Thursday  15/09/2011/2011 Issue 14231

الخميس 17 شوال 1432  العدد  14231

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الثقافية

      

«جاؤوا له برِقاع مكتوب فيها (قرآن المسلمين)، فنظر إليها طويلًا، وجال ببصره في السهول البعيدة، ثم قام وهو يقول، وكأنه يحادث نفسه: «يأتي بهذا، ويُسيل الدِّماء»؟!»(1)

مثلما صوَّر (يوسف زيدان) الوثنيّة المِصْريّة، في روايته «عزازيل»، على أنها ثقافة الجَمال والحضارة والفلسفة، في مقابل المسيحيّة الدمويّة المتوحِّشة، بدا مصوِّرًا وثنيّة الجزيرة العربيّة، في روايته «النَّبَطي»، كذلك بأنها مثال السماحة والطِّيبة والتنوُّع والحضارة، في مقابل الدمويّة التي جاء بها النبيُّ القرشيُّ، كما يسمّيه على لسان أبطاله!

والنصّ المقتبس أعلاه يسوقه زيدان حول ما جيء إلى النبطيّ به من قرآن، قال عنه ما قال. معرِّضًا الراوي في غضون ذلك بالرسول وبحركته، متباكيًا ضمنيًّا على ما حدث لليهود. كأنه لا يعرف- كما يبدو، وهو المهتمّ بعلم التاريخ وأوابده وأقنعته ومخطوطاته- الحيثيات التاريخيّة وراء ما حدث لليهود في الجزيرة من تهجيرٍ، ولم يقف على المسؤول عن ذلك؟ وإنما تلفته صبايا اليهود البائسات الفارّات شمالًا من جانب، وحُزنُ أُمّ البنين وموتها وهي تطوف على صنم اللات، لمّا سمعت بهدم كعبتها في الطائف، من جانب آخر!

كأنما هو لا تعنيه، تاريخيًّا أو روائيًّا- وهو يبثّ للقارئ العامّي، أو غير المطّلع، ليقحمه في مهامه التاريخ- الإشارةُ إلى أن اليهود هم الذين نكثوا بعهدهم مع الرسول، وهم الذين خانوه، واعْتَدَوا عليه وعلى المسلمين، وغَدَرُوا به، وتآمروا عليه لاجتثاث دولته الوليدة في المدينة، وحاولوا اغتياله غير مرّة، بإلقاء صخرةٍ حينًا، وتسميم طعامه حينًا، أو أحيانًا. كما لا يعنيه أن يَصُبّ مثل خطابه ذاك في صالح التيّار الصهيوني، الذي يَعُدّ ما حدث أمرًا ينبغي أن يؤخذ مأخذ الهولوكست، بل أنْ تستعاد مواطن ومزارع لليهود هُجِّروا منها، إذ ذاك. وليس هذا بسرٍّ في المخطّطات الإسرائيليّة، بعيدة الأمد، أو قريبة المدى، ولا تنقصها شهادةٌ روائيّةٌ تاريخيّةٌ متأخِّرة، أو يُعوزها إرهاصٌ فكريٌّ لتلك المشاريع المبيّتة.

صحيح أن المؤلِّف ألمح إلماحًا إلى شيءٍ من جناية اليهود، ولكن عَرَضًا، على لسان (سلّومة)، وبعد أن اعتنق الإسلام، خلال حواره مع زوجته. بيد أن خطاب الرواية العامّ ظلّ ينضح بإشاراتٍ سلبيّةٍ حيال الإسلام والمسلمين، وحول الحركة التاريخية التي أحدثها الإسلام في جزيرة العرب وخارجها، اجتماعيًّا وسياسيًّا. ذلك أن الإسلام ليس «دِينًا»- بالمعنى التقليدي الكهنوتي للدِّين- بل هو (نظام حياة). ويكفي لتأكيد هذا التأمّلُ في سورة قرآنية كـ(سورة العصر)، التي هي بمثابة نظريّةٍ في الحياة، إذ تشير إلى أن (حياة الإنسان في خُسْر)، إلّا إنْ تحقَّقت المعادلة التالية: (إيمان+ عمل صالح+ حق+ صبر= حياة إنسانيّة رابحة). إنّ تلك العناصر هي ضمان الحياة الصالحة والمنتجة، وبانتفاء أحد عناصرها الأربعة المتكاملة تلك يختلّ ميزان الحياة. فالإيمان ضمانٌ نفسيٌّ وروحيٌّ وذهنيٌّ لاستقرار الحياة ومضيّ الإنسان فيها بسلامٍ من جهة، ومن جهة أخرى ادّخاره لما بعد الحياة، في شعورٍ عميقٍ باستمرار الحياة، لا انقطاعها بانقطاع الحضور الفردي في دنياه. والعمل هو معنى الوقت والوجود، وذلك لترك أثرٍ نافعٍ وتخليف بصمةٍ مائزةٍ على صفحة العصر الذي عاش المرء فيه، وإلّا فإن الإنسان سيمضي كما تمضي كلّ الكائنات الحيّة، بلا أثرٍ ولا عائدٍ، وكأنه لم يكن. غير أن المطلوب ليس أيّ عملٍ، بل العمل الصالح. إلّا أن ذلك لا يكفي أيضًا، فقد يؤمن الإنسان، ويعمل أعمالًا صالحة؛ لكنه يظلّ دائرًا في نطاق الذات والأنا، لا يتفاعل، ولا تكون له مواقف من محيطه الاجتماعي والإنساني. وإنما الحياة في زخمها قائمةٌ على الحراك الاجتماعيّ، وهو حراكٌ مشروطٌ بإقامة الحقّ ونفي الباطل، والحقّ لا يتحقّق إلّا بالصبر في الكفاح من أجله، والصبر في مواجهة أضداده، وإلّا سقط الإنسان في ميدان الحياة وانهزم نفسيًّا، قبل أن ينهزم ماديًّا. وبذا، فلسنا هنا أمام مقولةٍ حِكَميّة، بل أمام مركّبٍ فلسفيٍّ عميقٍ، ومنظومةٍ شاملةٍ في قِيَم الحياة، وإنْ جاء في بضع كلماتٍ تَختزل- كمعادلةٍ رياضيّةٍ- آفاق من المبادئ والمعاني.

هذا، ولعل من شواهد خطاب زيدان، الدالّة على ما نزعم، ما يأتي:

1- أن (سلّومة)- وهو ذلك العربيّ النَّبَطيّ السِّكِّير، الذي تزوّج بالقبطيّة (ماريّة)، واصطحبها معه إلى ديار قومه في شمال الجزيرة، وكان، فيما يظهر، على الدِّين المسيحيّ- ما أنْ أَسْلَمَ، حتى انقلب حالُه، وتحوّلت طباعه، وصار تاجر حربٍ، وخيولٍ، وبَشَرٍ، كما وصفه النَّبَطي. والنَّبَطي هو ذلك الحائر بين الأديان والنبوّات.

2- كما أن سلّومة ما أنْ أَسْلَمَ، حتى استولّى على بيت زوجته في مِصْر، وعلى مالها الذي أودعتْه لديه، لولا شكواها لأخيه (الهودي)، اليهودي، فأعاد إليها بعضه.

3- ما أنْ أَسْلَمَ سلّومة أيضًا، حتى أخذ يفكِّر ويسعَى للزواج على زوجته المِصْريّة، مثنَى وثلاثَ ورُباع! وَفق المفهوم الساذج لرُخصة تعدّد الزوجات في الإسلام.

4- حتى (عميرو)، ذلك الصبيّ الوادع المسالم، أَسْلَمَ فصارت العصا، (الشومة)، لا تفارق يده. وتحوَّل إلى شخصٍ عدوانيٍّ؛ ضَرَبَ بعصاه سِنانَ اليهوديَّ؛ حين غضب سِنان لرَفْس فَرَس سلّومة ابنَه فتسبّب في قتله. وجعل يخاطبه عميرو بفوقيّة، قائلاً: إن عليه أن لا يرفع صوته على «أسياده»!

5- كما كان الدِّين الجديد- بحسب الرواية- سببًا في تشريد الأنباط من ديارهم في شمال الجزيرة، مسلمين ويهودًا ومسيحيّين ووثنيّين، في هجرةٍ إلى مِصْر، إلّا النَّبَطي- المتنبئ، غير المنتمي إلى دِينٍ محدّد- الذي بقي وحده في أرضه.

ولا يبدو مستساغًا تبرير هذه المضامين- التي تنظر إلى الأحداث من وجهٍ واحد، وبناءً على «شفويّات» روائيّة تحتاج إلى تمحيصٍ شديد- بأنها مواقف محايدة من التاريخ-- على فرض التسليم بدعوى الحياد تلك-- لأن التاريخ هنالك متداخلٌ بالدِّين، بل إن الدِّين هو الذي صنع ذلك التاريخ والأحداث. لكأن زيدان يتناغم بسلسلة رواياته تلك، إذن، مع الحرب الفكريّة والفعليّة المعاصرة على الأديان، ولاسيما الإسلام، تحت غطاء الحرب على الإرهاب، فيما كان جديرًا بمثله أن يراعي في طرحه موضوعيّةَ العالِم ومسؤوليّةَ الروائي.

على أن هناك ظاهرة عامّة اليوم من إعمال الأيديولوجيا في الرواية العربيّة؛ إذ أخذت بعض الأقلام تشتغل بالرواية بوصفها جسرًا لبثٍ فكريٍّ وأيديولوجيٍّ، تصريحًا أو تلميحًا، لينتهي الأمر بخيانة التاريخ والفكر والأدب، في آن! وبذا نعود إلى روايات التاريخ، والأديان، والأيديولوجيّات، والأفكار الاجتماعيّة، والمرافعات التيّاريّة، لفرض توجّهات ذهنيّة معيّنة. وتلك أسوأ أشكال الرواية (أدبًا). ذلك أن الأدب غايةٌ في ذاته، وليس مَرْكَبَة لبثّ منشوراتٍ ومخطوطاتٍ طائفيّةٍ أو دينيّةٍ أو أيديولجيّةٍ، تحت أيّ توجّه. وبذاك فإن ما لا يجرؤ بعض الكتاب على أن يمرّقوه من خلال كتبٍ باتوا يَزُجُّونه إلى الجماهير من خلال روايات؛ إمّا لضعف المخيّلة الإبداعيّة، أو لكي يقول أحدهم- حين يُساءل- أنا بريء، لستُ أقصد شيئًا، إنما كنت أكتب رواية!

إن الأدب تَنَفُّسٌ حيٌّ، متحرِّرٌ من القولبة، يسعى إلى تصوير قضايا الإنسان، وتجاربه، بصدقٍ، وتجرّدٍ، وشموليّةٍ، وبحسٍّ إنسانيٍّ، نقيٍّ من الآراء المؤدلجة، والأغراض المسبقة. وليس الأدب جِرابًا حاويًا، كما كان في مفهومه التقليدي العتيق، يوم أن كان يشمل التاريخ، والدِّين، والحضارة، والفلسفة، والسياسة.. إلخ. لقد كان هذا مفهومًا قديمًا للأدب، آخِذًا من كلّ شيءٍ بطَرَف، لا في الثقافة العربيّة فحسب، بل في الثقافة الإنجليزيّة أيضًا، جراء المصطلح الفضفاض لكلمة أدب «Literature». وها قد صارت الرواية- بصفة خاصّة- في عالمنا العربي تعود إلى ذلك الماضي، لتصبح مسرح عرضٍ لصراع الأفكار، لإيصال رسائل موجّهة، عبر أقنعةٍ شتّى. فظهر علينا- فجأة- روائيّون كُثر في العقود الأخيرة، لم يكن لهم حضورٌ يُذكر في عالم الأدب من قَبل، فالمؤرّخ ينفجر روائيًّا، والسياسي يحلِّق روائيًّا، والطائفيّ ينضح روائيًّا، واليساري يتجلّى روائيًّا، واليميني يتدلّى روائيًّا! ولا بأس بذلك، بل قد يكون نتاجًا مثريًا، شريطة أن يظلّ الأدب أدبًا، والرواية رواية.. وليس من أجل أن يغنِّي كلّ راويةٍ على ليلاه، ولغاياتٍ شتَّى في نفوس اليعاقيب!

[للوقفات بقية].

(1) زيدان، يوسف، (2010)، النَّبَطي، (القاهرة: دار الشروق)، 309.

p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
 

مساقات
رواية «النَّبَطي» .. وقفاتٌ نقدية: (1-2)
أ.د عبدالله بن أحمد الفيفي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة