Tuesday  16/08/2011/2011 Issue 14201

الثلاثاء 16 رمضان 1432  العدد  14201

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

لو رحت أسأل عن مستقر الأحوال الوطني المهيض الجناح من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، لكنت كحال الشاعر الجريح المشاعر الذي عبَّر عن تأوهاته بقوله:

«كم عِشْتُ أسألُ أين وَجْهُ بلادي

أين النخيلُ وأين دفءُ الوادي؟

لا شيء يبدو في السماء أمامنا

غَيْر الظلام وصورة الجلاد»

وتلك هي مشاعر العقلاء الذين يعيدون التاريخ المأساوي الذي حكى طرفاً منه الذكر الحكيم:

لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ .

تلك هي حال الطيبين الذين يتفجعون على حال أمتهم ومصيرها المظلم. لقد جمجم عن مشاعر هذا الصنف من المحسنين النداء المثير الذي وجهه الملك عبدالله إلى قادة سوريا وشعبها المقهور. إنه مثال التوازن والتوقيت وبراءة الذمة وجهد المقل، ولهذا أجمع المراقبون على مفصليته ومجيئه على قَدَرٍ، لأنه قطع دابر التساؤلات عن الموقف العربي، ولو تقبله المستهدفون بقبول حسن لكان بالإمكان حقنُ الدماء والعودة إلى مائدة المفاوضات والخلوص من ضرب الرقاب والإثخان وشد الوثاق، ثم لا يكون مَنٌّ ولا فداء، ولكن قتل أو تأبيد.

ولما كانت الأوضاع في دمشق الأمويين كما هي في بغداد الرشيد شائكةً ومعقدةً كان لا بد من مبادرات غير متحيزة ومناصحات لا مزايدة فيها ولا إثارة تضع المتنازعين أمام أنفسهم، عسى أن يثوبوا إلى رشدهم ويجنحوا إلى السلام.

وإذ لا مناص من فك الاشتباك وإطفاء لهيب الفتن وإرجاع الأفاعي إلى جحورها فإن من مصلحة الأمة العربية أن تَحُكَّ جلدها بظفرها وأن تتولى جميع أمرها، فتجربة التدخلات الخارجية تجربة فاشلة، والشواهد حية يراها الناس رأي العين في العراق وأفغانستان، وتدخل الأمة العربية عبر مؤسساتها في الوقت المناسب أدعى إلى الطمأنينة والاطمئنان والربط على الأفئدة الفارغة، وقد يحول ذلك دون تدخل دولي يتطور من (اللوجِسْتيةِ) إلى العسكرية ومن الإنسانية إلى الوحشية، ومن الندية إلى سلب الحرية.

وسوريا العصية على كل التوقعات تعيش حالة استثنائية بين الدول العربية التي تعرضت للانتفاضات الشعبية، فهي دولة محورية وسقوط النظام يستتبع سقوط تحالفات مشبوهة واندحار تدخلات مضرة بأمن المنطقة وهي إذ تكون من قبل ذات تاريخ عروبي عريق قاوم التتريك فإنها مُنيت بداء (الطائفية) و(البعثية) ونفذت إليها الأفعى الفارسية، فاستحكمت حلقاتها، وظن أهلها أنهم غير قادرين على استرجاعها وأنها بهذا التعقيد لن تنفرج، غير أن المتشائمين يقدِّرون وتضحك الأقدار، فالمدبِّر في السماء، وهو وحده الذي يداول الأيام بين الناس ويؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، ويأتي المفرطين في جنبه من حيث لم يحتسبوا وقد يجعل عالي أرضهم سافلها ويمطرهم بحجارة من سجيل منضود مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ فكل الذين يوغلون في الظلم ويأمنون مكر الله يأتيهم بأس الله بياتاً وهم نائمون أو يأتيهم ضحى وهم يلعبون.

والخوف من الثمن الباهظ الذي ستدفعه كل الأطراف من دماء تراق وأمن يختل واقتصاد ينهار ولحمة تتمزق وتخلف يستحكم وأحقاد تستشري وتدخلات مشبوهة تسلب المقدرات والحريات وتدع البلاد خاوية على عروشها وفرقاء يقتسمون الأرض المحروقة والأشلاء المبعثرة ويرضون من اللحم بعظم الرقبة بعدما كانوا أعزة. والمتابعون الوجلون يتخبطون في تصور (السيناريوهات) وكلها محتملة ومضرة بأوضاع الذين ظلموا وبمن حولهم على سنن الفتن التي لا تصيبن الذين ظلموا خاصة.

ولعل أهون الأضرار سبيلان:

- إما اعتزال الجيش للفتنة وعودته إلى ثكناته والمراقبة من بُعْد والحيلولة دون مطاردة المتظاهرين وإراقة دمائهم وحفظ الثغور من تدخلات أجنبية.

- وإما تدخل عربي عبر مؤسساته المعتبرة يحمل كل الأطراف على الإذعان والقبول ويكون على مستوى مسؤوليته القومية والإسلامية والإنسانية معتمداً قاعدة: (لا ضرر ولا ضرار) بحيث لا يتحيز إلى فئة دون أخرى. وتجربة الجيش المصري خير مثال على حقن الدماء واستتباب الأمن والخروج من الفتنة بأقل الخسائر، وإن ظلت الثورة تراوح مكانها تحت تأثير انتشاء النصر.

وتجربة درع الجزيرة والقرار الحكيم لمجلس التعاون الخليجي في البحرين شاهد عدل على تدارك الأمر وإجهاض التآمر القذر على أمن البحرين واستقراره.

لقد عاندت أنظمة وركنت إلى الجيش والتجييش الإعلامي المداجي لإجهاض انتفاضة الشعوب فأنهكت نفسها وشعوبها وأهلكت شعوبها وشوهت سمعتها واستعدت على نفسها أطماع العالم، ولما تزل مصائرها في مهب الريح.

على أن الحل العربي المنشود لا يقف عند مجرد التنديد ولا عند استدعاء السفراء أو تجميد العلاقات. إنه الدخول المباشر في صلب القضايا والتصرف العملي الموحَّد وممارسة المهمة التي تحقق مفهوم الأخوة الصادقة بحيث لا يكون هناك تخذيل ولا تسليم لأي طرف، ومتى أصرت الشعوب على إسقاط الأنظمة واجتمعت كلمتها على ذلك وتوفرت الحيثيات فإن ذلك حق مشروع، ولكن إتمام هذه الرغبة يتطلب تقديراً وتدبيراً لا تصنعه المظاهرات وحدها، وحق الشعوب التي أجهدتها الأنظمة الثورية التحول إلى أنظمة مدنية يسود فيها القانون ويعم فيها العدل وتتوفر الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص وتداول السلطة. وأحداث سوريا ليست بدعاً من الأحداث التي مرت بالدول العربية وكان بإمكان النظام أن يتفادى الصدام الدموي بالحوار الحضاري فالشعب ملَّ القمع وسئم الفقر ورفض الخروج من الصف العربي واستنكر التخلي عن الموقف القومي الذي امتازت به سوريا، والنظام السوري قبل ممارسة العنف في مواجهة الانتفاضة يملك عدة ورقات، ولكنه بعد المواجهة الدموية لم يبق بيده إلا الآلة العسكرية والمخابرات، وهو لكي يخرج من المأزق أمام خيارَيْن أحلاهما مُرّ فإما أن ينسف العلاقات مع إيران أو يُفرط بالموقف القومي واللحمة العربية.

والمواقف والأوضاع إزاء القطر السوري قد لا تختلف عما هي عليه بالنسبة للدول التي تعرضت للانتفاضات الشعبية، فالعالم الغربي بقيادة أمريكا يمارس حراكاً مكروراً لم يحقق ما تتطلع إليه الشعوب المنكوبة، والعالم الإسلامي ينطوي على ثلاثة اتجاهات: عربي، وإيراني، وتركي.

وأضعف الثلاثة هو أجداها وأسلمها، أما إيران فالخاسر الأكبر فهي تستبق الأحداث وتعمل من تحت الطاولة، وإن مارست تلطيف الأجواء وتهذيب الخطاب مع المملكة ومصر ولكنها ممارسة في الوقت الضائع، أما تركيا فهي الأندى صوتاً والأقل جدوى ذلك أنها كمهاجر أم قيس لديها «أجندة» تمس النوايا الحسنة، وهذا الاندفاع وتلك اللهجة الحادة مرتبطة بأوضاع ضاحية للعيان، فالتركيبة السكانية فيها تمد بسبب إلى التركيبة السكانية السورية، فلديها «أكراد» و»نصيريون» وأي تغيير جذري في سوريا سيوقظ العرقيات والطائفيات، ثم إنها على أبواب انتخابات ويود الحزب الحاكم استكمال التعبئة العامة، وفوق هذا فقد أسال لعابها ما ظفر به الموقف العربي من خلال النداء الحكيم الذي وجهه الملك عبدالله للأطراف المتنازعة وكأني بها تريد سحب البساط وسرقة الأضواء، ثم هي معرضة لالتفاف إيراني على خطابها. وعلى كل التصورات والتوقعات نتمنى نجاح أي مساعٍ خيِّرة.

لقد أجمع المراقبون على أن موقفها لما يزل صوتاً إعلامياً صاخباً. والنظام السوري أمام تلك المواقف المتفقة على الإدانة والمتفاوتة في الإجراءات والتأثيرات بحاجة ملحة إلى مراجعة الحساب وتغيير المسار. فالقرار المستأثر بكل الغنائم من المستحيلات والوعود المؤجلة لن تطفئ لظى الثورة التي بلغت حد اللارجعة، فهو إما أن يتحول عن طائفيته وبعثيته وعلاقاته المقلقة مع إيران، أو أن يبيع كل شيء في سبيل هذا الثالوث الخطير، وعندئذ لا يكون بيده إلا الحل العسكري والدعم الإيراني والتكتل الطائفي والحربي. إنها معضلة القرن، وليس أمام الشعب السوري إلا الصبر والمصابرة والمرابطة.

وعلى كل الأحوال فإنه من الصعوبة بمكان تخلي النظام عن شيء من مكوناته، ومن الصعوبة بمكان تراجع الشعب عن انتفاضته ومطالبه وتلك المعضلة مقلقة لكل الأطراف ومضرة بكل الأطراف، والله وحده الملاذ الأخير ومعيته مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.

 

... وَدَمْعٌ لا يكفكف يا دمشق..!
حسن بن فهد الهويمل

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة