Monday  18/07/2011/2011 Issue 14172

الأثنين 17 شعبان 1432  العدد  14172

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

شعرت بأن نيرانًا متأججة تدفعني نحو المغامرة في اكتشاف عالم مخيمات الصفيح في كُلٍّ من الوايلية في حفر الباطن وعرعر والجوف وتبوك، لذا حاولت استجماع كل ما لدي من قوة جسدية ونفسية وذهنية لأحقق رغبتي وتطلعي في البحث والاكتشاف، لم أكن أريد الذهاب مع أحد خوفا من إفساد رحلتي..

..ولم أكن حريصا على ذلك خشية أن أقع في ورطة أو أبتلى بعلاقة تطيح بمعنوياتي وتتركني نهبا لمشاعر الإحباط والتراجع، لقد قدمت إلى هذه الأماكن لكنني أصبت حينها بالقلق والاكتئاب والدهشة المتواصلة حتى صارت مشاعري مثل شخص حكم عليه بالإعدام أو بالسجن المؤبد، بدأ همي الوحيد في لقاء الناس هناك حتى لاحت هذه اللقاءات العاطفية تمنحهم الأمل في نسيان واقعهم الصعب المأساوي والمرير والمليء بالخسارات والقهر والعذاب، لقد انحسرت أمواج تطلعاتهم وطاقاتهم الحسية وفترت توهجات عواطفهم ونضبت طموحاتهم بعد أن أصبحوا محاصرين من قبل واقعهم الذي أدار لهم ظهر المجن حتى أصبحوا يمضون حياتهم مذهولين لا يعرفون ما الذي سوف يقع لهم بين يوم وآخر، ثمة غربة وجودية عميقة تمتد بجذورها في أرض حياتهم لا تدع لهم العيش بسلام ودعة، كان الحزن حينها يمزقني في بعض الأحيان فألجأ إلى الفضاء البعيد محاولا النسيان حينما أتخيل بأن ليس ثمة علاج لهذه الحالات، لقد أمضيت هناك سبعة أيام بلياليها حزينا وغير مصدق لما رأيت، لقد حاولت أن أسدل ستارا كثيفا من النسيان على كل ما شاهدته حتى لا أصاب بالجنون لكارثية المناظر والحالات نتيجة هذه المدة من الاستغراق والمعايشة والبحث والتحري، لقد كانت مخيمات الصفيح في تلك المناطق وكأنها خارج حدود الوجود والزمان والمكان، إن الحياة هناك تجري بصعوبة فيولد الإنسان هناك ليغدو رضيعا ويمسي طفلا ثم يصبح مراهقا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا ثم يموت ليفنى ويعود إلى التراب دون أمل ودون تحقيق هدف أو غاية أو تطلع أو حتى أمنية صغيرة أو حلم عابر، إن أحلام الإنسان هناك ورغباته وتطلعاته ونجاحه وإخفاقه ومغامراته وخيباته وانتصاراته كلها في صيرورة دائمة ومستهدفة من قبل الزمان والمحيط والواقع، في زيارتي سمعت أشياء تتسم بالغرابة الكبيرة التي يصعب على النفس تصديقها مثل موت طفلة في عمر الزهور نتيجة لدغة أفعى سامة تسللت إلى مخدعها وعلى الرغم من أن الناس هناك قد حاولوا إنقاذها بمص السم إلا أنهم لم يفلحوا في إنقاذها فتسرب السم عبر دمها وماتت، قصة مأساوية أخرى لشاب يعيش حالة نفسية مزمنة وصعبة كلما حاولوا الاقتراب منه كلما زاد توحشا ونفورا، يحمل دائما أكياسًا وعلبًا فارغة وأشياء أخرى، لقد أنهكه التعب والمرض الطويل حتى صار كعود نبتة صغيرة أضناها العطش والريح، قصة أخرى لا تقل مأساوية عن غيرها من القصص الكثيرة والمتنوعة والتي لاكفي المجال لسردها مثل رجل مسن ماتت زوجته ولديه سبع بنات ولا يملك سوى سيارة قديمة ومتهالكة جدا وبالكاد تسير يجمع فيها بقايا العلب والبطاريات وبعض الحديد والأسلاك من نفايات المدن المحاذية ليحصل بعدها على رغيف خبز يسد رمقه وبناته الهزيلات اللاتي لا يعرفن اللحم المشوي ولا الخبز المحمص أو الكورن فلكس ولا ما هو التفاح أو البرتقال ولا حتى كيف يرتدين الملابس الزاهية في حفلات الأعراس الباذخة، لقد سمعت كثيرا عن أن هناك أناس يتهاوون صرعى من شدة المرض وقلة الحيلة واليد والدواء، ومع ذلك يواصلون حياتهم وفق قدرهم وقدرتهم على المشي والتنقل والتحصيل، لكنهم حتما يشعرون بعدم الرضا عن الحياة، لقد تركتني هذه الأشياء في المحصلة النهائية فريسة الضجر المخيف، وزرعت في الخوف والأسى، وجلدتني بالمرارة القاتلة، وأكدت لي بثبات بأن المشكلات التي نراها من حولنا وبيننا هي جزء من جوهر الوجود وحقيقة للمعاناة والعذاب، لكن ثمة أمور علينا وبالأخص القادرين والميسورين منا وجوب إنجازها قبل أن نتوارى عن هذا العالم ذات يوم، وهي النهوض بحياة الناس ورش وجوههم وصدورهم بالماء الذي نحمله بقنانينا لنعبر بهم من الطبقات الضيقة والسقيمة نحو الطبقات العليا الفارهة، ولنجعل سنى الشمس يتدفق عامرا ليحيي أشجارهم المتناثرة بين دفتي الوادي، وحتى نحيل أحجارهم الصلبة لتصبح شفافة تنبض بنور العطاء وبريق الأمل، لذا علينا أن نتخيل ولو لمرة واحدة ونحن نجلس على الفرش الوثيرة والبيوت التي تشبه القصور وأنواع الطعام وآنية الماء التي تشبه الفضة لو كنا مكانهم فبماذا نشعر حينها وبماذا نحس؟ حتما ستصدمنا موجه من الشعور بالألم وإحساس عميق بالانسحاق والضعف والهوان وستكون ملامحنا مترعة باللوعة وحزننا يندفع بقوة هائلة تشبه الأمواج التي تصدر صخبا عاليا وهي تصطدم بالصخور الضخمة المرمية في عرض البحر، وسوف لا ننام بملء الجفون ولا نطارح الرمال والسماء غطاء ولا تثقلنا مجاملة الوجهاء، وسوف لن نضحك بملء أشداقنا ولا تمتلئ بطوننا باللبن الخاثر والسلطة والرز والماء المصفى، وسنترك لبس الغتر البيضاء والأشمغة الحمراء وثياب الزبدة، وننحدر بقوة لمجالسة البسطاء الفقراء لنقاسمهم الخضرة والماء وبعض العسل.

ramadanalanezi@hotmail.com
 

في الشمال.. الفقر ينصهر داخل مخيمات الصفيح!
رمضان جريدي العنزي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة