التعليم العام قد درسوا تلك العلوم باللغة العربية.

إن جعل اللغة الأجنبية لغة التدريس في مدارس أقطار الجزيرة العربية دليل واضح على نظرة دونية إلى اللغة العربية، ومضايقة لها في مهدها، وهو أمر مناقض لما قرره الزعماء العرب، وكَرَّروا تقريره، في مؤتمراتهم من وجوب العناية باللغة العربية وتنمية الاعتزاز بها، وتكفي الإشارة إلى مؤتمر قِمَّتهم في الرياض، الذي لم تمض على انعقاده مدة تنسينا عباراته.

ومما يقوله المتبنون جعل التدريس في المدارس باللغة الأجنبية -الإنجليزية- تأييداً لرأيهم: إن سرعة المستجدات في العلوم البحتة والتطبيقية بالذات لم تواكبها سرعة تعريب لمصطلحات هذه المستجدات، بل إن الجهات المعنية بالترجمة -وفي طليعتها مجامع اللغة العربية- لم تَتَّفق على ترجمة موحدة لها. ولو سُلِّم بصحة ذلك فإن من المعلوم أنه ليس هناك مانع من أن تتبنى أي لغة مصطلحاً جديداً من لغة أخرى. وفي كثير من اللغات الأوروبية وغيرها كلمات وتعبيرات ومصطلحات ليست أساساً منها، وعلى هذا فليس من الضروري أن يكون هناك إصرار -مثلاً- على استعمال كلمة «نفط» بدلاً من كلمة بترول، أو كلمة «هاتف» بدلا من تليفون، أو كلمة «مرناة» بدلا من كلمة تليفزيون، بل إني لا أرى داعياً لاستعمال تعبير «الشبكة العنكبوتية» بدلا من تعبير الإنترنت، فاقتباس المصطلحات العلمية بألفاظها شيء وجعل لغة التدريس لغة أجنبية شيء آخر.

إن التدريس بلغة من اللغة سيجعل الذي درس بهذه اللغة يصعب عليه مستقبلاً أن يُعبر عن فكرته التي يريد التعبير عنها بغير هذه اللغة ومما يلحظه الجميع أن من تعلموا بالإنجليزية -مثلاً- وإن كان ذلك التعلم لم يحدث إلا في المرحلة الجامعية أو ما بعدها، كثيراً ما عانوا مشقة في التعبير عما يفكرون فيه دون استعمال مفردات، أو تعبيرات، بالإنجليزية بدلا من العربية، وإذا كان هذا يحدث بالنسبة لمن لم يتعلموا بالإنجليزية إلا في المرحلة الجامعية أو ما بعدها فكيف سيكون الوضع بالنسبة لمن كانت لغة تعلُّمه هي اللغة الإنجليزية -لا العربية- ابتداء من المرحلة الابتدائية؟

لقد كتب عدد من الكُتَّاب المقتدرين على إيفاء الموضوعات التي يكتبون عنها حقها في التناول بشأن جعل التعليم بلغة غير العربية. وفي طليعة هؤلاء رائد من الرواد الذين تلقوا العلم في جامعات دول متقدمة، وهو الدكتور أحمد الضبيب، وذلك في مقالة من حلقتين عنوانها: «تعجيم التعليم»، والكاتبة الفاضلة مرام مكاوي في مقالة عنوان «سوري.. ربنا»، وهو عنوان مأخوذ من ختام تلك المقالة التي اختتمتها بقولها: «أخشى أن يأتي يوم يوم ندعو فيه (نحن العرب) الله بالإنجليزية كما فعل طفل صديقتي حين طلبت منه أن يستغفر الله لأنه ضحك في صلاته فقال ببراءة:» سوري.. ربنا».

ومظهر من مظاهر مضايقة اللغة العربية في مهدها ما يتجلى من وجود كثير من أسماء المحلات التجارية بأسماء غير عربية، بعضها بأسماء شركات عالمية كأسماء الفنادق، وهو أمر مقبول، لكن بعضها الآخر ليست بأسماء مثل تلك الشركات، وهذا يُذكرني بأول زيارة قمت بها إلى الجزائر، البلد الذي استهدف من استعمره سابقاً طمس هويته، ديناً ولغة. أخذني الزميل العالم المؤرخ أبو القاسم سعدالله إلى المنطقة التجارية في العاصمة، وقال لي: كانت أسماء هذه المحلات كلها - قبل الاستقلال- مكتوبة بالحروف اللاتينية، وكانت هذه الصيدلة هي المحل الوحيد، الذي كتب على بابه: «هنا بيتكلموا العُرَابية»، أي هنا من هم يتكلم العربية، وبعد الاستقلال أصبحت كل الأسماء مكتوبة باللغة العربية، حينذاك حمدت الله على أنه قيض لذلك البلد الكريم قيادة على رأسها شخصية عظيمة صممت على أن ترسخ لها هويتها الأصيلة، وهو بومدين، واليوم وأنا أرى ما يحدث في وطني، الذي لم يُبتلَ باستعمار أجنبي، لا أملك إلا أن أدعو الله بأن يلهم الجميع لاتِّخاذ ما يُرسِّخ هوية هذا الوطن العربية.

ومن مظاهر مضايقة اللغة العربية في مهدها أن كثيراً من الشركات غير الحكومية لا تهتم بمن يجيدون العربية اهتمامها بمن يجيدون الإنجليزية، بل إن منها ما تعلن أن من شروط الحصول على عمل فيها إجادة هذه اللغة الأجنبية مع أن أثر وجوه نشاطها لا يحتاج إلى مثل هذه الإجادة. ونتيجة لذلك أصبح العُمال غير العرب هم الغالبية في تلك الشركات والمؤسسات، وأصبح من المتوقع أن يستعمل المواطن الإنجليزية في تعامله مع هؤلاء، اضطراراً أو عدم مبالاة، وصارت أكثر العقود بين الشركات والمؤسسات المشار إليها والمواطنين تكتب بها، ومع وجود قرارات حكومية، أحياناً مظهرها يهدف إلى الحد من استعمال غير العربية في التعامل التجاري فإن تنفيذ هذه القرارات ما زال متعثراً كل التعثر.

صحيح أنه يُحتَاج -بسبب تشابك المصالح التجارية عالمياً- إلى الإنجليزية في وجوه من نشاط الشركات والمؤسسات، مثل التعامل مع شركات أجنبية، وتمثيل بعض مسؤوليها في الملتقيات الدولية، غير أن هذا يمكن أن تُحل مشكلته -إذا وجدت العزيمة للبحث عن حلول- بعد الالتحاق بالعمل، وذلك بإتاحة الفرصة للموظف بأن يأخذ دورة مكثفة بالإنجليزية إذا كان عمله يحتاج إلى إجادتها، أما أن تجعل معرفة الإنجليزية شرطاً مسبقاً للحصول على الوظيفة فموقف يجمع بين وضوح النظرة الدونية إلى اللغة الوطنية وبين عدم مراعاة شباب الوطن الذين تزداد حاجتهم إلى العمل كسباً للعيش الكريم، وتزداد حاجة الوطن إلى عطائهم في مختلف وجوه الحياة للرقي إلى المكانة المرجوة، في بلدان العالم يحتاج العامل الوافد للعمل فيها إلى معرفة لغتها، ويضطر إلى استعمالها. أما أن يكون المواطن -كما هو واقع في دول مجلس التعاون الخليجي- هو المحتاج إلى معرفة اللغة الأجنبية في بلده، وهو المضطر إلى استعمالها في تعامله مع الأجانب العاملين فيها، فأمر غريب كل الغربة، مؤسف أشدَّ الأسف.

 

مضايقة اللغة العربية في مهدها (3-3)
د. عبد الله الصالح العثيمين

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة