أثبتت الأحداث والتطورات المتسارعة أن التجربة السياسية للمملكة العربية السعودية هي الأنضج والأكفأ والأكثر وعيا وحكمة، والأقدر على سبر أغوار الأحداث العاصفة والأسرار السياسية الدولية؛ وبتوفيق الله أولا وبتيسيره، ثم بمهارة وخبرة وعمق وأصالة وتجربة المدرسة السياسية السعودية العريقة أنقذت بلادنا من «مهاوي»

المغامرات السياسية الحمقاء التي تلف وطننا من الجهات الأربع، وبهذه المهارة في القدرة على تحديد المواقف السياسية التي تفرضها المصلحة الوطنية إما بمهادنة حيناً، أو بتصلب تفرضه الضرورة حيناً آخر، أو بمال، أو بانتظار، أو بحسم سريع وموقف قوة لا بد منه؛ سلمت بلادنا -ولله الحمد والمنة- من الانجراف إلى الأقطاب المتصارعة، وأبقت على اليد ممدودة دون انقباض لدعاة السلام والمحبة والخير في كل أنحاء العالم.

وها هي المنطقة العربية تفور الآن وتمور منذ أكثر من ستة أشهر، وعروش تتهاوى، وكراس تتساقط، ورؤساء دول يجرجرون على الهواء إلى المحاكم، وآخرون يطاردون بالأحكام الغيابية ويبحثون لهم عن ملجأ فلا يستجاب لهم، وعروش عسكرية أخرى تحاصرها نيران الثائرين مطالبين بالتغيير والحرية والحقوق، وهي على وشك أن تؤتي أكلها ولو بعد حين..

أثبتت «السعودية» أنها الأقوى والأشد صلابة وتماسكا، والأقدر على امتصاص ما تثيره هذه المرحلة من تداعيات، وأثبتت أيضاً أن تجربتها في الوحدة والتنمية وإدارة نظام الحكم هي الأنجح في المنطقة العربية كلها في العصر الحديث؛ فمنذ مرحلة انحسار حكم الأتراك عن المنطقة العربية وسقوط الخلافة العثمانية وتوزيع التركة على الدول الأوربية المستعمرة ثم جهاد الشعوب العربية للاستقلال من هيمنة تلك الدول؛ لم تهتد دول المنطقة بعد إلى نظام سياسي أو حتى أنظمة سياسية حاكمة منبثقة ومتخلقة من تراث المنطقة الإسلامي والعربي؛ بل اشتعلت فيها منذ ما قبل منتصف القرن الميلادي الماضي ثورات عسكر قادوها من مهزلة سياسية وفكرية إلى مهازل أخرى، وجروها إلى بؤر توتر واحترابات مجانية وارتماءات غبية إما في حضن التجربة الماركسية الشيوعية كما في العراق بعد ثورة تموز 1958م على يد عبدالكريم قاسم، ثم الفترات البعثية المريرة من عبدالسلام عارف إلى صدام حسين، وكما في التجربة الماركسية في اليمن الجنوبي على يد عبدالفتاح إسماعيل وزمرته، أو تجربة عسكرية بدون هوية كما في سوريا بدءاً من حسني الزعيم وانتهاء بثورة التصحيح البعثية الطائفية على يد حافظ أسد عام 1969م، أو تجربة عسكرية ليس لها إلا هوية وطنية في البدء على يد الضباط الأحرار في مصر 23 يوليو 1952م بقيادة محمد نجيب، ثم توسعت لتأخذ هوية قومية اشتراكية على يد جمال عبدالناصر، ثم تجربة رأسمالية منفتحة كما في عهد السادات، ثم تجربة استهلاكية مرتمية على المعونات الأجنبية وبدون وجهة قومية محددة بل بانحسار وانطواء على الذات المصرية كما في عهد حسني مبارك بعيداً عن الهم القومي والإسلامي، أو تجربة قومية متأزمة مجنونة ومتقلبة وغير متزنة كما في تجربة معمر القذافي التي بدأت عام 1969م! أو تجارب مختلفة بين الشيوعية قديماً في السودان، ثم إسلامية متشنجة كما الآن، أو حكومة عسكرية وطنية اشتراكية كما في الجزائر على يد هواري بومدين، ثم عسكرية بحتة بدون اتجاه فكري واضح إلا التبرقع بالعلمانية الفرانكفونية كما في الجزائر الآن.

هذه هي التجارب العربية بإيجاز سريع على مدى سبعة عقود، لا تخرج دولة من مأزق تجربة إلا وترتمي في أتون تجربة أخرى أكثر مرارة وأشد ألما وأوفر خسارة، وأكثر غيابا عن آمال وتطلعات شعوبها في الحرية والتنمية والتحضر، وأكثر ألما على المستويين القومي والإسلامي؛ لأنهما - والحق - الهمان المغيبان تغييباً كاملاً عن قيادات العسكر، وإن كان التغني بهموم الأمة العربية لا يغيب أبداً عن ماكينة الإعلام العربية العسكرية التي تعلم وتلقن في كل آن دروساً متقنة في فن الكذب والتمييع وتزييف القضايا القومية للأمة.

أمة عربية مرت طوال سبعة عقود بحالات من الخذلان، والانتكاس، والبؤس، والفقر، وضياع الهوية، والتنقل بين الولاءات الفكرية المختلفة، ولكنها في نهاية الأمر عجزت عن تحقيق حلم الشعار الكبير الذي رفع طوال سنوات المد العسكري إلى الآن «الاشتراكية والوحدة والتقدم»!!.

وأثبتت «السعودية» أنها وبدلائل الواقع المعاش والسجل السياسي على كل المستويات العربية والإسلامية والدولية الأكثر وعيا وحكمة وصدقا مع النفس ومع الشعوب العربية والإسلامية، وأنها أيضا من زاوية الصلات الدولية الأكثر قدرة على فهم مصالح الدول الكبرى المتنفذة في العالم فتسعى إلى التوفيق بين المصالح المتقاطعة والحفاظ قدر الوسع والطاقة على مكاسب الوطن والأمة والبعد عن حالات المجابهة والصدام.

إنها الحكمة التي كونت وطنا كبيرا ومتحدا بهذا الشموخ.

وإنها التجربة العريقة المتسلسلة عبر القرون الثلاثة الماضية التي شكلت وخلقت هذه الرؤية السياسية الواعية القادرة على فهم واجتراح الموقف السليم والناضج من بين أتون الصراعات والتكالبات والاستقطابات السياسية الدولية.

وتلف الآن في هذه المرحلة الحرجة من تأريخ الأمة العربية العواصف من الجهات الأربع بوطننا وهو متماسك ومتحد، وتنطلق الشعارات المدوية الكاذبة الخالبة وشعار وطننا أبدا الانطلاق من مبادئ القيم والأخلاق العربية والإسلامية، والمزج بين الأصالة والمعاصرة، والانفتاح على ثقافات العالم دون تمييع أو انسلاخ، والبناء التنموي الراسخ والممتد دون ضجيج ولا ادعاء.

وهاهو الشعب السعودي يرى بأم عينيه كيف يدمر الحكام العسكر مدنهم، وكيف يقصفون قراهم وكأن شعوبهم أعداء لهم، يقصفون ما استطاعوا بناءه -وهو قليل- من مدارس أو مشاف أو طرق، وكأن ذلك كله لأعداء وليس لشركاء في الوطن! وهنا يزداد السعوديون تمسكا بدولتهم وبقيادتهم وهم يرون العسكر يذبحون شعوبهم، ويقتلون أطفال شعوبهم، ويغتصبون نساء شعوبهم، ويستقدمون المرتزقة للقتل وللاغتصاب؛ المرتزقة الأفارقة، أو المرتزقة الحزبيين والطائفيين!

عالم عربي يمور من حول أبناء السعودية بالفوضى والدم والقتل والشبيحة وهدم البيوت على ساكنيها بالدبابات والصواريخ!

عالم عربي يصحو أو ينتحر أو ينتقم أو يبحث عن الخلاص؛ فلا يجد سبيلا إلا طريقا واحدا هو الموت عاري الصدر أمام الرصاص الحار الأحمر الملتهب ينهمر عليه من أنظمته العسكرية الحاكمة!

شعوب تصحو وتنتفض بعد يأس وصبر طويل، وبعد أنين مزمن تحت وطأة العسكر عقوداً وعقوداً مرة من المظالم والفرز الطائفي والاضطهاد والتصنيف والموت السريع بالتغييب أو الموت البطيء تحت القهر والتهميش والتربص!

عالم عربي اختطف فيه مقود السلطة «عقيد» أو «مقدم» أو «شاويش» ثم اختطف معه الحرية والكرامة والعقل والمنطق والتفكير الراشد، وأقام معسكرا - لا دولة- محاطا بمراكز الاستخبارات والتحري وكتائب الأمن والشبيحة؛ لا دولة لها نظام وقانون وإستراتيجية وطموح وخطط تنموية ورؤية متصالحة مع كل ما يمكن أن يدفع شعوبهم إلى الرقي والرفعة والتحضر!

كيف يمكن لنظام عسكري أن يشعر بالاستقرار والدعة والأمن، أو أن يبني وينجز دون قلاقل أو ثورات ومن يحكمه «طائفة» لا تمثل إلا 12% من مجمل السكان؛ بينما 88% من السكان يعملون تحت وطأة التحري والمراقبة والسخرة والصمت الذليل؟!

وكيف لهذه 88% أن ترضى برهن ما يمكن تسميته مجازا بـ «الدولة» أو «الوطن» لنظام بعيد شرقا لا يلتقي معه لغة ولا ثقافة ولا اتجاها ولاجوارا؟! والرابط «الوحيد» هو الانتماء «الطائفي الباطني» ليس إلا!

قديما ارتهن هذا النظام للماركسية الشيوعية قبل أن تولد دولة «الملالي» وحين نجح «الملالي» في الوصول إلى سدة الحكم كان على فرعها الصغير المستضعف القلق من المستقبل أن ينقل ولاءه من الاشتراكية المدعاة إلى الشركاء الأيدلوجيين الجدد؛ طمعا في الأمن وخوفا من الرفاق، ومن أبناء الوطن، ومن المحيط العربي كله.

ولكن.. هل يصمد هذا الحلف الطائفي الذي أريد له أن يكون «مثلثا» أمام موجات وانتفاضات المضطهدين والمهمشين؟!

الذي يتبين الآن أنه لا الشبيحة ولا الصواريخ المحمولة على الكتف ولا الدبابات بقادرة على إسكات المنتفضين، وإخماد ثورتهم، وإعادة الحياة إلى زمن الصمت والإذعان القديم.

والذي يتبين أيضا أن المكابرة والارتماء في أحضان طائفية الملالي والانفصال عن هموم المنطقة العربية وعن الموروث العربي ووحدة الأمة في مشاعرها وأمانيها ربما يجر المنطقة بكاملها إلى مرحلة من الفوضى والاقتتال والدماء وتدخل الدول الكبرى ذات المطامع في ثروات المنطقة، وترويج الترسانة العسكرية الغربية على الجبهات التي ستتصارع، والضحية هم الشعوب، والاستقرار والأمن، وتأخر التنمية إن لم يكن عودة كثير من دول المنطقة إلى مرحلة الفقر والفاقة والديون، وارتهان ثرواتها عقودا طويلة لدول أخرى مستفيدة؛ كما هي القصة التي ما زالت ساخنة في العراق.

إن الحماقة لا تجر إلا إلى مزيد من الحماقات، هكذا تعلمنا من دروس التأريخ، وإن تحكيم منطق العقل، والاسترشاد بالحكمة، والالتزام بالأخلاق الإنسانية؛ ينقذ من الانهيار الذي تلوح بوادره بعيداً في الأفق، الذي قد يجر المنطقة كلها إلى زلزال مدمر ومستنقع آسن، ليس أقل من تلك الهوة التي جر إليها المنطقة كلها صدام حسين؛ بسبب غياب منطق العقل، وغلبة منطق القوة، والثقة المفرطة في القدرات الذاتية.

وإن الدم يقود إلى الدم، والمظلمة تتطهر بالقصاص!

ومن يلجأ إلى الغرباء، أو يرتمي في أحضان من لا يلتقي معه لغة ولاتراثاً ولا هموماً أو وشائج سيجني الشوك والمرارة والأسى والخسران. وتجربتنا التأريخية الطويلة مع أولئك الغرباء الدخلاء الذين استكانوا ولانوا واندمجوا مع الأمة حتى واتتهم الفرصة قبل سقوط بغداد عام 656هـ فتمالؤوا مع التتر كما هي قصة «ابن العلقمي» وها هي الأحداث تكرر نفسها من جديد على يد علاقمة هذا العصر!

لأن كل ولاء لا يعود لموروث الأمة بكل معطياته الأخلاقية والقيمية سيسقط حتما، وسيعيد الجسد العربي بناء نسيجه من جديد بلحمة من خلاياه وأنسجته، فالعضو الغريب لن يعيش طويلا وسط بيئة ليس منه وليس منها.

وتتميز التجربة السعودية السياسية والتنموية بأنها متخلقة نامية ومترعرعة ثم مثمرة وسط بيئتها، فهي ابنة البيئة العربية والإسلامية بامتياز، وقادتها وعبر ثلاثمائة سنة أغبرت أقدامهم وحفيت، وشقوا وواجهو في المعارك النبال والسيوف، وعانوا التشرد والفقر، وصبروا وصابروا إلى أن مكن الله لهم في الأرض؛ ووقفوا أمام المكائد والغزوات معتصمين بمبادئهم السامية، وبأهدافهم العالية، فسقطت المكائد، واندحر الغزاة، وبقيت الدولة السعودية شامخة سامقة وارفة الظلال، تخرج من كل مكابدة وهي أشد وأقوى وأعنف مراسا ومصاولة، وأكثر وعياً لاستلهام الدروس والعبر.

تظل التجربةُ السعودية الأولى على المستوى العربي، والأولى على المستوى الإسلامي؛ فعربيا فشلت كل المحاولات القومية والقطرية على كل الأصعدة، وآخر ثمارها المرة ما نشاهده الآن من فوضى وقلاقل واضطرابات وسفك دماء وجرجرة محاكم ومطاردات غيابية!

وعلى المستوى الإسلامي لم يشهد العالم الإسلامي دولة عربية إسلامية قوية بعد الخلافة العباسية في المشرق التي سقطت عام 656هـ أو الدولة الإسلامية في الأندلس التي سقطت نهائيا عام 897هـ على يد أبي عبيد الله الصغير، فالسعودية هي الدولة الإسلامية التي تقدم الإسلام كما هو نقي وصادق ومن مصادره الأولى، وهي التي تجمع في معادلة متوازنة بين الحفاظ على الشخصية الذاتية ومكوناتها الأصيلة وبين المعطيات الحضارية من الثقافات الأخرى.

وسط الأمواج واللهب والانهيارات تظل المملكة العربية السعودية القلعة الحصينة.

ووسط كل هذا الدم العربي المراق بيد الشبيحة والكتائب تظل السعودية منطلق العروبة والإسلام والأخلاق والنبل.

ووسط كل هذا التمزق والصيحات والولاءات والمخاوف تظل المدرسة السياسية السعودية تعلم الحكمة لمن ضاعت بوصلات اتجاهاتهم وفقدوا توازنهم أمام ثورات شعوبهم، بفقدانهم الشرعية؛ لأن الشرعية الحقيقية تنبثق من هذه الشعوب؛ فهي من تمنح الحكام مشروعية بقائهم.