Tuesday  06/09/2011/2011 Issue 14222

الثلاثاء 08 شوال 1432  العدد  14222

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

استحت اللغة، وصار بيني وبين الكلام شيئ كالفاصلة الضخمة، أو كحد السيف، أو كفوهة البندقية، أو كوجع الرمح، لقد أصابني الهوس والتعجب الكبير، والمتاهة الهلامية، والحركات الجامحة، التي ما انفكت تطاردني، وتشكلت لدي وصلة عنيفة تدفقت في شراييني، حين يصبح البائع البسيط المتجول (فرقنا) في مدينة طرابلس اللبنانية كما قرأت قصته في بعض وسائل الإعلام، أبو للفقراء ونصيرا للمحتاجين، وذلك حتى لا يبقى في مدينته فقير ولا جائع ولا محتاج، يا الله كم من جائع للخبز أطعمه؟ كم من فقيرا نام في صقيع الشتاء أعطاه ودثره باللحاف؟ كم من شظية حزن في قلب مسكين أزالها؟ كم من عاريا كساه؟ كم من يتيم مسح على جبينه وأهداه؟ كم من أرمله نام في حضنها الأسى والخريف وتسلل إلى قلبها البرد رشقها بالهبات والعطايا الكبار؟ كم من ظامئ للماء سقاه؟ كم تناسلت من بين يديه الطيور البيضاء؟ كم زحف طويلا إلى الجمعيات الخيرية ليزرع البهجة والحبور في قلوب المسنين؟ كم من مريض كساه السقم أهداه الوردة وتنفس معه رائحة النقاء؟ كم من عليل واساه؟ كم آنس من وحدة؟ الناس كلهم يعيشون في نفسه ويتعايشون في ذاكرته فيجدهم في لحظات أقرب إليه من حبل الوريد، هام بحب الناس حتى أرمدت عيونه، اعتاد أن يجول بائعا فجرا ما استطاع أو في بواكير الصباح، لأنه يجد أن الفجر والصباح يمتلكان بكارة الأشياء قبل أن يدب دبيب التلوث، تماما كلذة النظرة الأولى واللقمة الأولى والرشفة الأولى والنعسة الأولى، غريب هو هذا البائع البسيط المتجول يمنح الناس الدفء والحنان ورحابة المقام وصفو الكلام ويقاسمهم اللقمة واللذة وبين حناياه عطش قديم وعوز وفقر وحطام حياة ، هو مثل سدرة عالية، وربوة عالية، ونبت حديقة، وشلال ماء، وموجة وإيقاع، وتخوم شعر ونثر، وخطاب مكتظ بالإيحاء، وبحر واتساع حياة، وبساتين وجزر، وضفتي نهر، وزهور ماء لامعة، وإيقاع موج، ورائحة ساحل، في نفسه شهود كثيرة تغني وتتكلم في داخله، تتراءى طرية خلف أسوار ذاكرته، الواقع في مسروداته يكتسب الحياة ويمسي حاضرا، والأشياء عنده شواهد، وعناوين لقصص توحي بقوة الأشياء وشواهدها ومعالمها، أن الذي يعني هذا البائع المعدم البسيط هو تحرير الناس من سطوة الحاجة، لذا حمل همومهم وشجونهم وآهاتهم، وتمثل أمامهم بزخم حضوري تغلفه الإنسانية النبيلة، مزجها كأفعال حقيقية لها ارتكازات قوية راقية ونبيلة، حتى أنه حول الحلم والتخيل لدى البعض إلى ثية واقعية، وإيقاظ وعي حي في وجدان الناس، فهل بعض تجارنا النائمون الذين يشبهون القبور المهجورة، والدور العتيقة، والأبواب الموصدة، والسكون المهول، والأعمدة المائلة، والسقوف التي تكاد تسقط، والدروب الضيقة، وأشباح المساء، والطقوس الخرافية، يثيرهم فعل هذا البائع البسيط المتجول ويحدقون جيدا ومن ثم يبكون بعويل حاد وبعدها يهرعون إلى الزوايا الكثيرة ليبحثون عن الأفواه الجائعة والأجساد التي نخرها المرض وأصحاب الحاجات واليتامى والأرامل، لكي يكونوا ملتحمين بتلك الحالات ومشدودين إليها، وفق أعمال لها وهجها وبريقها لكي تبقى طويلا في مخزون الذاكرة ومكنون الوعي، ليدخلوا في قلوب البؤساء صورا جذابة لها ضوء، وليكونوا ملتحمين بالناس والأمكنة والأشياء على صعيدي الواقع والحلم، وحتى لا يكون ركودهم مثل الخيبة التي تستر الضعف لكنها لا تشفي ولا تعزي، أو كالرمل الذي يحز العيون، وقبل أن تلفظهم الحياة، ويتوارون في أفق العدم، ويأخذهم الموت، وتنسل أرواحهم خارجة من الأبدان، ويختفون تحت التراب، وينتهون تماما كما تنتهي أيام نشوتهم ورخائهم ومتعهم واللذات.

ramadanalanezi@hotmail.com
 

(أبو الفقراء) بائع لبناني متجول!
رمضان جريدي العنزي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة