Saturday  16/07/2011/2011 Issue 14170

السبت 15 شعبان 1432  العدد  14170

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

قال وزير الثقافة والإعلام السعودي في بيان مجلس الوزراء الأخير: «المملكة تجدد شعورها بالأسى وحزنها العميق لسقوط العديد من الضحايا بمن فيهم النساء والأطفال جراء تلك الأزمات». وأضاف إن المملكة العربية السعودية تدعو الجميع إلى تغليب صوت الحكمة والعقل ووقف إراقة الدماء واللجوء إلى الإصلاحات الجادة التي تكفل حقوق وكرامة الإنسان العربي».

عبارات خالدة ذكرتني برسالة المتنبي إلى سيف الدولة حينما أراد أن يبطش ببني كلاب، وهذا الدور الإنساني للدولة المسلمة والحاكم العظيم والمثقف الحقيقي الذي لا يستعدي السلطان على شعبه الذين يؤلمه ما يصيبهم، فقال:

وَلَيْسَ مَصيرُهُنّ إلَيْكَ شَيْناً

وَلا في صَوْنِهِنّ لَدَيْكَ عَابُ

وَلا في فَقْدِهِنّ بَني كِلابٍ

إذا أبصَرْنَ غُرّتَكَ اغتِرَابُ

وَكَيفَ يَتِمّ بأسُكَ في أُنَاسٍ

تُصيبُهُمُ فَيُؤلمُكَ المُصَابُ

تَرَفّقْ أيّهَا المَوْلى عَلَيهِمْ

فإنّ الرّفْقَ بِالجاني عِتَابُ

عبارات مجلس الوزراء السعودي الإنسانية تلقفتها وكالات الأنباء العربية والعالمية لأنها عبارة موضوعية تفيض منها الرحمة والرفق في وقت يعيش العالم العربي أشد أنواع التصحر في صيف لا يمكن أن تغير طقوسه العربية كل الكلمات المزورة الخاصة بالربيع العربي وأزهاره وطيوره وبلابله التي قطعوا حناجرها وحرموها التغريد بعد إقصائها عن مظاهر الحياة العامة ولا أصدق على ذلك من عبارة: «إن الانتماء لا يتم بزف البشائر للشعب، وجعله يرقد على مخدة من حرير، ولكن بإشراكه في المعلومات، وبالتالي في المسؤوليات المترتبة على هذه المعلومات، هذه هي الديمقراطية، وهي أخيرا فن الحكم» هذه العبارة للكاتب أحمد بهاء الدين رحمه الله، وأكثر ما استوقفني فيها كلمة «فن الحكم» لأن ديننا الإسلامي فيه ما يغني عن ديمقراطيات العالم كله وبخاصة أننا اكتشفنا صعوبة تطبيقها على الواقع الذي يشهد بانتقائيتها وشعاراتها المزيفة، فن الحكم لا يفهم سبر أغواره نظام يقطع حنجرة بلبل يغني لشعبه في ميدان من ميادين الغضب، كما فعل الشبيحة بحنجرة الشاعر السوري إبراهيم قاشوش في صورة لا تليق بمسيرة الرئيس بشار الأسد الإصلاحية، فن الحكم لا يضع رأسه برأس مواطن مسكين، الله وحده أعلم بما يعانيه من جوع وخوف وتهديد طيلة عقود، فن الحكم لا يحسنه من وضع كتاب الأمير لميكافيللي تحت وسادته ولو كانت من حرير، ذلك الدستور الديكتاتوري الذي تعد وصاياه لأصحاب السلطة أكبر عار وصمت به جبهة الإنسانية حينما أطلق صرخته الغاية تبرر الوسيلة.. حينما خلد التاريخ شخصياته فقد اختارهم بعناية تامة وموضوعية شديدة المعيارية، فوضع الطغاة مثل نيرون وهولاكو وهتلر وموسليني وستالين وغيرهم في مزابله، ووضع عظماءه في صفحاته البيضاء لينيروا للبشرية طريقها وتستمد من مثلهم المنهجية، وتاريخنا الإسلامي الناصع سطر إنسانيته ابتداء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم برسالته الربانية، لأن خلقه القرآن، وبعثه الله جل وعلا ليتمم مكارم الأخلاق، حتى أنه يوصف له الرجل الجاهلي صاحب الخلق فيحب أن يراه إيمانا بأهمية هذه الصفة الإنسانية لاستمرار الحياة، وكان الواقع يشهد على كل ذلك ولا أدل على ذلك من جذب الأعراب له حتى يؤثر أطراف ثوبه في عنقه و جسده الطاهر، ويوجه الناس إليه أقذع العبارات ويتبسم بأبي هو وأمي دونما تأصيل لمبادئ الانتقام، وتجلى ذلك حينما أقبل عليه ذلك الأعرابي الجلف، فشد رداءه صلى الله عليهسلم بقوة، حتى أثر ذلك على عنقه عليه السلام، فصاح الأعرابي قائلا للنبي: مُر لي من مال الله الذي عندك، فقابله النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك له، والصحابة من حوله في غضب شديد من هول هذا الأمر، وفي دهشة من ضحك النبي صلى الله عليه وسلم وعفوه وفي نهاية الأمر، يأمر النبي صحابته بإعطاء هذا الأعرابي شيئاً من بيت مال المسلمين. بل إن ذا الخويصرة يقف في طريقه ويصرخ بوجهه اعدل يامحمد، ومع ذلك يقف بينه وبين الصحابة الذين سلوا سيوفهم لمنعه من الإساءة لمقام النبوة، وروى البيهقي أنه منّ بالفداء على كفار قريش في يوم الفتح حينما قالوا له ما فاعل أنت بنا يامحمد، فقال لهم (لا أقول لكم إلا كما قال أخي يوسف: «لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللَّه لكم وهو أرحم الراحمين» اذهبوا فأنتم الطلقاء). وهذا الفن هو الذي جعل العرب الجفاة يتبعونه، قال الله جل وعلا: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} وفي الحديث الذي رواه البخاري حينما خرج صلى الله عليه وسلم إلى قبيلة ثقيف طلباً للحماية مما ناله من أذى قومه، لم يجد عندهم من الإجابة ما تأمل، بل قابله ساداتها بقبيح القول والأذى، وقابله الأطفال برمي الحجارة عليه، فأصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الهم والحزن ومن التعب الشديد ما جعله يسقط على وجهه الشريف، ولم يفق إلا و جبريل رضي الله عنه قائماً عنده يخبره بأن الله بعث ملك الجبال برسالة يقول فيها: إن شئت يا محمد أن أطبق عليهم الأخشبين، فأتى الجواب منه عليه السلام بالعفو عنهم قائلاً: (أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا)، وفي الحديث الذي رواه مسلم أنه لما كُسِرت رُباعيته صلى الله عليه وسلم وشُجَّ وجهه يوم أُحد، شَقَ ذلك على أصحابه، وقالوا: يا رسول الله ادعُ على المشركين، فأجاب أصحابه قائلاً لهم: «إني لم أُبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة». وفي صحيح مسلم تقول عائشة رضي الله عنها: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل».

وهذه الطريقة في الحكم تعلمها منه خلفاؤه الراشدون الذين لم تفقدهم إنسانيتهم هيبتهم وشرعيتهم، ومن ذلك أنهم تعاملوا بحكمة ورحمة وخوف من الله فهذا سيدنا أبو بكر حينما قال له ذلك الرجل إنا رأينا فيك اعوجاجا قومناه بالسيف حمد الله وشكره أن في أمته مثل هذا الذي يعينه على تحقيق العدل والمساواة إن صحت الرواية ولم يقطع حنجرته، وكذلك فعل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته حينما مر بعجوز في طريقه والناس معه وهو على حماره، فاستوقفته طويلا، ووعظته وقالت: يا عمر قد كنت تدعى عميرا، ثم قيل لك: عمر، ثم قيل لك: أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب، وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين، أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟ فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر..

لم يقطع لسانها عمر ولم يدخلها السجن ولم توضع تحت الإقامة الجبرية ولم يفتح لها المعتقلات ولم يمطر بقية مواطنيه بالظلام والسواد والغازات السامة، عدل معهم فنام بينهم على حصيرة أذهلت رسول كسرى، لم يصرف بيت مال المسلمين على استيراد أدوات التعذيب وأدوات مكافحة الشغب لأنهم راضون عن أدائه وهو يخشى الله فيهم ويحاسب نفسه ومن حوله قبل أن يحاسبهم، لم يصفهم بالجرذان ولا البلطجة ولم يستأثر بالمال ومخططات الأراضي والمناصب دونهم ولذلك سرت عبارته مع الركبان حينما قال: «والله لو عثرت شاة في أرض العراق لخشيت أن الله يسألني عنها يوم القيامة»، لله درك ياعمر أي خليفة يقف على المنبر ويقاطعه رجل بأن عليه ثوبين وأمته لا تملك إلا ثوبا واحدا، ولم يكن ردة فعله اعتقلوه واسحلوه وانتهكوا عرضه واقطعوا حنجرته بل يأمر ابنه عبد الله بن عمر أن يجيبه فأجابه بأن ثوبه أعطاه الخليفة والده، عمر كان يحب المسلمين جميعا أكثر من الكرسي والسلطة والصلاحيات فيقبل منهم كما يقبل الوالد من أبنائه، ولذلك لم يكن يسمح لأنفه أن يصور له كل ما يشمه هو مؤامرات ودسائس من شعبه المغلوب على أمره الذي لم يجبره على الهتاف والسجود تحت تماثيله الضخمة..

صور إنسانية ملأت كتب تراثنا الإسلامي وهي ليست صعبة التطبيق، ولكنها تؤكد النقيض الذي شغل الحكام والأنظمة ومريدي السلطة في عالم العرب اليوم بتطبيق وصايا ميكافيللي على شعوبهم فجوعوهم وسجنوهم وقطعوا حناجرهم ولا ندري إلى أين ينتهي بنا هذا المنحدر اللانساني.. صدقا صورة أفزعتني وأنا أرى الشاعر السوري إبراهيم القاشوش قد مثل الشبيحة كما وصفوا بجثته وقطعوا حنجرته، والسؤال ما كان ضر هؤلاء لو قطعوا لسانه بالوصل والعطاء والرحمة والحياة الكريمة والكرامة والعدالة والمساواة.. ولا تسوغ هذه الأمثلة تقليل الأدب مع السلطة والتطاول على الرموز ولكن إذا ابتليت تلك الرموز بشيء من هذا فالرحمة واللين مقدم على البطش وقطع الحناجر، وهذا الأسلوب المتمدن فهمه رؤساء الغرب كبوش وساركوزي وديجول وشخصاياته الاعتبارية التي تقذفها الجماهير بالبيض والطماطم والأحذية، ولا يلتفتون إلى هذا المواطن ويكملون مسيرتهم دونما وضع رؤوسهم الكبيرة برأسه الصغير، والله غالب على أمره، والله من وراء القصد.

abnthani@hotmail.com
 

تَرَفَّقْ أيُّهَا المَوْلى عَلَيْهِمْ فَـإِنَّ الرِّفْـقَ بِالجَانِي عِتَابُ
د. عبدالله بن ثاني

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة