Wednesday  07/09/2011/2011 Issue 14223

الاربعاء 09 شوال 1432  العدد  14223

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

وجهات نظر

      

ومضة:

تعلمت في سنوات الغربة ما لم تعلمنيه الحياة في عقود من عمري، ففي الغربة تظهر معادن الناس كما هي دون أقنعة ولا أصبغة، كثيرون منهم يبدون ما كانوا يخفونه لولا السفر! وكثيرون لا صديق لهم في السر والحقيقة، ولهم ألف حبيب في العلن....

في أول أيام شهر رمضان المبارك، وهو الشهر الوحيد الذي يحلو فيه اجتماع العائلة في وقت واحد لتناول طعام الإفطار. كعادتنا... كنا نتحلق حول المائدة في انتظار أذان المغرب، ونردد مع والدي وهو يدعو الله بأن يعيننا على صيام شهر رمضان وقيامه، وأن يجعلنا من عتقائه، وأن يرحمنا ويغفر لنا ويعفو عنا، ويتولانا ويبارك لنا، وأن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا.. اللهم لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا، وعلى صيام غداً إن شاء الله نوينا.... ونبدأ إفطارنا في جو عائلي حميم.... لكن... اليوم والدتي لم تكن على ما يرام، نظرت إليها أكثر من مرة لعلي أستشف ما بها، لكنها كانت شاردة بادية الحزن....

بعد أن انتهينا من تناول طعام الإفطار، توجهت والدتي إلى حجرتها، فلحقت بها مستفسرة عن حالها وما بها، فلم تجبني، إنما بدأت بالصلاة والدعاء وهي تبكي بغزارة، كانت تدعو الله أن يغفر لماما مليكه، ويرحمها ويعافها ويعف عنها، ويكرم نزلها، ويوسع مدخلها، ويغسلها بالماء والثلج والبرد، وينقيها كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، ويبدلها داراً خيراً من دارها، وزوجاً خيراً من زوجها، ويدخلها الجنة، ويعذها من عذاب النار....

احترمت مشاعر والدتي، وغادرت الحجرة وأنا أتساءل عن من تكون ماما مليكه؟

في اليوم التالي... كان حال والدتي أفضل، فسألتها مستفسرة، وأجابتني بقصة مؤثرة للغاية، مفادها الآتي:

نشأت والدتي وترعرعت في مدينة طنجة المغربية، في بيت مسلم يحاول ساكنوه قدر استطاعتهم تطبيق أوامر الدين الإسلامي واجتناب نواهيه، أنهت والدتي دراستها الثانوية وحصلت على بعثة لإحدى الدول الأوروبية مع اثنتين من صديقاتها. وبالفعل سافرت مع صديقتيها وبدأن أولى تجارب الغربة، حيث كن يقطن أحد البيوت الخاصة بالطالبات. وبما أن الغربة تكشف عن معادن البشر، فقد تبدلت صديقات والدتي، نزعن الحجاب، وأصبحن يستمتعن بإغراءات المدنية والحياة الجديدة.... وهذا الأمر دفع بوالدتي إلى البحث عن مسكن آخر، فأهدافها واضحة، وهي التحصيل العلمي والتمسك بدينها وإن كانت بالغربة بعيدة عن الرقابة....

استطاعت والدتي الحصول على حجرة في منزل سيدة إيطالية، كانت الحجرة مستقلة بباب مستقل، ولم تكن ترى السيدة الإيطالية إلا عندما يستحق الإيجار... ومضت الأيام.. وكانت والدتي تشعر بالغربة والوحشة أحياناً، لكن أهدافها الواضحة كانت تهون عليها.... فكانت تقضي وقتها في الدراسة والتحصيل، وأيام الآحاد كانت تذهب للتسوق، والاتصال بأهلها، والاستمتاع بجمال الطبيعة الخلاب عند البحيرة حيث القراءة وكتابة الرسائل...

ودخل شهر رمضان المبارك، ولم تتمالك والدتي نفسها وبكت كثيراً، فهي تشتاق إلى جدي وجدتي... تشتاق إلى طنجة وليالي رمضان... تشتاق إلى ألعاب الأطفال... تشتاق إلى الجو الإسلامي الحميم... تشتاق إلى صوت الأذان.. إلى الأكلات المغربية والحلويات....

في أول يوم من شهر رمضان، وعندما عادت والدتي إلى حجرتها، وجدت عند عتبة الباب سلة كبيرة فيها ما لذ وطاب من المأكولات المغربية والحلويات... استغربت والدتي، وضحكت، وتساءلت... أتكون هدية هبطت عليها من السماء؟ وتكرر في اليوم التالي وما تلاه وجود السلة ومحتوياتها المتنوعة من البريوت/ سمبوسة، طاجن البرقوق، طاجن لحم البيض واللوز، طاجن الدجاج مع الزيتون، الحريرة، بسطيلة، شباكية، مجبنة، غريبية، فقاقس، زعلوك... فأصابها الفضول... من يا ترى الشخص المجهول الذي يضع لها الزُوادة كل يوم.....

في اليوم الخامس قررت أن تنتظر خلف الباب لترى هذا المجهول.... وبالفعل حال وضع السلة فتحت الباب فوجدت امرأة متواضعة المظهر والملبس، وتبين أن هذه المرأة هي عيشة المغربية التي تعمل في البيت المجاور، بيت حديقة الياسمين، وأن سيدة البيت السيدة مليكه هي من أمرت عيشة بتحضير السلة وإحضارها إلى والدتي، ولم تفصل أكثر من ذلك، وتركت والدتي في استغرابها...

كان بيت حديقة الياسمين بيت هادئ جداً، لا يصدر عن ساكنيه أي صوت أو حركة... وتحيط به حديقة رائعة الجمال، وممتلئة بزهر الياسمين.... والواضح أن الحديقة تلقى اهتماماً وعناية مبالغ فيهما....

حاولت والدتي في الأيام التالية أن تستفسر من عيشة أكثر عن السيدة مليكه، لكنها كانت متحفظة جداً ولا تعطي أي معلومة... وفي أول أيام العيد توجهت والدتي لزيارة السيدة مليكه، لتهنئها بالعيد، ولتشكرها على زوادة رمضان...

عندما دخلت والدتي من البوابة بدت لها حديقة الياسمين غاية في الروعة والجمال... ناهيك عن رائحة زهر الياسمين المنعشة... طرقت الباب وقادتها عيشة إلى الصالون حيث السيدة مليكه، التي استقبلتها بحفاوة وترحاب.. كانت البيت مرتباً هادئاً نظيفاً دافئاً... والسيدة مليكه إنسانة حنونة قريبة للقلب.... شيئاً ما كان يجمع بين والدتي والسيدة مليكه.... وتوالت الأيام والزيارات... كانتا تقضيان الوقت مستمتعتان بسحر حديقة الياسمين والشاي المغربي، وأحياناً تقصدان البحيرة.. وأحياناً كثيرة كانت والدتي تقرأ لماما مليكه كتب الشعر والأدب العالمي وحكايا ألف ليلة وليلة...

وحدث في يوم أن قصدت والدتي منزل ماما مليكه فوجدتها في حال يرثى له، وصارحت والدتي، وقالت لها بأنها تتألم، حزينة، يمزقها شعور بالاغتراب والوحشة، تشعر بوحدة تنخر عظامها ويتغلغل الحزن حتى عمق العمق منها... في لحظات بل سويعات تهاجمها الحقائق المحيطة بها... عارية بكل قسوتها وتنافرها.. خالية من أي تزييف.. خالية من أي غطاء.. أو أي محاولة لتخفيف قسوتها.... في تلك السويعات تتذكر فقدانها لزوجها وترملها في سن مبكرة، تتذكر المسؤولية التي كانت تحملها تجاه ابنتها الصغيرة اليتيمة ياسمين... إلى أن كبرت وترعرعت ثم فتك بها المرض الذي قضى على حياتها... تتذكر الحزن والألم... تتذكر الأصدقاء الذين انفضوا من حولها وملوا منها... الأصدقاء.... لقد انكشفت معادنهم في الغربة... وأظهر السفر قلة أصالتهم ووفائهم....اليوم هو ذكرى وفاة ابنتها ياسمين.... اليوم مضى على حزنها ست سنوات... كم هي الحياة قاسية وصعبة.....

من يومها لم تترك والدتي ماما مليكه، لقد كانت تحبها من قلبها وتشعر نحوها بعاطفة غريبة، كما كانت ماما مليكه تجد السلوى والعوض في والدتي... ومضت الأيام وأنهت والدتي دراستها... وحانت لحظة الوداع... وغادرت والدتي البلدة عائدة إلى طنجة... ولم تنقطع رسائلها إلى ماما مليكه، وكان تواصلها معها دائم.....

وبالأمس اتصلت عيشة لتخبر والدتي بوفاة ماما مليكه.... رحمك الله يا ماما مليكه وأسكنك فسيح جناته...

- الرياض

 

الزُوادة
دانة الخياط

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة