Tuesday  21/06/2011/2011 Issue 14145

الثلاثاء 19 رجب 1432  العدد  14145

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

توجد لدينا مفارقة اقتصادية فريدة من نوعها في تاريخ الاقتصاد العالمي، مفارقة قد يقف حيالها منظِّرو عِلْم الاقتصاد حيارى، ويعيدون النظر في بعض نظرياتهم وثوابتها فيما لو حاولوا تحليلها، وهي أننا من أغنى الاقتصاديات في العالم، ويوجد لدينا ما يقارب عددنا من العمالة المستوردة، ويوجد لدينا مع ذلك نسبة عالية جداً من البطالة المحلية. وقد فشلت تقريباً كل المحاولات في حل هذه المفارقة، مفارقة التهرب الدائم والمَرَضي من توظيف أبناء الوطن.

وتُشكِّل ظاهرة الهدر الوظيفي في اقتصادنا، التي تعني وجود عدد كبير من فرص العمل في قطاعات الاقتصاد المختلفة لا تستفيد منها البلاد؛ حيث يشغلها ضيوف وافدون إلى البلاد بالرغم من وجود شباب سعودي مؤهَّل لها، وتوَّاق لشغلها، وأحياناً يكون في أمسّ الحاجة إليها، مشكلة كبرى. ولا مانع من التذكير بأن خَلْق الفرص الوظيفية من أهم أولويات التخطيط الاقتصادي السليم، ليس فقط لمردوده المادي الكبير على مستوى الأفراد، وعلاج مشاكل البطالة، وإنعاش السوق المحلية، ولكن أيضاً لكونه استثماراً في العنصر الأهم للنمو والتقدُّم، وهو العنصر البشري، لأن مجال العمل هو أيضاً أهم مجال للتدريب الفعلي. فتأهيل العاملين وتزويدهم بالخبرات المتنوعة جهد مكلف، وهو الضمان المهم للنمو والتوسع المستدامَيْن في المستقبل. وتعتمد جميع الدول اشتراط تدريب كوادر محلية وخَلْق فرص عمل بوصفهما شرطَيْن أساسيَّيْن للسماح لشركات أجنبية بالاستثمار. كما أن الحكومات تتدخل في كثير من الأحيان لإنقاذ بعض الشركات المتعثرة للحيلولة دون تسريح العاملين فيها؛ وبالتالي تفاقم البطالة.

والعبء الثقيل غير المنظور الذي تُشكِّله العمالة الوافدة على الخدمات التي توفرها الدولة يتجاوز بكثير الكلفة المنظورة. فالوافد الموجود بيننا بجسده بوصفه عبئاً معيشياً وخدماتياً، لكنه موجود فعلياً في الخارج بوصفه خبرة، واقتصاداً، واستهلاكاً. وقد ضحت الحكومة بالغالي والنفيس في سبيل تأهيل شبابنا لتلبية الاحتياجات الوظيفية على مختلف الأصعدة وبشتى الطرق: بعثات مكثفة للخارج، دعم للجامعات ومعاهد التدريب بالداخل، دورات تدريب على رأس العمل في الوزارات والمؤسسات، وطرق أخرى كثيرة. وهي قدمت ذلك مجاناً، وبدون أية كلفة على صاحب العمل، أي أنها تقدم عمالة مدرَّبة مقدَّمة على طبق من فضة تزينه جميع التسهيلات والحوافز الممكنة، ويقابَل - للأسف - برفض وتجاهل من كثير من رجال الأعمال لدينا الذين يستمرون في القذف بالفرص الوظيفية خارج الوطن. ويزداد الطين بلة حين يروِّج هؤلاء لبعض الأعذار والمبررات الواهية التي لا يقبلها عقل، ولا تنسجم مع الروح الوطنية، وبعضها سخيف يضيف إهانة إلى الإساءة. ما تقوم به الحكومة لوقف الاختراق الأجنبي للقطاع الوظيفي لدينا من قوانين تشجع الاستقامة الوظيفية، أو أخرى تردع من يمارس الاختلاس الوظيفي في حق الوطن لا تساوي شيئاً إذا ما أصرّ بعض أصحاب الأعمال على التحايل عليها والالتفاف حولها. وإذا نظرنا بعمق لظاهرة «مقاومة السعودة»، إذا جازت لنا التسمية، ألفيناها ظاهرة عامة متشعبة، ولا تنحصر فقط في مجال التوظيف أو العمالة بل تتعداها إلى الكثير من الممارسات مثل التفريط المتعمد في الممتلكات الوطنية، أو التساهل المقصود في صرف المال العام، أو إساءة استخدام المرافق الحكومية، والتستر، والغش التجاري، والفساد الإداري، وغيرها. فهذه الظواهر جميعها تختلف في الشكل وتتفق في الجوهر. فكلها وإن تلونت مظاهر لموقف عقلي واحد أساسه تصور خاطئ للذات وللآخر. ويمكن القول بأن للشخصية «المقاومة للسعودة» سمات، منها مثلاً لا حصراً، أنها:شخصية إسقاطية، ترى الناس جميعهم نسخة من نفسها. وصاحبها عادة نصف متعلم قليل الثقة بنفسه؛ ولذلك فهو يفترض الجهل في أقرانه وأبناء وطنه، وينفي الثقة عنهم؛ لأنهم بالنسبة له لا يمكن أن يكونوا إلا نسخة منه، فهو دائماً لا يطمئن إلا لأجنبي ولا يثق إلا بأجنبي حتى ولو دفع أكثر وحصل على أقل. شخصية جاهلة، يُجسِّدها الشخص المحدود الثقافة الذي يرث ثروة أو منصباً في شركة، أو يحصل علىمال بطريقة سهلة، فهذا النمط عادة غير متعلم، ولا يعرف معنى العلم؛ لذلك لا يستطيع تقدير الأهلية العلمية لمن هم حوله، أو قدراتهم العملية؛ لذا فهو دائماً متردد في الثقة بهم، ويستحي من جهله الذي يتناقض تماماً مع مكانته؛ لذلك يخشى معرفة الناس في محيطة محدودية عقله. هذا النمط عادة يشتري مشاريع على المفتاح، ويستقدم الشركات من الخارج بكل طواقمها. وهم أكثر الناس عرضة للنصب في الخارج، وقد يُستدرج لزيجة أو علاقة من نوع ما ويوكل مصالحه لأنسابه أو أقاربه الجدد.شخصية مركبة النقص، ولدى صاحبها هوس مزمن بحب الظهور وإثارة الإعجاب؛ فسعادته تقتات على إعجاب الآخرين ومديحهم له وإشادتهم به حتى ولو كان ذلك نفاقاً. والناقص المركب لا يكون سعيداً مع أبناء جلدته أو بينهم؛ لأنه يعتقد أن رأيهم فيه ومديحهم له تحصيل حاصل، ويكون سعيداً فقط عندما يتعالى ويتغطرس عليهم. وبالنسبة لهذا النوع من الناس فإعجاب بعض الأجانب به، خاصة أصحاب الجاه والوجاهة، يكتسب أهمية خاصة، وتراه يسترخص الغالي والنفيس في سبيل الحصول على ثناء منهم ولو حتى نفاقاً. والأجنبي، خاصة الغربي، بالنسبة له ديكور مهم ومظهر براق، ويُشكِّل جزءاً لا يتجزأ من حياته. شخصية منحرفة (سايكوباثية)، تعرف القوانين والأعراف والمصالح الوطنية، وتدرك أهميتها، ولكنها مع سابق العمد والترصد تعمل ما يخالفها. وهذه الشخصية أخطر من سابقاتها، ومنها تتكون عادة الطوابير الخامسة الإدارية والاقتصادية. هذه الشخصية تعاني انحرافاً أخلاقياً؛ فلا ترى في العالَم من حولها سوى مصالحها الشخصية الضيقة، ولا يهمها لو سقط الجميع ضحايا في سبيل هذه المصلحة. وينحشر في هذا الذين يتسترون على الوافدين من عمال أو شركات ويغطون على ممارساتهم غير القانونية في سبيل مقابل مادي. ويمكن أن يكون مع الأسف من هذه الفئة أيضاً شخصيات من الطبقة المتعلمة المعدومة الضمير مثل: المدير المتقاعس، الأستاذ الجامعي الفاسد الذي يحيط نفسه بأساتذة وافدين يتستر على تقصيرهم ويسلمهم المهام الحساسة في معهده أو جامعته مقابل كتابة أبحاث له، وكذلك الطبيب المهمل الذي يستغل الطبيب الزائر في تغطية إهماله ومقابلة مرضاه وتغطية نوباته، وكذلك من يمارس الغش والفساد بأنواعه بالتواطؤ مع الوافد ضد بلاده. يقابل هذه النماذج المريضة بالطبع رجال كُثُر في بلادنا من أصحاب الأعمال ممن هم مخلصين وغيورين، يتفانون في مصلحة بلادهم، وتزيدهمغيرتهم ووطنيتهم وعملهم الجاد ثقة بالنفس وبالآخرين. هؤلاء الرجال يصطفون لهذه البلاد خيرة من ينفعها من الوافدين، ويمنحون شباب البلاد فرصتهم كاملة لإثبات وجودهم؛ ذلك لأنهم يؤمنون ببلادهم وبمستقبلها. وفي الختام يمكن القول إن التستر، ومقاومة السعودة، وعقدة الأجنبي والخواجة وغيرها هي عُقَد يعانيها البعض؛ كونهم ينظرون للأمور بعين الماضي، ولا يدركون المسافة الشاسعة التي خطاها الوطن للأمام.

latifmohammed@hotmail.com
 

مقاومة السعودة
محمد بن عبدالله آل عبد اللطيف

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة