Wednesday  06/07/2011/2011 Issue 14160

الاربعاء 05 شعبان 1432  العدد  14160

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الأخيــرة

      

ما هي قيمة الأموال إن لم يتم استعمالها في الإنتاج والبناء والمساهمة في حل مشاكل الناس الذين لا يملكون المال؟.. استعمال المال في الإنتاج والبناء ليس الموضوع هنا، علاوة على أنه علم اقتصادي بحت ومعقَّد، وله حساباته الصارمة، ويخلو عادة من اللمسة الإنسانية. ما يهمني هو النقطة الأخيرة، أي استعمال الأموال من قِبل الذين يملكونها، أو استعمال البعض منها - على الأقل - لحل مشاكل الناس الذين لا يملكون المال. في هذه الحال لصاحب المال أن يشترط - وله الحق في ذلك - أن تعود أمواله إليه بالتمام والكمال بعد أداء الغرض، وربما ببعض الأرباح المعقولة، إضافة إلى الذكر الحسن والدعاء الصالح والمساهمة في الاستقرار الاجتماعي.

يصف الفيلسوف الأوروبي المعاصر - وهو أستاذ في الفلسفة وليس في الاقتصاد - بيتر ديجك ما يجري في العالم لحركة الأموال هكذا: يذهب سائح ألماني إلى بنسيون (نزل صغير) في قرية يونانية، ويدفع لصاحبه مئة يورو ضماناً له الحق في استرجاعه فيما لو عثر على مكان أفضل. هكذا يضمن صاحب رأس المال الألماني حجز الغرفة مشروطاً باسترداد نقوده إن وجد (بنسيوناً) أفضل، وصاحب البنسيون لا يستطيع الرفض؛ لافتقاره إلى السيولة النقدية. بعد استلام المئة يورو يذهب صاحب البنسيون إلى قصاب القرية، ويُسدِّد له دينه البالغ مئة يورو مقابل اللحم الذي اشتراه منه سابقاً. القصاب يسدّد مبلغ مئة يورو من دينه إلى تاجر المواشي. تاجر المواشي يسدد من دينه مئة يورو إلى تاجر الأعلاف، وهذا يسدد المئة يورو المديون بها إلى صاحبة الكافتيريا مقابل الوجبات السريعة التي استهلكها. صاحبة الكافتيريا تدفع المئة يورو إلى صاحب البنسيون مقابل سلفة سابقة منه لعلاج ابنها. في نهاية اليوم يعود السائح الألماني، ويسترد المئة يورو من صاحب البنسيون؛ لأنه وجد مكاناً أفضل.

العبرة من تسلسل الأحداث في مثال الفيلسوف بيتر ديجك هي أن جميع سكان القرية استفادوا من المئة يورو، وسدَّدوا بها ديونهم، والألماني صاحب المال استرده كاملا ً غير منقوص. هذه دورة المال الصحية في عالم الاقتصاد الحديث المطبَّق إلى حد لا بأس به في دول الاتحاد الأوروبي.

في عالم المال عندنا لا يحصل شيء من ذلك؛ لأن دورته مريضة. الذي يحصل هو سحب المئة يورو من جيب صاحب البنسيون والقصاب وتاجر الحيوانات وبائع الأعلاف وصاحبة الكافتيريا ويُحوَّل إلى الخارج، أي أنه ينتقل إلى دورة اقتصادية أخرى في غير البلد الذي تم فيه اكتساب المال. عندنا أثرياء كبار كثيرون، بل عندنا العدد الأكبر من أصحاب البلايين في العالم، لكن دورات أموالهم الاقتصادية تتم غالباً في الخارج. الوضع يشبه بنك الدم الذي يشتري دماء المحتاجين بمقابل مادي متواضع ثم يبيع الدم ومشتقاته في بلدان غنية بأثمان أكبر. المواطنون الذين قد يضطرون لبيع دمائهم تكراراً للبقاء على قيد الحياة مع أطفالهم سوف يصابون بفقر الدم المزمن، وفي النهاية سوف يموتون من الجوع؛ لأن دماءهم يتم ضخها في أوردة وشرايين أناس آخرين في بلاد أخرى؛ ليزداد أهلها صحة وعافيةً.

عندنا أثرياء كبار بأعداد هائلة نعم، لكن ليس عندنا دورات اقتصادية ميسرة الشروط وسهلة الإجراءات لتعالِج شؤون المحتاجين، وليس عندنا (مبرات) خيرية فعّالة تقدم العلاج والكساء ومصاريف التعليم بسعر التكلفة. إذا أراد مليونير عندنا أن يتفاخر تنحنح بصوت مسموع ومقروء ببناء مسجد وسبيل ماء. إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، هذا ما يعرفه حضرة المتبرع، لكنه لم يتجاوز لسانه إلى قلبه، ولأنه يجد من يصفقون له ويثنون عليه لهذا التبرُّع المتواضع.

* فيينا

 

إلى الأمام
دورة المال الطفيلية
د. جاسر عبدالله الحربش

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة