Thursday  02/06/2011/2011 Issue 14126

الخميس 30 جمادى الآخرة 1432  العدد  14126

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      



إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه, أما بعد:

فإن من أعظم نعم الله على بلاد الحرمين أن هيَّأ لها قادة أوفياء, ورجالاً مخلصين, نذروا أنفسهم لخدمة دينهم, ونصرة شريعة الله, ولا غرو فهذه دولة الإسلام, نشأت على رعاية الدين والعقيدة, وتأسست منذ اللقاء التأريخي بين الإمامين العظيمين الإمام محمد بن سعود, والإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمهما الله- اللذين تعاهدا على نصرة توحيد الله, وتحكيم شرع الله, ومنذ هذه اللحظة التأريخية وهي سائرة على هذا المنهج الرشيد, والموقف السديد, تنصر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وتحكمهما في شؤون الحياة, مع الأخذ بمعطيات التطور والنمو والارتقاء, في توازن مدروس, ووسطية تمثل الفهم الحقيقي لهذا الدين, ولذا فإن أي أمر يخدم هذين الأصلين, والمنبعين الصافيين, ويعيد المسلمين إليهما فإن القيادة تسعى لذلك بكل ما أوتيت من قوة, ويأتي في هذا الإطار الذي يعد جزءًا من سياسة المملكة العربية السعودية, وأساسًا من ثوابتها تلك المبادرة الرائدة لأمير السنة صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز آل سعود, النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء, وزير الداخلية -حفظه الله وأمد في عمره على الطاعة والإيمان- التي تمثلت في الجائزة العالمية للسنة النبوية, تلكم الجائزة النوعية الرائدة التي بدأت انطلاقتها في دورتها الأولى, وهاهي في هذا العام المبارك تنهي دورتها الخامسة من عمرها المديد بإذن الله, واكتسبت بعدًا عالميًا, وشهرة واسعة, ونجاحًا باهرًا, وتميزًا في المضامين, واهتمامًا كبيرًا لا بين أبناء هذا الوطن فحسب بل في أرجاء المعمورة, وتنامت في صورتها وأهدافها وعالميتها, فبعد جائزة واحدة أصبحت ثلاث جوائز, لتضم جائزة الأمير نايف بن عبد العزيز آل سعود العالمية للسنة النبوية والدراسات الإسلامية المعاصرة, وجائزة الأمير نايف بن عبد العزيز آل سعود التقديرية لخدمة السنة النبوية, ومسابقة الأمير نايف بن عبد العزيز آل سعود لحفظ الحديث النبوي, كما أقرت الأمانة العامة النشاط العلمي والثقافي, والذي أدرج تحته الكثير من الفعاليات, والتي حققت الفائدة على المستوى الداخلي والخارجي, وهذه الجائزة في فروعها الثلاثة تجتمع على خدمة المصدر الثاني للتشريع, وخير الهدي, وجوامع الكلم سنة الحبيب المصطفى, والرسول المجتبى صلى الله عليه وسلم, وتخصيص هذه الجائزة العالمية بفروعها للسنة النبوية له مؤشراته ودلالاته الخاصة والعامة, فهو ينبئ عن شخصية فذة, تشربت الإسلام بصورته الوسطية, وانتهجت منهج سلف الأمة, حتى عدت محبة للسنة النبوية, مدركة لأهميتها في معالجة القضايا والنوازل والأحكام والمستجدات, مؤمنة بأن الأمن الشمولي عمومًا, والأمن الفكري خصوصًا ينبني على التمسك بالمصدرين الأساسيين الكتاب والسنة.

وهذا في شأن راعي الجائزة, ولكنه ديدن ولاة أمرنا عمومًا, كما أنه له دلالته على المحبة الخاصة لخليل الله ورسوله, نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, لأن من دلائل محبته نصرة شريعته, ونشر سنته, والعمل بها, وإحياءها, وما هذه الجوائز العالمية إلا حوافز وبواعث على تنشيط الهمم, وتوجيه المسلمين وناشئتهم على وجه الخصوص إلى هذا المصدر العظيم, لتكون العناية به حفظًا وعناية واستنباطًا جزءًا من الجهود العلمية والعملية التي يقومون بها.

وفي المجال العام فإن من العواصم والمنجيات بل والواجبات الأخذ بالسنة وفهمها, والعناية بها علمًا وفهمًا ونشرًا ونصرة, كيف لا وهي هدي من أمرنا الله بالاهتداء والاقتداء به في كل الأحوال, والتزام الهدي النبوي هو السبيل للسلامة من الفتن والمشكلات والأزمات, والبعد عن البدع والخرافات, والرد على أهل الشبهات الذين حادوا عن الصراط المستقيم, إذ تعد السنة النبوية المطهرة كما هو معلوم المصدر الثاني من مصادر الشريعة الإسلامية, بل قد تكون المصدر الأول في كثير من الأحكام, والرسول صلى الله عليه وسلم أوتي القرآن والسنة معًا, قال تعالى: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) [الأحزاب:34], وقال سبحانه: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [الجمعة:2].

وقد ذكر الشافعي, ويحيى بن كثير, وقتادة, وغيرهم: أن المقصود بـ"الحكمة" السنة؛ لأن ما يتلى في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم إمَّا القرآن وإمَّا السنة.

وقال صلى الله عليه وسلم: "لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به, أو نهيت عنه, فيقول: بيننا وبينكم القرآن فما وجدنا فيه من حلال استحللناه, وما وجدنا فيه من حرام حرمناه, ألا أني أوتيت القرآن ومثله معه", وقد أخبر الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:4].

وأمر باتباعه وطاعته فقال: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) [الحشر:7], وقال: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [النور:54].

وحذرنا من مخالفته فقال: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم) [النور:63].

ولم يجعل لنا الخيرة أمام حكمه فقال سبحانه: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب:36].

وجعل ذلك من أصول الإيمان فقال عز وجل: ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء:65].

وفرض على المؤمنين طاعته, لأنها من طاعة الله, فقال تعالى: (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ) [النساء:80].

وهذه النصوص تبين منزلة السنة النبوية, وتظهر مكانتها في الدين, وأثرها في بيان الأحكام الشرعية, وتقطع دابر الشك في وجوب الأخذ بالسنة في الأدلة الشرعية, وعدها في المقام الثاني بعد القرآن؛ لمكانتها في نفس المؤمن, وتَثَبَّت المسلمين في نقلها بصورة لم يُعهد لها نظير في تاريخ الأديان, فقد بذلت جهود عظيمة وجبارة لتمييز الصحيح من غيره فيما نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم إن السنة جاءت مفسرة, ومبينة, وشارحة لكثيرة مما جاء في القرآن الكريم من أحكام مجملة, لا يمكن معرفتها إلا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, فالرسول صلى الله عليه وسلم بين للناس ما نزل إليهم من ربهم بيانًا كاملاً شاملاً في دقيق أمورهم, وجليلها, وظاهرها, وخفيها, حتى علمهم ما يحتاجون إليه في مآكلهم, ومشاربهم ومناكحهم, وملابسهم, ومساكنهم, وما يحتاجون إليه في عبادة الله عز وجل, وما يحتاجون إليه في معاملة الخلق, وعلمهم كيف يتعاملون بينهم في البيع, وغير ذلك, حتى قال أبو ذر رضي الله عنه: "لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لنا منه علمًا".

وفي صحيح مسلم عن سلمان رضي الله عنه أنه قيل له: "قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ قال: أجل, لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو وبول".

قال ابن القيم رحمه الله: "وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر للأمة منه علما، وعلمهم كل شيء حتى آداب التخلي وآداب الجماع والنوم والقيام والقعود, والأكل والشرب, والركوب والنزول, والسفر والإقامة, والصمت والكلام, والعزلة والخلطة, والغنى والفقر, والصحة والمرض, وجميع أحكام الحياة والموت, ووصف لهم العرش والكرسي والملائكة والجن والنار والجنة ويوم القيامة وما فيه حتى كأنه رأي عين, وعرفهم معبودهم وإلههم أتم تعريف حتى كأنهم يرونه ويشاهدونه بأوصاف كماله ونعوت جلاله, وعرفهم الأنبياء وأممهم وما جرى لهم, وما جرى عليهم معهم حتى كأنهم كانوا بينهم, وعرفهم من طرق الخير والشر دقيقها وجليلها ما لم يعرفه نبي لأمته قبله, وعرفهم صلى الله عليه وسلم من أحوال الموت وما يكون بعده في البرزخ وما يحصل فيه من النعيم والعذاب للروح والبدن ما لم يعرف به نبي غيره, وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من أدلة التوحيد والنبوة والمعاد والرد على جميع فرق أهل الكفر والضلال ما ليس لمن عرفه حاجة من بعده, اللهم إلا إلى من يبلغه إياه ويبينه ويوضح منه ما خفي عليه, وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من مكايد الحروب ولقاء العدو وطرق النصر والظفر ما لو علموه وعقلوه ورعوه حق رعايته لم يقم لهم عدو أبدا, وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من مكايد إبليس وطرقه التي يأتيهم منها وما يتحرزون به من كيده ومكره وما يدفعون به شره ما لا مزيد عليه, وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من أحوال نفوسهم وأوصافها ودسائسها وكمائنها ما لا حاجة لهم معه إلى سواه, وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من أمور معايشهم ما لو علموه وعملوه لاستقامت لهم دنياهم أعظم استقامة.

وبالجملة فجاءهم بخير الدنيا والآخرة برمته, ولم يحوجهم الله إلى أحد سواه, فكيف يظن أن شريعته الكاملة التي ما طرق العالم شريعة أكمل منها ناقصة تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها, أو إلى قياس أو حقيقة أو معقول خارج عنها؟ ومن ظن ذلك فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعده, وسبب هذا كله خفاء ما جاء به على من ظن ذلك وقلة نصيبه من الفهم الذي وفق الله له أصحاب نبيه الذين اكتفوا بما جاء به, واستغنوا به عما سواه, وفتحوا به القلوب والبلاد, وقالوا: هذا عهد نبينا إلينا, وهو عهدنا إليكم, وقد كان عمر يمنع من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن يشتغل الناس به عن القرآن, فكيف لو رأى اشتغال الناس بآرائهم وزبد أفكارهم وزبالة أذهانهم عن القرآن والحديث؟ فالله المستعان.

وقد قال الله تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون) [العنكبوت:51] وقال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين) [النحل:89] وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين) [يونس:57].

وكيف يشفي ما في الصدور كتاب لا يفي هو وما تبينه السنة بعشر معشار الشريعة؟ أم كيف يشفي ما في الصدور كتاب لا يستفاد منه اليقين في مسألة واحدة من مسائل معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله؟ أو عامتها ظواهر لفظية دلالتها موقوفة على انتفاء عشرة أمور لا يعلم انتفاؤها, سبحانك هذا بهتان عظيم؟

يا لله العجب! كيف كان الصحابة والتابعون قبل وضع هذه القوانين التي أتى الله بنيانها من القواعد, وقبل استخراج هذه الآراء والمقاييس والأوضاع؟

أكانوا مهتدين مكتفين بالنصوص أم كانوا على خلاف ذلك؟ حتى جاء المتأخرون فكانوا أعلم منهم وأهدى وأضبط للشريعة منهم وأعلم بالله وأسمائه وصفاته وما يجب له وما يمتنع عليه منهم؟ فوالله لأن يلقى الله عبده بكل ذنب ما خلا الإشراك خير من أن يلقاه بهذا الظن الفاسد والاعتقاد الباطل".

وهذا التقرير الرائع من هذا العلم العالم الفذ ابن القيم رحمه الله آثرت نقله لبيان أهمية السنة, ووجوب تقديمها على أقوال الناس, واعتمادها متى صحت, وهذا جزء من عقيدة المسلم, وهو تحقيقٌ لشهادة أن محمدًا رسول الله.

وقد بين الشافعي رحمه الله أنه لن تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها, قال تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد) [إبراهيم:1].

وقسّم رحمه الله الأحكام إلى أقسام:

** الأول: ما أبانه الله لخلقه نصًّا, كذكره لمجمل فرائضه: من الزكاة, والصلاة والحج, وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن, وتحريم الزنا, والخمر, وأكل الميتة, ولحم الخنزير, وبيان فرائض الوضوء.

** الثاني: ما جاء حكمه مجملاً, وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم بسنته القولية, والفعلية, والتقريرية, كتفصيل مواقيت الصلاة, وعدد ركعاتها, وسائر أحكامها, وبيان مقادير الزكاة, وأوقاتها, والأموال التي تزكى, وبيان أحكام الصوم, ومناسك الحج, والذبائح والصيد, وما يؤكل وما لا يؤكل, وتفاصيل الأنكحة, والبيوع والجنايات, مما وقع في القرآن مجملاً في القرآن.

وهو الذي يدخل في الآية الكريمة: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون) [النحل:44].

** الثالث: ما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم مما ليس فيه نص حكم بالقرآن, حيث فرض الله في كتابه طاعة رسوله, والانتهاء إلى حكمه في قوله: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِين) [المائدة:92], وقوله: (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) [النساء:80], فمن قبل هذه السنة امتثل أمر الله جل جلاله.

وقد تعرض ابن القيم رحمه الله في بيان وجوب اتباع السنة ولو كانت زائدة على ما في القرآن إلى مثل هذا التقسيم فقال: "والسنة مع القرآن على ثلاثة أوجه:

** أحدها: أن تكون موافقة له من كل وجه؛ فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتظافرها.

** الثاني: أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن وتفسيرا له.

** الثالث: أن تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه أو محرمة لما سكت عن تحريمه.

ولا تخرج عن هذه الأقسام, فلا تعارض القرآن بوجه ما, فما كان منها زائدا على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم: تجب طاعته فيه, ولا تحل معصيته, وليس هذا تقديما لها على كتاب الله, بل امتثال لما أمر الله به من طاعة رسوله, ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطاع في هذا القسم لم يكن لطاعته معنى, وسقطت طاعته المختصة به, وإنه إذا لم تجب طاعته إلا فيما وافق القرآن لا فيما زاد عليه لم يكن له طاعة خاصة تختص به, وقد قال الله تعالى: (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) [النساء:80], وكيف يمكن أحدا من أهل العلم أن لا يقبل حديثا زائدا على كتاب الله؛ فلا يقبل حديث تحريم المرأة على عمتها ولا على خالتها, ولا حديث التحريم بالرضاعة لكل ما يحرم من النسب؟".

وعلى هذا فسنة رسول صلى الله عليه وسلم ثروة خصبة في بيان مجمل القرآن, وتخصيص عامه, وتقييد مطلقه, وتشريع أحكام لم يأت لها نص في القرآن, وهي مادة غزيرة تغذي مقاصد الإسلام, وتنمي أحكام شريعته, ومن قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله عز وجل أشد قبولاً؛ لأن الله فَرَض طاعة رسوله, ولا يحل لمسلم عَلِمَ ما في الكتاب أو السنة أن يخالف واحدًا منهما.

وبهذا ندرك أن الحرص على إظهار السنة, وحفظها وحمايتها من التغيير والتبديل, وحفز الهمم على الاهتداء بما فيها من حكم وأحكام, ومقاصد ومعانٍ يعد من حفظ الشريعة, ونصرها, ومن نصرة النبي صلى الله عليه وسلم, وبه يظهر ما حبى الله به أمير السنة, وما وفقه إليه من عمل جبار, لا يمكن أن يقادر قدره, ونحتسب على الله جل وعلا أن يكون أميرنا المبارك أمير السنة ممن يحيون السنة النبوية, ويعملون على نشرها, وأن يكون يوم القيامة ممن يرزقون شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, ويردون حوضه لقاء ما يقوم به من هذه الأعمال الجليلة المباركة, وحقًا فإن هذه هي النصرة التي يكون لها أثرها الفاعل لمواجهة خصوم الإسلام, والذين وقعوا في عرض المصطفى صلى الله عليه وسلم, كما أننا نحتسب على الله أن يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء)).

والمتأمل لهذه الجائزة العالمية يلحظ أمرًا تتميز به عن كثير من الجوائز, فهي الفريدة في هذا المجال المتعلق بالسنة النبوية, وفيها من الشمولية وتنوع المستويات ما هو مثار إعجاب كل مسلم, فتشمل البحث العلمي الذي يعنى بموضوعات غاية في الأهمية مرتبطة في السنة النبوية, وتشمل تكريم العلماء العاملين في مجال نشر السنة المطهرة وخدمتها, وتشمل تشجيع الطلبة والطالبات على حفظ السنة وتدارسها, كما وأن إطار نشاط الجائزة يشمل نشاطات متنوعة دائمة من محاضرات وحلقات بحث, وكل ذلك يصب في خدمة السنة النبوية.

ومن التوفيق في شأنها اختيار موضوعها, ومجالها ومكانها, فموضوعها ومجالها كل ما يصب في خدمة سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأعظم به من موضوع, وأكرم به من مجال, ولذلك ارتبط مكانها بمهاجر صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم, إشارة إلى أن هذا الارتباط يحمل أبعادًا مهمة, فالمكان مبارك بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن البركة أن يكون ما ينطلق من أنشطة وجهود يباركها الله, ثم هي مشع النور, ومنها انتشرت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعني العلماء بها قديمًا وحديثًا, فكان المسجد النبوي المكان الأمثل لانعقاد حلقات العلماء يؤهلون طلبة العلم بما ينهلونه من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم, حتى بلغ العلم الآفاق, بل إن العلماء -رحمهم الله- يقررون أن للمكان أثرًا في التصور والحكم, ولهذا عدّ الإمام مالك رحمه الله عمل أهل المدينة حجة, وسبب ذلك بأنهم على حسن حالهم وقرب عهدهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم لا يتفقون على غير ما مضت عليه السنة عملاً, فاعتبر أن للمكان أثرًا على التصور والحكم.

ومن الملفت في شأن هذه الجائزة العالمية التطور السريع الذي بارك مسيرتها, فعلى الرغم من أنها في دورتها الخامسة إلا أنها تطورت تطورًا مذهلاً, وأثبتت جدارتها, وانتشر صيتها وسمعتها, فمن جائزة واحدة إلى ثلاث جوائز كما مرّ, وفي انطلاقتها تشهد حراكًا وفعاليات متنوعة كلها تصب في خدمة سنة النبي صلى الله عليه وسلم لتمثل هذه الجهود صورة مثالية رائعة في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ونشرها وإحيائها, وإثارة اهتمام المختصين والعلماء والكافة بها, ولم يقتصر جهد الأمير المبارك صاحب السمو الملكي النائب الثاني على تمويلها من ماله الخاص, ودعمها بكل ما يحقق نجاحها وتميزها, بل رام -وفقه الله وسدده- أن تكون عملاً مؤسسيًا لضمان الاستمرارية في هذه الرائعة من روائعه, ولذا أوقف سموه قطعة أرض من أملاكه الخاصة؛ ليبنى عليها فندق يخصص ريعه في شكل جائزة سنوية تمنح للذين يقومون بإحياء السنة النبوية المطهرة تحت مسمى: "وقف جائزة الأمير نايف بن عبد العزيز آل سعود للسنة النبوية والدراسات الإسلامية المعاصرة".

وفي الدورة الخامسة للجائزة سجلت الجائزة أبعادًا هامة تضاف إلى تميزها الذي ثبت في دوراتها السابقة, فمن أهم الأبعاد: البعد العالمي؛ الذي مرّ وأثبته, وأظهره اختيار الفائزين من عدد من الدول, وهذا يؤكد تجاوز هذه الجائزة الحدود الوطنية لتخاطب العالم كله كما هو شأن الإسلام ورسالته العالمية, فالسنة النبوية حل عاجل لمشكلات العالم, الذي يحفل بالكثير من التحديات والاضطرابات والتحولات, وتعدد الشعارات, مما يحتم على المسلمين العودة إلى المصادر الأصلية لاستقاء الحلول, ولغة العصر اليوم لغة البحث والعلم, فإذا بني البحث على هذا النبع الصافي, واتجه علماء المسلمين إلى هذه الكنوز النبوية أثمرت جهودهم حلولاً عملية فاعلة في مواجهة كل مشكلة.

ومن الأبعاد المهمة: تلك الموضوعات التي اختيرت بعناية, وشكلت معالجات مهمة على ضوء السنة, وأوجدت تنافسًا كبيرًا بين الباحثين, وأظهرت ما قد يخفى على البعض من أن السنة النبوية حفلت بكل ما يحتاجه الناس في حياتهم, وعالجت ما يعانونه من مشكلات كبرى على مستوى الأمة ومستوى الفرد, فمكانة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثرهم في حفظ السنة النبوية, وواجب الأمة نحوهم, والتعامل مع غير المسلمين في السنة النبوية, والاستثمار المالي في الإسلام, والجهاد في الإسلام موضوعات غاية في الأهمية تضاف إلى ما كان في الدورات السابقة من موضوعات تمثلت في العناية بحقوق الإنسان, وفقه الحوار مع المخالف, ومنهج الدعوة في ضوء الواقع المعاصر, وغيرها من الموضوعات التي تشكل في مجملها أهدافًا سامية, وإنجازات عظيمة, تربط الأمة بمصادر عزتها, وتذكي روح التنافس بين العلماء وطلاب العلم وشباب الأمة للعناية بالسنة النبوية عناية فائقة, حفظًا وتدبرًا واستنباطًا واستنتاجًا, وتأملاً وفهمًا عميقًا يكون له الأثر الفاعل في التطبيق العملي والسلوكي, الذي يعيد الأمة إلى ما كان عليه السلف الصالح حين اعتنوا بالسنة, وأخذوها بهذا التصور الشمولي, فصار تطبيقهم لهذا الدين منطلقًا من الميزة العظمى ألا وهي وسطية هذا الدين, من غير إفراط ولا تفريط, ولا غلو ولا جفاء, ولا انحراف عن الطريق المستقيم, فيكفي أمير السنة فخرًا هذا العطاء الذي يحفظ سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ويربط الأجيال الحاضرة والمستقبلة بها, ويستثير كوامن الإبداع ويستثمر الطاقات لترتقي الأمة إلى مكانتها في الصدارة والريادة, ونرجو الله أن يدخل فيمن قالَ فيهمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيما أخرجهُ ابنَ ماجه والترمذيُّ وحسَّنهُ منْ حديث عمرو بنِ عوفٍ المزني رضي الله عنه: ((منْ أحيا سنةً منْ سنتي فعملَ بها الناسُ كانَ له مثلُ أجرِ منْ عملَ بها, لا ينقصُ منْ أجورهِم شيئًا)).

ومنْ حديثِ أنسٍ رضي الله عنه الذي أخرجه الترمذيُّ وحسَّنهُ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((ومنْ أحيا سنتي فقدْ أحبني, ومن أحبني كانَ معيَ في الجنَّة)).

فالحمد لله الذي وفق أمير السنة لهذا العمل الرشيد, والنهج السديد, والحمد لله على نعمة الولاية التي تبارك كل عمل يخدم الإسلام والمسلمين, والحدث أعلى مما وصفت, والمناسبة تضيق العبارات بوصف المشاعر تجاهها, ولكنها كلمات محب لدينه ولوطنه, أحببت أن أكتبها تقديرًا لهذه الجهود العظيمة, نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجزل الأجر والمثوبة لخادم الحرمين الشريفين, ولسمو ولي عهده الأمين, ولسمو الأمير نايف بن عبد العزيز لقاء هذه الأعمال الجليلة, وما قاموا ويقومون به لخدمة الإسلام والمسلمين, وأن يجعل ذلك رفعة في درجاتهم, وبركة في أموالهم وأعمارهم, ونسأله أن يحفظهم ويبقيهم ذخرًا وفخرًا وعزًا للإسلام والمسلمين, والحمد لله رب العالمين,,,

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

* مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

 


جائزة نايف بن عبد العزيز آل سعود العالمية سمو الهدف, وعالمية الأبعاد, وشرف المكان
د. سليمان بن عبدالله أبا الخيل *

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة