Monday  30/05/2011/2011 Issue 14123

الأثنين 27 جمادى الآخرة 1432  العدد  14123

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

محليــات

      

كل نسخة مقلِّدة لغيرها تقليداً (أعمى) لا فائدة منها، ولا تستطيع أن ترسم لها صورةً ذهنيةً ثابتةً في الأذهان، سواء أكانت هذه النسخة في عالم الأحياء أم في عالم الجمادات.

إن شجر الزينة لا يمكن أن يثبت أمام الشجر الأصيل الذي يعيش حياته بصورة طبيعية، ما نرى ذلك النخيل (الكاذب) يبرز في بعض الشوارع والميادين أخضر اللون جميل الشكل، ولكنه يتلاشى أمام شجرة النخيل السامقة الباسقة التي تحظى بتقدير الإنسان وحبه وتفاعله معها غرساً ونمواً وثمرةً وحصادا.

وكذلك شأن الأمم والدول وبني البشر، فالأمة التي تتحول من أمةٍ أصيلة ثابتة الأركان عميقة الجذور، إلى أمةٍ مقلدةٍ لغيرها، لاهثةٍ وراء بريق الأمم التي تمثل نفسها وفكرها وثقافتها، وتثبت لها بذلك صورة ذهنية مستقرة في أذهان الناس، هذه الأمة المقلِّدة سرعان ما تتلاشى قيمتها عند أهلها قبل أن تتلاشى قيمتها عند الآخرين.

وفي مجال الدول المعاصرة تبرز لنا الأمثلة بوضوح تام، فإن الدولة التي تستفيد مما عند الآخرين دون تقليد، وتأخذ الحكمة من غيرها دون تبعية مقيتةٍ، أو تقليد أعمى، تظل دولةً بارزة، ثابتة الأركان، ذات صورة جلية في أذهان الناس، وهي - مع ذلك - تصبح دولةً ناجحةً في ميادين العلم والمعرفة والسياسة والاقتصاد.

حينما حاولت المخابرات الأمريكية منذ عشرات السنين أن تحول بعض الدول المتجذرة في أرضها، المتمسكة بشخصيتها المتميزة إلى دول مقلدة لأمريكا في معظم جوانب شخصيتها، كانت تهدف من ذلك إلى السيطرة على تلك الدول، والإمساك بزمامها لتكون تابعةً لها في كل شيء، لأن تحويل الدولة - أية دولة - إلى مقلِّدة لغيرها تقليداً يتغلغل فيها، حتى ينال القيم والمبادئ، والسلوك، واللغة، يقضي على شخصية تلك الدولة، ويحدث في نسقها الاجتماعي خللاً كبيراً يسوقها إلى منحدراتٍ لا تؤدي إلى خير.

وقد فطنت دول شرقية - برغم محاولات التغريب والأمركة - إلى ذلك فبذل فيها المفكرون والسياسيون اليقظون جهوداً كبيرة، صرفوا عليها ميزانيات كبيرة وما يزالون حتى يحولوا دون الوصول إلى مرحلة التقليد الأعمى التي تؤدي - بدورها - إلى الذوبان في الآخر، وهي.. كما نعلم - جهود مضنية تحتاج - إلى مصابرة ومتابعة؛ لأن وسائل الإعلام والاتصال الحديثة فتحت أبواب التواصل على مصاريعها كلها، وهو تواصل خطير يحتاج إلى يقظة كبيرة لأن الدول المتنفذة في العالم، وفي مقدمتها أمريكا، تضع خططها لإذابة الآخرين فيها موضع التنفيذ بلا تأخير ولا تسويف، وهذا يشكل خطورة على شخصيات الدول المستهدفة المستقلة الغافلة.

الشواهد في الصين واليابان، وتركيا واضحة الوضوح كله، ومن يتتبع خطوات (التأصيل) في تلك الدول مقابل (التذويب والتقليد) يدرك مدى المعاناة في هذا الإطار، ولكنه يدرك أيضاً مدى لذة المعاناة وجمالها لأنها تبذل في صد تيارات التحويل والتذويب التي تحاول إذابة الشعور بالاستقلال، والشخصية المتميزة للدولة ذات التاريخ العريق وحينما نتوقف عند (تركيا) مثلاً، ونستذكر سنواتها العجاف التي عاشتها في طريق التحويل والتذويب على أيدي العلمانيين المستغربين الذين كادوا يدمرون شخصية بلادهم المستقلة بتذوبيها في الغرب، ثم ما حدث في السنوات الأخيرة من عودةٍ إلى الأصول، ووقوفٍ واعٍ في وجه التغريب والتذويب، حينما نتوقف متأملين هذه الحالة ندرك أهمية التماسك وعدم الانسياق وراء بريق التغير المندفع، وقد رأينا تركيا في السنوات الأخيرة تقوى بعد ضعف، وتتماسك بعد اهتزاز، وتربح بعد خسران - والطريق أمامها طويل - وإننا - نحن المسلمين - أجدر الناس بالبعد عن الانزلاق في منحدرات التقليد الأعمى للآخر، وبوضع خطط عاجلة لإعادة ترتيب الأوراق، وتأصيل مسيرة التطوير والتنمية تأصيلاً إسلامياً عربياً (عقيدةً ولغة ومنهجاً)، فإن في هذا التأصيل الخير - كل الخير - لنا حكومات وشعوباً، وإلا فلا يلومن المقلد تقليداً أعمى إلا نفسه.

إشارة: (لا تكونوا إمعةً، إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن، وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا أن لا تَظْلِموا).

 

دفق قلم
النسخ المقلِّدة تتلاشى
د. عبد الرحمن بن صالح العشماوي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة