Wednesday  05/10/2011/2011 Issue 14251

الاربعاء 07 ذو القعدة 1432  العدد  14251

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

إن مسألة «الأوراق النقدية» من كبار المسائل، بل ربما صح أن نجعلها من أمات المسائل الشرعية؛ لأن القول فيها إما مُرَجِّحٌ لتجويز ما تقرر عند الناس ربويته، وإما مُقِرٌّ لتحريمه، فأي تطور في المسألة سيؤثر على صورة البنوك لدى الناس قطعا، بل سيؤثر في عمل البنوك ذاتها من الأسوأ إلى الأحسن، وفي اقتصاد البلد أيضا، وقد شهدنا في الأيام الماضية طرحا علميا عميقا في تلك المسألة، تعاوَرَ ذلك الطرحَ باحثون مختصون في علم الشرع، ومختصون في علم الاقتصاد، فكان ذلك تلاقحا علميا جميلا، نتج عنه تجلية أمور لم يكن لها التجلي إلا بهزة عنيفة تحرك الماء الراكد، وكم من عالم أغفل أمورا لم يكن في حسبانه أن لها قيمة أو أثرا في الحكم حتى وُضِعَ في دوامة الإثارة، فليست المحنة التي يجدها العالم شرا محضا، بل قد يكون خيرها أعم، فمالك - رحمه الله - لما سئل عن الاستواء ؛ حل به كرب عظيم، وعلاه الرُّحَضَاءُ ؛ وكأن ذلك كان إيقاظا له من غفلة، فاستجمع عقله، ووضع قاعدة للتفريق بين معنى الصفة وكيفيتها، وفي هذا المقام لا غنى بنا عن مسائل أربع:

إحداها: «تكييف الأوراق النقدية فقهيا»، و»ما فيه من خلاف سابقا ولاحقا»، مع التحرير والمناقشة.

الثانية: «تكييف الفلوس»، مع بيان «آراء الأئمة الأربعة فيها»، ومناقشة «أدلة المكيفين للفلوس».

الثالثة: «إلحاق الورق النقدي بالفلوس «مع بيان «آراء العلماء فيها».

الرابعة: تحرير القول في التفريق بين قولنا: «هذا قول الأئمة الأربعة»، وقولنا: «هذا المقرر في المذاهب الأربعة»، أو «هذا في المذاهب الأربعة»، أو «في مذهب الأربعة».

وكل هذا سيتناوله هذا المقال وما يتبعه من مقالات - إن شاء الله - لكني لن أُقَدِّمَ ذكر آراء العلماء - كما هو المعتاد في بحث المسائل - لأن الغرض من ذكرها في غالب الأحوال الاستئناس بفهمهم واستنباطاتهم، وعدم الخروج عن مجموع أقوالهم خوفا من الإتيان بحكم جديد يشعر بأن الأمة مجمعة على ترك الحق، وليس لنا مأرب في سرد أقوالهم هنا ؛ لأنها معروفة، وإنما نذكرها - إن شاء الله - فيما بعد ؛ لأنه وقع في ضمن بحث هذه المسألة اختلاف فيما يعزى إليهم، فلزم بيان ذلك من خلال ألفاظهم وألفاظ أصحابهم.

وقبل هذا أحب أن أنبه إلى أن البحث في المسائل الشرعية له بركة عظيمة، ومن بركته - إضافة إلى ما مر من التلاقح العلمي - ما نلمسه لدى العلماء المتقدمين في مناظراتهم، ومباحثاتهم، من فوائد تتطاير في أثناء محاجاتهم خارجة عن المسألة المبحوثة، فنجد شاردة علمية، أو تأصيلا أصوليا، أو تقعيدا فقهيا، وأعظم من ذلك كله أنا نجد انفصالا تاما بين الباحث ومسألته، مما يضفي على روح المتحاورين الأريحية، فمتى اتصف المحاور بالثقة بما عنده ؛ ولم تكن مسألته مكملة لشخصه ؛ لم ينفعه أن يوافق الصواب، ولم يضره أن يخطئ الحقَّ، ولهذا لن يضطر إلى شتم مخالفه، ولا إلى سبه، أو التنقص من علمه، ومتى ارتبطت المسألة بذاته كان تضعيفها تضعيفا لذاته، وحينئذ يكون حكمه على الناس - مدحا وقدحا - تبعا لتوافقه أو اختلافه معهم، فلا مانع أن يكون من يراه اليوم عالما، ورعا، صادق النية - لموافقته له، أو لمجرد وقوفه واعترافه بنقص علمه في تلك المسألة - أن يراه غدا غير صادق، وغير عادل، أو غير أمين، أو ضعيف التأصيل - لكونه سفه الرأي الذي أخذ به -.

وبالقسمة العقلية نحن نعلم أن المخالف إما صادق وإما كاذب، فإن كان في ظننا صادقا ؛ لم يجز ذمه، سواء وافق الصواب أو خالفه، وإن كان في ظننا كاذبا ؛ لم يجز لنا الجزم بذلك ؛ لأن هذا مما لا يعلمه إلا الله، لا سيما أن كذبه على نفسه قبل كل شيء، ثم على دينه، وهو في ذلك لا يضر إلا نفسه، ولا حاجة بنا إلى تعريته ونحن لا نعلم سريرته، وهذا من آداب طلب العلم الشرعي والبحث فيه، فلا يصح أن يكون من يؤخذ عنه مسألة دينية ناطقا بالسب والشم، أحببت أن أشير إلى ذلك حتى لا تضيع جهود طيبة بسبب ألفاظ أفرزها الغضب، فما أجمل الدليل المسوق بلفظ جميل!

المسألة الأولى: «تكييف الأوراق النقدية فقهيا»:

الحكم على الأوراق النقدية لا يكون إلا بتصور حقيقتها ؛ لأن الحكم فرع التصور، وتصورها يتجلى بتكييفها فقهيا، والفقهاء لما نظروا فيها تبين لهم أنها لا تخرج عن كونها إما «سنداتٍ بدين» على مُصْدِرِها، وإما «عُروضَ تجارة»- أي: أنها سلع - وإما «بدلا من النقدين»، وإما «أثمانا».

فأما القول بأنها «سندات «فيعني أنها ليست - في ذاتها - أثمانا، بل هي وثيقة دين لحاملها على الدولة، وقيمتها في الالتزام المسجل عليها، فلا بد من تغطيتها بالذهب أو الفضة، فالتعامل بها تعامل بالذهب والفضة في الحقيقة، فيجري فيها ربا الفضل، وربا النسيئة.

وأجيب: بأن هذا تكييف غير صحيح ؛ لأمور ثلاثة:

أحدها: أنَّ جَعْلَهَا سندات يقضي بأن قبضها ليس قبضا لثمنها، وعليه فلا يصح دفعها فيما يجب فيه القبض أو التقبيض، كالسلم ؛ وكالزكاة ؛ فإنها - على هذا القول - لا تتأدى بدفعها حتى يصرفها الفقير، بل التبايع بها يجعل البيع حوالة على الدولة، والدولةُ في حكم غير المليء لأجل منعة السلطان، ولو عُمِلَ بذلك لتعطلت مصالح الناس ؛ فإن الأوراق النقدية هي وسيلة التبادل، والعملة الرائجة، في هذا العصر.

الثاني: أن التعهد المسجل عليها لا حقيقة له في الواقع، فلو تقدم أحد إلى البنك المركزي - «مؤسسة النقد «- لاستبدال ما معه من ورق نقدي بذهب أو فضة ؛ لما قبل منه، وما كان كذلك فليس له حكم السند.

الثالث: أن اعتبارها سندات يستلزم - بالنظر الفقهي - أن تكون قيمتها دينا على الدولة، والدين إنما يكون في الذمة، لا في عين السند، فلا يكون تلفها ضياعا لقيمتها، والواقع على خلاف ذلك ؛ فإن مما لا نزاع فيه أن قيمتها متعلقة بأعيانها، فمتى تلفت ضاعت قيمتها.

وأما القول بأنها «عروض تجارة»؛ فيعني أنها سلع، لأنها ليست ذهبا ولا فضة، ولا في حكمهما ؛ لعدم اشتمالها على علة الربا، وهي الوزن - إن قلنا بالوزن - أو الثمنية - إن قلنا بها - فإنها متى أسقطت الدولة اعتبارها ؛ بقيت لا قيمة لها، ولا هي بمعنى السندات ؛ لما مر، بل العقد عليها عقد واقع على القرطاس نفسه، وهو المقصود لفظا ومعنى، وهذا معنى السلعة، فتجب فيها الزكاة، ولا يجري فيها ربا الفضل، ولا ربا النسيئة.

وأجيب: بأن تلك الأوراق قصاصات لا قيمة لها في الواقع، ولا يخالف في هذا إلا مكابر، فإن الورقة الواحدة منها وإن قلت يبتاع بها ورق كثير أنفع منها، فالناس يقبلون عليها - بعد اعتمادها من الدولة نقدا - لا لأنها مرغوب فيها - بعد تقطيعها قصاصات صغيرة مشغولة بالنقش والكتابة والصور - وإنما لكونها انتقلت إلى جنس ثمني، بدليل فقدها قيمتها كليا في حال إبطال السلطان التعامل بها، وأما أنها ليست في حكم الذهب والفضة؛ فقول يأتي الجواب عنه إن شاء الله.

وأما القول بأنها «بدل من النقدين»؛ فيراد به أن الأوراق النقدية حلت محل النقدين في الثمنية، فأخذت حكمهما ؛ لأن للبدل حكم المبدل منه مطلقا ؛ ومتى زالت عنها الثمنية أصبحت مجرد قصاصات ورق لا تساوي شيئا، ولما كانت نائبة عن النقدين جرى فيها الربا بنوعيه.

وأجيب: بأن هذا مبني على أن الأوراق النقدية متفرعة عن أحد النقدين فقط، والواقع يخالف ذلك ؛ فإنه لا يلزم أن يكون غطاؤها ذهبا أو فضة، بل قد يكون عقارا، وربما لا يكون لبعضها غطاء أصلا.

وأما القول بأنها «أثمان «؛ فالمراد أن تلك الأوراق النقدية كالفلوس في طروء الثمنية عليها - بمعنى أنها صارت اليوم أثمانا عرفية - فدفعها دفع لعين مال، لا حوالة، فتبرأ الذمة من الزكاة بدفعها، ويجوز بيع الذهب أو الفضة بها ولو متفاضلين، إذا كان يدا بيد.

وأجيب: بأن التفريق بين ربا الفضل وربا النسيئة توسط جيد، لكنه يفتقر إلى دليل، فإن من قال بثمنيتها ألحقها بالنقدين، ولا يجوز - في بيع شيء من النقدين ببعضه - فضل ولا نسأ، فكيف تلحقونها بهما، ثم توجبون فيها أحد حكميهما دون الآخر ؟

والحاصل: أن من جعلها «سندات»، أو «بدلا من النقدين»؛ أجرى فيها ربا الفضل، وربا النسيئة، ومن جعلها «عروض تجارة»، لم يجر فيها ربا الفضل، ولا ربا النسيئة، ومن جعلها «أثمانا»؛ جوز فيها الفضل دون النسأ، ومن أخذ بقول أهل الظاهر قصر ربا غير المطعوم على الذهب والفضة، ولم يخرج الباحثون في هذا العصر إلى وقت قريب عن هذا التفصيل، ولهذا فلن أخوض في نقاش أقوالهم ؛ لأنها أحرقت بحثا، والكتب والدوريات مفعمة بتفصيلها، فلا معنى لإثقال المقال بإعادتها.

غير أن الطرح في أيامنا الحاضرة تغير - فيما يظهر - قليلا، فأخونا الدكتور حمزة السالم ؛ أثبت للأوراق النقدية الثمنية، ولم يجر فيها نوعي الربا، وقد أورد استدلالا، مفاده: أن علة الربا في الذهب والفضة كونهما مطلوبين لذواتهما وجوهرهما، سواء كانت ثمنيتهما عينية - أي: كما في الذهب والفضة غير المسكوكين - أو غالبة - أي: كما في الدراهم والدنانير - وأما الثمنية التي يعللون بها ربا الأوراق النقدية ؛ فلا تخلو أن تكون عينية، أو غالبة، أو طارئة مطلقة من هذين الأمرين، والأوراق النقدية لا قيمة لذواتها ؛ فإنها قصاصات أوراق لا نفع فيها، فلا تكون ثمنيتها عينية، وليست الثمنية غالبة عليها - بمعنى: أنها لم تخلق للثمنية، أو لم يغلب على الورق الثمن - فلم يبق إلا أن تكون ثمنيتها طارئة - أي: أنها لا تطلب لجوهرها، وإنما لأمر اعتباري، وهو طروء الثمنية، سواء كان طروؤها بأمر سلطاني، أو بعرف عام - فإذا كانت قد اشتركت مع النقدين في المعنى العام للثمنية، فلا يعني هذا أنها شاركتهما في العلة، لأن الشارع لم يخبرنا أنه حرم الربا في النقدين لأجل الثمنية، وإنما حرمه فيهما لأنهما مطلوبان لذاتهما، وبنى ذلك على أمرين:

أحدهما: أنه ليس في الكتاب ولا في السنة أن الثمن مما يجري فيه الربا، حتى تقاس ثمنية الورق النقدي على ثمنية النقدين.

الثاني: أنه لو كانت الثمنية علة ؛ لبطل جريان الربا في الذهب والفضة في هذا العصر، لأنهما لم يعودا أثمانا، وهذا مخالف للنص.

وإذا لم يصح في الأوارق النقدية شيء من العلل الربوية ؛ وجب التصريح بجواز بيع الريال بالريالين، ووجب إعلان هذا للناس، حتى لا يحرَموا من حق ثابت لهم، هذا حاصل ما طرحه.

وهذا منه جميل: أن يغوص في العلة، ويعمل فيها فكره، ويخرج باستدلال جيد، قائم على السبر والتقسيم، فمن سلم بهذه القسمة ابتداء ؛ لزمه التسليم بالنتيجة التي وصل إليها ؛ فإن التقسيم لديه مقرون بحكم لكل قسم، ولكن دعنا أيها القارئ الكريم ننظر في صحة التقسيم أولا قبل النتيجة، والنظرُ فيه من جهتين:

الجهة الأولى: أنه جزم بأن الذهب والفضة لم يعودا أثمانا، ومراده أنه لا يتحقق فيهما في هذا الزمن «مطلق الثمنية»، وهذا لا يصح إلا عند من قصر معنى «مطلق الثمنية» على معنى «عملة البلد»، فإن معنى «وسيلة التبادل «أوسع من كونه عملة بلد، والثمنية في الذهب والفضة متأصلة، لا تزول عنهما ما دامت الحياة، فإنهما ثمنيان بالخلقة، نعم، قد يجهل كثير من الناس مقدار التعامل بهما، لكن هذا لا يخرجهما عن وصف الثمنية، بل إن كثيرا من الناس في جميع دول العالم قد جعل الذهب مستودعا لثرواته، وأوفى من ذلك أنه العمدة في احتياطي المصارف في العالم، وهذا هو معنى الثمنية.

الجهة الثانية: أنه حكم بأن علة الذهب والفضة كونهما ذهبا وفضة، أو قل - إن شئت -: حَكَمَ بأن علتهما الثمنية العينية - وهي التي تطلب لذاتها وجوهرها - ثم أخرج الورق النقدي والفلوس النحاسية من كونهما مطلوبين لذواتهما، فالنتيجة أن الربا لا يجري فيهما وإن كانا رائجين، وقد قال في (الجزيرة - 14128): «لذا فالثمن الشرعي الذي يجري فيه الربا هو الثمن الذي يطلب لذاته فجوهره الثمنية، وأما كونه أن يصبح وسيلة للتبادل فهو تحصيل حاصل لا يثبت به حكم شرعي بوجوده».

وأنت أيها القارئ خبير بأن قول الدكتور لا يخرج عن قول الظاهرية، فإنهم حصروا الربا - فيما عدا الأطعمة - في الذهب والفضة، فأي فرق بين قوله وقولهم ؟ فإنه لم يزد على أن حصر ربا غير المطعوم في الذهب الفضة، بل نص على ذلك بقوله في (الجزيرة - 14128): «فاليوم تظهر عظمة الإسلام في انضباط هذا، مما يفسر الحكمة في تخصيص النقدين في حديث الأصناف الستة»، وليس هذا مشابها لقول مالك والشافعي، لأن العلة عند مالك مطلق الثمنية - فإنه ربط الربا فيما يسمى سكة - وعند الشافعي غلبة الثمنية - وسيأتي تفصيل قولهما إن شاء الله - لكن الشافعي فسر الغلبة هنا باشتهار ثمنيتها في الآفاق، فقد علق الحكم بهذا المعنى، ولم ينظر إلى ما فيهما من ثمنية في جوهرهما، وإن كان مقرا بأنهما ثمنيان بالخلقة، فقول كلا الإمامين دال على أن العلة في الدراهم والدنانير ليست قاصرة.

فإذا كان الدكتور يرى أن العلة قاصرة كما تقول الظاهرية ؛ فليته صرح بأنه لم يأت بجديد، فإن ذلك خير من قوله في (الجزيرة - 14128): «وما أطرحه اليوم هو طرح شرعي تناول المسألة بطريقة مختلفة تماما عن الطريقة التي بحثت فيها من قبل أربعين عاما»، وقوله: «وأرسلت له خلال هذه المدة الطرح الشرعي الجديد الذي يخالف طريقة التفكير القديمة التي بحثت فيها المسألة».

فإن لم يكن الأمر كما أذكرُه الآن من أنه متابع للظاهرية ؛ فسوف يبين لنا مشكورا ما يفترق به قوله عن قولهم، وإلى ذلك الحين لا بد من بيان متعلق الظاهرية ؛ ومقارنته بقول غيرهم، حتى نعمل بما هو أسعد بالدليل من الأقوال.

وأهل الظاهر ليس لديهم إلا أن هذا حكم لم يصحب بتعليل، فلم يجز لأحد أن يعلل برأيه، فإن حكمة الله في التحليل والتحريم لا تعلم إلا بنص.

والجواب: أن هذا ليس ببعيد عن قول الأشعرية حين نصوا على أن التحسين والتقبيح شرعيان، فلا يُحَسِّنُ العقلُ عندهم ولا يُقَبِّحُ، فلم يحرم الله تعالى الزنا لقبحه، ولم يأمر بالصدقة لحسنها ؛ إذ لا حكمة في تحريم هذا، ولا في تحليل هذا، لكن أهل الظاهر يقرون بالحكمة المستنبطة، ولا يجعلونها مناط الحكم، والأشاعرة لا يقرون بالحكمة المستنبطة، ولا يجعلونها مناط الحكم، ويشتركون في جعل العلة المنصوصة مناطا للحكم.

والأشعرية عن بكرة أبيهم- كسائر الأمة - يقيسون ربوية الذهب والفضة، وإن اختلفوا في علتها، فيرون أن الله تعالى حرم الربا في النقدين لدفع الظلم بين الناس، وتحقيق العدل والتكافل، فإذا كان بيع عشرة دراهم باثني عشر درهما محرما ؛ فلا يختلف اثنان في أن الغرض من التحريم دفع الظلم الحسي عن أحد المتبايعين، ودفع الجشع عن الآخر، ولأجل ذلك أمر الشارع الحكيم بإنظار المعسر، ونهى عن أكل الربا، ولم ير أهل الظاهر المتقدمون عملة زاحمت الذهب والفضة، من غيرهما - كالورق النقدي مثلا - حتى يعلموا أثر مذهبهم، وإنما وقفوا على سكة ضعيفة تكاد لا تذكر، وهي الفلوس التي لم تكن متداولة إلا في محقرات المبيعات، على ما يأتي ذكره إن شاء الله.

وأنا أسأل المخالف هنا: هل ربا النقدين محرم لأجل دفع الجشع والظلم بين الناس، وتحقيق العدل والتكافل، أو لغيرها؟

فإن كان محرما لأجلها، فهل يختلف الحال مع الورق النقدي ؟ فإن كان لا يختلف ؛ تبين لنا جليا أن ما نهى عنه الشارع في شأن الذهب والفضة يجب أن ينهى عنه في الورق النقدي.

وإن قيل: الأمر يختلف ؛ لأن الورق النقدي معرض للكساد في أي ساعة، وأما الذهب والفضة فلا يعتريهما كساد إلى قيام الساعة.

فالجواب: أن هذا فرق غير مؤثر، فإن الجشع والظلم يحصلان في ربا النقدين دون نظر إلى بقاء قيمتهما ؛ لأن كل أحد يأخذ الدنانير والدراهم اليوم، ويدفعها إلى غيره غدا، على اختلاف في درجة الأخذ والدفع، وما تأخذه اليوم وتدفعه غدا بقيمته أو بقريب منها لا يضيرك أن يكون أبدي القيمة، أو مؤقتها.

فإن قال قائل: إن الربا محرم في النقدين لحكمة غير ما ذكر هنا ؛ فنحن ننتظر منه بيان تلك العلة، فإن كانت قوية أخذنا بها، وتركنا قولنا، وإلا فلا بد من البقاء عليه.

المسألة الثانية: تكييف الفلوس:

سيكون الحديث عن الفلوس متناولا لأمرين، وهما: «تحقيق القول فيما ينسب إلى الأئمة الأربعة في تكييفها»، و»مناقشة أدلة المكيفين لها»:

أولا: رأي الأئمة الأربعة فيها:

الفلوس عملة نحاسية، والنحاس يباع بالوزن، فلما ضرب منه السكة المسماة بالفلوس كانت تلك السكة مغايرة لسائر النحاس من جهتين، إذ أصبحت تباع بالعد لا بالوزن، وصارت ذات ثمنية، وهذا التغير جعل الفقهاء يختلفون في تكييفها، فنحى بعضهم إلى جعلها سلعا، فلم يجروا فيها الربا، بل جوزوا بيع الفلس بالفلسين، على خلاف بينهم في تجويز النسيئة، ومال آخرون إلى أنها أثمان، فأجروا فيها الربا بنوعيه، وتفصيل ذلك أن فيها قولين:

القول الأول: أن الفلوس لا تلحق بالدراهم والدنانير، بل يصح بيع فَلْسٍ منها بفَلْسَيْنِ، وهو قول أبـي حنيفة في أشهر الروايتين عنه، ومالك، والشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد، واختاره ابن عقيل من أصحابه، وأما الزكاة فإنما تجب فيها - عند غير مالك والشافعي - من جهة أنها عروض تجارة، فلا يجزئ إخراج زكاتها منها.

ولا بد لنا هنا من تحقيق نسبة هذا القول إلى هؤلاء الأئمة، فأما أبو حنيفة فهذا ثابت عنه، لكنه أوجب التقابض فيها، وحرم النسأ، ووافقه على ذلك من أصحابه أبو يوسف، وكان المقرر في مذهب أبي حنيفة: أن ما اجتمع فيه العلتان - وهما الجنس، والكيل أو الوزن - حرم فيه التفاضل والنسأ، وقد قرروا ذلك في كتبهم، قال الكاسانـي - في بدائع الصنائع 5 - 183 -: «قال أصحابنا: علة ربا الفضل.. الكيل مع الجنس، و.. الوزن مع الجنس، فلا تتحقق العلة إلا باجتماع الوصفين - وهما القدر، والجنس - وعلة ربا النساء: هي أحد وصفي علة ربا الفضل: إما الكيل - أو الوزن المتفق - أو الجنس».

وأما ما وُجِدَ فيه أَحَدُ وَصْفَيْ علة ربا الفضل، مثل أن يوجد المعيار وحده دون الجنس - كبيع حديد برصاص - أو يوجد الجنس وحده دون المعيار - كبيع التمرة بالتمرتين - فيجوز فيه التفاضل دون النسأ، قال السرخسي - في المبسوط 21 - 8 -: «وبوجود أحد وصفي علة ربا الفضل يحرم النساء».

فأبو حنيفة، وأبو يوسف، وسائر الأحناف؛ جعلوا علة الربا في النقدين الوزن والجنس، فإذا اجتمعتا حرم التفاضل والنساء، وكان الوزن وحده أو الجنس وحده كافيا - عندهم - في جعل المال ربويا يحرم فيه النساء، كما أن علة الربا في المطعوم عندهم الكيل والجنس، فإذا اجتمعتا حرم التفاضل والنساء، وإذا وجدت إحداهما جاز التفاضل، وحرم النساء، فلما تقرر ذلك عندهم جوزوا بيع التمرة بالتمرتين مناجزة، لأن علة الكيل تخلفت، وكان ذلك يقتضي أن يجوِّزوا الدرهم بالدرهمين ؛ لتخلف علة الوزن، لكنهم منعوا ذلك، وعللوا بأن ثمنية الدراهم تمنع من تعينها، وما لا يتعين لا يصح بيعه.

قال المرغيناني - في الهداية 3 - 63 -: «ويجوز بيع البيضة بالبيضتين، والتمرة بالتمرتين، والجوزة بالجوزتين «قال البابرتي - في العناية» 6 - 161 -: «لانعدام المعيار «، أي: فلا يتحقق الربا، وذكر أنه يجوز بيع العددي المتقارب بجنسه متفاضلا، إن كانا موجودين ؛ لانعدام المعيار، وإن كان أحدهما نسيئة لا يجوز ؛ لأن الجنس بانفراده يحرم النساء.

فَهُمْ لم يفرقوا بين ما هو ربوي بنص الشرع، كالتمر، وما هو ربوي بالقياس، كالبيض، بل فوق ذلك جوزوا في التمر - مع أنه ربوي بنص الشرع - أن يباع متفاضلا إذا لم يوزن.

وقال محمد بن الحسن - في الحجة 2 - 660 -: «قال أبو حنيفة - في الحديد، والرصاص، والنحاس.. - لا بأس بكل واحد من هذه الأصناف أن يأخذ رطلا منه برطل مثله، من صنفه.. ولا خير فيه اثنان بواحد ؛ لأنه من جنس واحد وهما مما يوزن، وإن أخذت رطلا من الحديد برطلين من النحاس، أو رطلا من كتان برطلين من قطن، يدا بيد ؛ فلا بأس به ؛ لأن النوعين قد اختلفا».

وأما الفلوس الرائجة فكانوا يرونها ربويةً، وكان القياس - في مذهبهم - منعَ بيع الفَلْس بالفَلْسين ولو كانا معيَّنين ؛ لاصطلاح الناس على ثمنية الفلوس، وما كان ثمنيا لا يتعين، وما لا يتعين لا يجوز بيعه، فامتنع ذلك كما امتنع بيع درهم بدرهمين، فطردوا في الفلوس ما فعلوه في الدراهم، إلا أبا حنيفة وأبا يوسف، فإنهما جوزا الفَلْس بالفَلْسين مناجزة - أي: يدا بيد - لفقد الوزن، مع أنهما يمنعان رطل نحاس برطلي نحاس، وكَوْنُ أبي حنيفة يشترط المناجزة - وهي المقابضة - يؤكد أنه لا حجة لمن بنى على قوله جوازَ بيع الريال بريالين نسيئة.

هذا مع أنه لم يكن عند أبي حنيفة وأبي يوسف دليل على قولهما، وإنما استحسناه استحسانا، ودليل الاستحسان منكر، حتى قال الشافعي: «من استحسن فقد شرع «، ولهذا أنكره محمد بن الحسن، وسائر الحنفية، فأجروا الربا في الفلوس، قال محمد عبد الحي اللكنوي - في شرح الجامع الصغير لمحمد بن الحسن 1 - 335 -: «لو باع فلسا بفلسين فالمسالة على أربعة أوجه... وإن كان الكل أعيانا ؛ جاز عند أبـي حنيفة، وأبـي يوسف، استحسانا، وقال محمد: لا يجوز».

ومما اعتَرض به أصحابهما: أنها أثمان، كالدراهم، والثمني لا يتعين بالتعيين.

ثم اعتذروا لهما: بأن ثمنيتها اصطلاحية، والمتعاقدان بعض أهل الاصطلاح، فلما أقبلا على بيع الفلس بالفلسين ؛ كان ذلك رجوعا منهما عن ذلك الاصطلاح، فأبطلا بذلك الثمنية عندهما - أي: عند المتبايعين - وكان مقتضى إبطال الثمنية أن ترجع إلى أصلها، وهو الوزن، وحينئذ يبقى فيها علتان، وهما الوزن، والجنس، وهذا يحرم التفاضل والنساء، ولكنهم أجابوا: بأن نص المتبايعين على الواحد والاثنين يعني أن اعتبار العدد ما يزال معتبرا عندهما، فكان رجوعهما عن الثمنية غير مستلزم رجوعها إلى الوزن، بل تبقى الفلوس على العد.

وكان ذلك اعتذارا باهتا، ولهذا نص محمد بن الحسن وغيره على أن الاصطلاح لا يتجزأ، وقد تثبت باصطلاح الكل، فلا يبطل باصطلاح المتعاقدين، لعدم ولايتهما على غيرهما، بدليل أن المتعاقدين لو أرادا الاصطلاح على ثمنية فلوس كاسدة - أي: قد أبطلها السلطان - لـما كان اصطلاحهما معتبرا في حق الناس، ولا في حقهما، ومن قال: إن الأصل في الفلوس أن تكون عروضا، فيعتبر اصطلاحهما على الأصل، ولا يعتبر اصطلاحهما على خلافه ؛ فقد ارتكب كلفة ظاهرة ؛ لأن الاصطلاح العام في الناس غير الاصطلاح الخاص بشخصين، كما لا يخفى.

وبذلك تبقى الفلوس أثمانا، وإذا بقيت أثمانا فإنها لا تتعين باتفاقهم، فلا فرق بينها وبين ما إذا كانت بغير أعيانها، فإنهما إنما جوزا التفاضل بين الفلوس المعينة فقط، ومنعاه في غير المعينة؛ لأن بيع غير المعينة بمعنى بيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه، وقد تبين أنها لم تنفك عن الثمنية، والأثمان لا تتعين، فلا فرق إذن بين ما جوزاه وما منعاه، وصار كبيع الدرهم بالدرهمين.

ويأتي في الحلقة الثانية - إن شاء الله - تحقيق قول مالك، والشافعي، وأحمد، في مسألة بيع فلس بفلسين، ويتلوه في حلقة أخرى - بإذن الله - مناقشة أدلة القولين، وحديث عن «إلحاق الورق النقدي بالفلوس»، وبيان لمصطلح العلماء في التفريق بين المذهب وقول الإمام.

يتبع غداً

bejady@yahoo.com
 

جريان الربا في الأوراق النقدية (1 - 3)
بقلم : د. عبد العزيز البجادي
د. عبدالعزيز البجادي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة