Sunday  12/06/2011/2011 Issue 14136

الأحد 10 رجب 1432  العدد  14136

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

وَرّاق الجزيرة

 

الملك فيصل وإرث النجابة من صقر الجزيرة
متعب بن صالح الفرزان

رجوع

 

لقد كان الملك عبدالعزيز - رحمه الله - أسد الجزيرة العربية؛ فكان بديهياً أن تكون أشباله أسوداً يرثون الخصال الكريمة، وفي مقدمتها عزة النفس والمروءة والشهامة، وهي خصال أنجال عبد العزيز، وفي مقدمتهم فيصل بن عبدالعزيز - غفر الله له -.

لقد حباه الله الفكر الثاقب وبُعد النظر، وهو صاحب مواقف جليلة وثابتة تدل على حُسْن تقديره للأمور وعواقبها في كل القضايا المهمة التي تؤثر في مستقبل الأمة العربية وفي قضية فلسطين بخاصة. عقد أول مؤتمر عربي في لندن لوزراء خارجية الدول العربية إبان انتهاء عهد الانتداب البريطاني في فلسطين، وحضره الفيصل ممثلاً للمملكة العربية السعودية، وكان هدف المؤتمر مباحثة البريطانيين في موقفهم في قضية مخططات اليهود لإقامة دولة عنصرية على أرض فلسطين والوصول معهم إلى حل يحفظ للبلاد عروبتها ولأهلها أراضيهم وديارهم واستقلالهم. قبل البدء في المحادثات وجو لندن كعادته ملبد بالغيوم الداكنة، تحجب الشمس أياماً بل وأسابيع متتالية. أشرقت الشمس على غير انتظار، وكانت بهجة البريطانيين بإشراقها لا توصف، وبدا السرور على أعضاء الوفد البريطاني في المحادثات، فقال لهم الفيصل فيما معناه «إن هذه الشمس التي سُررتم بإشراقها هدية من الشرق إلى الغرب، وعسى أن تستنيروا إلى ما فيه خير للجميع». ملمحاً بذلك إلى الظلام الذي كانت تتخبط فيه السياسة البريطانية حيال فلسطين آنذاك. وبعد الجلسة الأولى للمحادثات قررت الوفود العربية عقد جلسة مغلقة لاتخاذ موقف موحَّد وقرارات حاسمة حول ما يجب اتخاذه حيال الجانب الآخر، وعُقدت الجلسة المغلقة, واتخذت القرارات، وتم الاتفاق على أن تبقى سرية حتى تعلن في الجلسة التالية للمحادثات مع البريطانيين. وعلم الفيصل أن أحد الوفود العربية أعطى الجانب الآخر تقريراً كاملاً مفصلاً عما دار في الجلسة المغلقة، بل إنه نصحهم بما يجب عليهم - أي البريطانيين - عمله لمجابهة الموقف العربي، ثم جاء مَنْ يسلم الفيصل صورة فوتوغرافية واضحة لهذا التقرير المقدَّم ضد العرب من أحد العرب.

وحان وقت الجلسة الثانية للمحادثات، وبدأها الفيصل بالحديث قائلاً في إيجاز: إننا نرى ألا فائدة في عقد هذه الجلسات، وإني لأعلن انسحابي طالما أن داء العرب من أنفسهم قبل أن يكون من أعدائهم. وفشلت المحاولات في إقناعه بالاستمرار؛ فقد اتخذ قراراه الحاسم، وعاد إلى الرياض ليبلغ والده الملك عبدالعزيز - رحمه الله - بتفصيل ما حدث، ووافقه الملك على موقفه.

يقول إبراهيم بن خميس - رحمه الله -: كنا جلوساً عند الملك فيصل، وكان ممثلو الدول الأربع الكبرى آنذاك يعقدون مؤتمر جنيف، وكانت دول وشعوب العالم كله تتابع أنباء اجتماعاتهم بالاهتمام والترقب منتظرة ما سيترتب عليها من نتائج في حالة اتفاقهم أو في حالة اختلافهم.

وكان فيصل قد تناول غداءه وجلس لتناول القهوة مع الحاضرين كعادته، وإذا بمأمور الإذاعة آنذاك يقبل ليقدم له ملخصاً عن آخر الأخبار وعلى وجهه إمارات البِشْر والسرور، وسأله الفيصل عما عنده من أخبار قبل أن يقرأ الملخص فأجاب المأمور بفرح ظاهر يظهر أن المؤتمر قد نجح، وأن الأربعة الكبار قد اتفقوا، وأجابه فيصل على الفور بما معناه: إن البشرى الحقيقية ليست أن يتفق الأربعة الكبار إنما أن يتفق العرب جميعاً، هذه هي البشرى، المهم أن يتفق العرب فيما بينهم على ما يحبه الله ويرضاه وما فيه صالحهم، أما أن يتفق الكبار ويبقى العرب متفرقين مختلفين فلن يكون اتفاقهم لصالح العرب بل ربما كان لغير صالح العرب والمسلمين، اتفاق العرب مع بعضهم هو الأساس فلن يجعل الكبار للعرب حساباً في اتفاقاتهم إلا إذا كانوا متحدين متكاتفين، وإلا كان اتفاق الكبار اتفاقاً على العرب وضد مصالحهم.

لقد كان الفيصل حريصاً على كل ما يؤدي إلى جمع شمل وتضامن العرب، وإن المواقف التي تشهد بذلك كثيرة بل وأكثر أن تحصى، وأظهر من أن تشرح وتوضح.

لنلقِ مزيداً من الضوء على سياسة الفيصل تجاه جميع الأشقاء العرب، وإنها وقفة كانت في أحلك الظروف التي مرت بها الأمة العربية، ظروف تمزيق الشمل العربي بنكسة الانفصال التي فصمت عرى الوحدة بين مصر وسوريا في أوائل الستينيات. في اليوم الثالث لوقوع الانفصال والنفوس تتابع التفصيلات من الإذاعات والبرقيات والصحف ووكالات الأنباء والحسرة تمزقها على هذا الصرح.. يقول إبراهيم بن خميس: كنت جالساً بين عشرات الجالسين في صالون فيصل في قصره العامر بالرياض، وبعد العشاء والقهوة تُدار علينا كالمعتاد، كان الألم يغطي ملامح وجه الأنباء بالانفصال وما تلاه من تطورات في الموقف، وهو معروف بُبعد النظر وحسن تقدير الأمور وفهم ما تخفيه الأحداث من عواقب، وتساءل فيصل عن آخر الأخبار، وإذا بأحد الجالسين - وكان غير سعودي - يقول إن آخر ما سمعناه أن طائره هليكوبتر تقف الآن على سطح بيت جمال عبدالناصر استعداداً لمغادرة القاهرة، ولم يتضح بعد إلى أين سيقصد هو ورفاقه، والله وحده أعلم بما كان يقصد ويهدف هذا المتحدث غير السعودي من حديثه هذا، ولكن موقف فيصل كان مفاجأة كاملة له على أية حال، لقد انتفض فيصل والألم والغضب يرتسمان على وجهه، وكان يبدو كمن فَقَدَ عزيزاً لديه خلافاً لعادته في مسايرة المتحدثين، كل على قدره، وسأله بصوت سمعه الجميع: من أي إذاعة استمعتم إلى هذا الخبر؟ وأسقط في يد المتحدث، ولعله فوجئ بغضبة فيصل التي تجلَّت على ملامحه وفي سؤاله، فأجاب متلعثماً بعض الشيء: لقد سمعناه من أفواه الناس لا في الإذاعة. وظهر الارتياح على وجه فيصل، وعادت إليه مظاهر الاطمئنان، وعاد إلى طبيعته في الحديث الهادئ كبير التأثير والواقع في النفوس، ليقول بكل هدوئه: يا إخوان، أقول لكم بكل صراحة، وبغض النظر عن كل خلاف في الرأي بيني وبين إخواننا زعماء مصر، علَّ ما نعتقده أو يعتقدونه لصالح العرب مما ستظهره الأيام والأقوال.. على أي شيء كلنا مجتهدون، وما التوفيق إلا من الله، الشيء الوحيد الذي أريد أن تعرفوه لتبتعدوا عن الأنظار من حيث لا تعلمون، أقول بكل صراحة وبملء الفم: إن كل ما يحدث في أي قطر عربي، ومهما كان ذلك الحدث لا يزيد عن كونه حدثاً محلياً يهم أمر ذلك القطر وحده، لا يؤثر ولا يتأثر به كيان الأمة العربية بل يتعلق بشعب هذا القطر وحده، وهم أدرى بمصالحهم، ولا تنعكس آثاره حسنة كانت أم سيئة إلا عليهم، إلا (القاهرة) فوضعها يختلف عن جميالأقطار العربية, إن العروبة يا إخوان بمنزلة الخيمة الواسعة الأقطار العربية، أطنابها وحبالها (ومصر عمودها الأوسط) وإن أي خلل في هذا العمود لا ترفعه الحبال، مصر سند الجميع، والجميع سند مصر. سكت الفيصل ثم أضاف: إن ما أقوله الآن ليس برأي جديد لي، ولقد قالها المرحوم والدي من قبل بل قال أبعد من ذلك.

هذا هو موقف الفيصل تجاه مصر، موقف سليم وحكيم، بني على سياسة ثابتة، تبناها والده العظيم من قبل، موقف الدعم الصادق والتعاون المثمر الفعّال لكل ما فيه خير مصر، فما دامت مصر بخير فالأمة العربية بخير، وما زال أبناء عبدالعزيز يسيرون على نهج والدهم ويبذلون كل ما فيه مصلحة للأمة العربية والإسلامية وتوحيد الكلمة.

* المرجع: كتاب «أسود آل سعود» إبراهيم بن خميس

 

رجوع

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة