Monday  01/08/2011/2011 Issue 14186

الأثنين 01 رمضان 1432  العدد  14186

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

في يومي الأخير بلندن شاركت في نقاش مع أوربيين، وبعد عودتي للرياض دار نقاش مع أصدقاء. في كلا النقاشين كانت المواضيع الرئيسية واحدة، وكان اختلاف طرق التحليل متشابهاً. هل يشكل ذلك صدفة أم أن المواضيع ونقاشاتها أصبحت متشابهة بين شتى البلدان؟

التشابه ليس فقط في حوارات المثقفين، بل تجده في كافة الأشياء، من نوعية وطرق عرض البضائع والمنتجات في الأسواق.. ومن المطاعم ووسائل الترفيه إلى طرح المواضيع وعرضها في الفضائيات، مروراً بتخطيط المدن وتنظيم الشوارع والمساكن والمدارس والمستشفيات والمطارات والمعارض والمكتبات والمصانع..

هل هناك ولادة محتملة لحضارة واحدة للعالم كله، تعمل على توحيد تدريجي للعالم؟ كما تساءل المؤرّخ رينيه ريمون. هل سيؤدي عصر المعلومات وثورة الاتصالات واقتصاد المعرفة إلى ذوبان الدولة القومية كما يتوقع المفكر المستقبلي ألفن توفلر؟ وإذا كانت الدولة القومية ستتلاشى فهل سيحل محلها منظمات عالمية أو نظام أممي واحد، مثل الولايات المتحدة الأممية أو دولة الأرض المتحدة؟

يمكن أن نجمع شواهد تؤكد توجه العالم للتوحد والعكس صحيح. إنه يشبه في ذلك لما يقوم به الإنترنت، فهو ذو تأثيرات مزدوجة تجمع النقيضين بوقت واحد.. يساهم في تذويب الهويات في بوتقة واحدة وبنفس الوقت يساعد على اعتداد الهويات وتوحيد المبعثر وإيقاظ المنسي منها. وهو يساعد على تشظي مؤسسات المجتمع إلى خلايا صغيرة وفي ذات الوقت يعمل على تسهيل تواصلها وسرعة تجمعها في مؤسسات كبرى.. وهو يكسر طوق العزلة للأفراد والجماعات وأيضاً يساعد على انعزال الأفراد..

ورغم ذلك فإن العوامل المساعدة لتوحيد العالم أكثر كثيراً من عوامل الانقسام. وأهم هذه العوامل هو التطور التقني المتمثل في ثورة الاتصالات والإعلام (الإنترنت، التلفزيون، الجوال) التي اختصرت المسافات وقاربت مناطق العالم، وصارت الأخبار والمعلومات متشابهة ومتزامنة لكل البلدان، مما أدى إلى تشابه الاهتمامات والمواضيع.

أيضاً هذه التقنيات طورت وسائل الإيضاح والترجمة وسهلت من شروط المعرفة وتواصل الأفكار بين الأمم والجماعات. وهنا تأتي الصورة لتلعب دوراً رئيسياً في نقل الأخبار وتبادل المعلومات، متخطية حواجز اللغة والثقافة، بل أصبحنا في زمن يطلق عليه «زمن الصورة»، وصارت عبارة «بلا تعليق» تحت بعض الصور من العبارات الموجودة في الذهن حتى لو لم تكتب.

ثورة الاتصالات صاحبها ثورة في المواصلات، فإذا كانت الأولى قربت المسافات الذهنية فإن الثانية قربت المسافات المكانية. لقد أصبحت البلدان تستقبل سنوياً عشرات الملايين من السياح ورجال الأعمال والعمال والفنيين وغيرهم، فيما كان الوضع قبل قرن لا يتجاوز بضعة آلاف في أحسن الأحوال. هذه المواصلات التي تنقل البشر بين الأمم تعمل على نقل الأفكار وطرق التفكير.

وتستمد الأنماط الإدارية وأساليب التخطيط في بلدان العالم نفس الأصول المعرفية للإدارة والتخطيط واستعمال الطاقة وتحويلها. فالصناعة والزراعة والصيدلة تقوم على نفس المبادئ المادية للإنتاج. كذلك الشؤون البلدية والصحية والتعليمية تأخذ نفس المنحنى الذي ينزع نحو التقارب بين أمم العالم. ويمتد التأثير إلى تشابه السلوكيات والأذواق والطبائع. تشابه في المسكن (المباني، الديكور) والملبس والمأكل.. تشابه في الفنون والآداب.. تشابه في أنماط التسوق والترفيه.. تشابه في الرياضات..

لعل الرياضة هي خير مثال لتوحيد العالم، فأكبر تجمع بشري في التاريخ يحصل في مكان واحد هو في الأولمبياد. أكثر من عشرين مليوناً تقدموا بطلبات لتذاكر أولمبياد العام القادم في لندن، لم تتم الاستجابة إلا لسبعة ملايين منهم. ملايين البشر من كافة الأجناس والأديان والخلفيات يلتقون في بقعة واحدة جنباً إلى جنب.. وجهاً إلى وجه.. في تنافس إيجابي سلمي مليء بالحيوية والحبور.. مئات الملايين يتابعون المنافسات عبر التلفزيون والإنترنت..

يقول رينه ريمون، مؤرخ التاريخ المعاصر: «في كل مكان، هذه الثورة التقنية ولدت نفس النتائج، نفس الانقلابات الاجتماعية، الانتقال من مجتمع تقريباً كله زراعي ومنطوٍ على نفسه، مقسم إلى آلاف أو عشرات الآلاف من الخلايا القروية الصغيرة، إلى مجتمع يتصنَّع، يتحضّر ويتعصرن.. ويوضح ريمون أنه في هذا السياق فكل المجتمعات مرت بمشكلات متشابهة في القطيعة مع الكادرات التقليدية كإلغاء القبائلية مع نزاعات بين المدن والريف.. ويتساءل ألا تسمح هوية الظاهرة وتشابه التأثيرات، للمجتمعات بالتقارب وبفهم بعضها لبعض؟

هذه التشابهات بين مناطق العالم التي تبدأ من البنية التحتية (المادية التقنية) وتنتقل إلى البناء الاجتماعي والسلوكي والذوقي تقود في النهاية إلى البناء العلوي في النشاط البشري، وهو الفكر والسياسة. ثمة أرضية من الأفكار المشتركة بين شعوب العالم. مفاهيم: حقوق الإنسان، الحقوق المدنية والأحوال الشخصية، الحرية، المساواة، العدالة الاجتماعية والضمان الاجتماعي، تكافؤ الفرص، حق التعليم والعمل والرعاية الصحية.. المواطن، الديمقراطية، الشفافية، النزاهة، التعددية.. مكافحة البطالة والفساد والفقر والقمع.. هذه المفاهيم - بعض النظر عن درجة التطبيق - أصبحت قيماً مشتركة تشكل إيماناً يوحّد البشرية.

من كل ذلك نأتي إلى الهياكل التي تساعد على توحيد العالم، وعلى رأسها هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن. ونلاحظ صعود قوى الكيانات متعددة القومية أو ما فوق القومية: المنظمات العالمية غير الحكومية، والشركات المتعددة الجنسيات ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والمنظمات الدينية ذات الامتداد العالمي، حتى وصلنا إلى مرحلة حوار الأديان والحضارات.

رغم كل ذلك فهناك من يميل إلى أن العالم يتوجه نحو الانقسام والتفتت، بادئين بفكرة صراع الحضارات. ففي نظرهم أن الأديان الأممية الكبرى (كالإسلام والمسيحية) رغم أن بينها فرص تقارب فهي خلقت انفصالاً جغرافياً، لا سيما مع امتداد نفوذ الأصوليات التي تساعد على الانفصال بين الحضارات. ثمة خميرة أخرى للانفصال وهي بين ما يسمى العالم الأول (الغني) والعالم الثالث (الفقير). الإحصاءات تشير إلى أن الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقراً. ومن الشواهد التي يطرحها أصحاب فرضية تفكك العالم، هو أن المتوقّعين لتوحيد العالم استندوا على أن الإرهاب سيخف وسيغدو أقل قسوة، لكنه ازداد حجماً وشراسة..

لكن هل عمليات الإرهاب مؤشر على تفكك العالم أم على توحّده، فالمنظمات الإرهابية نفسها أخذت طابعاً عالمياً ينزع نحو التوحّد.. ويمكن اعتبار الإرهاب احتجاجاً غير واع على قسوة العولمة وليس احتجاجاً على توحّد قيم العالم!!

alhebib@yahoo.com
 

اتحاد دول العالم
د.عبد الرحمن الحبيب

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة