Friday 04/11/2011/2011 Issue 14281

 14281 الجمعة 08 ذو الحجة 1432 العدد

  
   

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

وحدة وطن

 

فلسفة الرعاية الأبوية لدى سلطان الإنسانية - رحمه الله -:
أبوة سلطان بن عبدالعزيز شملت جميع أبناء شعبه

رجوع

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أبوة سلطان لم تكن لأولاده وحدهم، فقد اتسع حنانه وعطفه لكل أبناء شعبه وأمته كما هو معروف في كل أعماله وإنجازاته. ولكن جدير بنا أن نتحدث عن سلطان مع أسرته وعن منهجه في التربية والتعامل مع أبنائه، وما تعلمه هؤلاء الأبناء من حياته الخاصة والعامة، فحياته المزدحمة بالمشاغل والمسؤوليات والهموم لم تشغله قط عن تفقد أحوال أسرته، ولم تشغله قط عن الاهتمام بأمور تربية أبنائه وأحفاده الذين لم يتوان يوما عن إعطائهم حقهم من الرعاية والمتابعة والمحبة والحنان.

ورغم أن أسرة سلطان بن عبدالعزيز كبيرة إلا أن قلبه أكبر، إذ لم يتسع لأسرته وحدها بل وسع شعبه وأمته والإنسانية كلها وقد تمثلت تربية سلطان لأولاده في إحساسهم بالمسؤولية واستشعارهم لها، كما اجتهد الأمير سلطان في غرس حب الوطن والتضحية في سبيله بينهم، كما أنه لم يكن قاسيا شديدا ولا رحوما لينا، لذا يمثل الأمير سلطان دور الأب المثالي بمعناه الحقيقي داخل أسرته، ويكفي أبناءه أنه قدوة لهم، لذا خلف جيلا من الأبناء نالوا ثقة ولاة الأمر، وتسلموا مناصب قيادية وحساسة، يأتي على رأسهم مساعد وزير الدفاع والطيران للشؤون العسكرية الأمير خالد، الذي اعتلى أخطر منصب خلال حرب الخليج الثانية حينما تسلم قيادة القوات المشتركة، وكانت نجاحاته نابعة من كونه تخرج في مدرسة سلطان، التي نهل منها أعظم الدروس في القيادة والحنكة، كذلك أمير منطقة تبوك الأمير فهد بن سلطان الذي شهدت في عهده المنطقة تطورا ورقيا ملحوظا بعد أن قضى وقتا طويلا في منصب نائب الرئيس العام لرعاية الشباب، ولعل الأمين العام لمجلس الأمن الوطني الأمير بندر بن سلطان أحد الذين لعبوا دورا بارزا في السياسة الخارجية إبان عمله سفيرا لحكومة خادم الحرمين الشريفين في واشنطن. أيضا الأمير فيصل بن سلطان الذي كان له السبق في تطوير مدينة الأمير سلطان الإنسانية، حتى أضحت قبلة تربوية وأكاديمية وإنسانية، وكذلك مساعد وزير الثقافة والإعلام الأمير تركي بن سلطان الذي مزج بين العلم الأكاديمي والممارسة في العمل في مجال الإعلام، وتدرج حتى اعتلى منصب مساعد الوزير.

وما أكثر ما ردد سلطان بن عبدالعزيز على مسامع أولاده وبناته حكمة جدهم العظيم الملك عبدالعزيز: إن الإنسان لا يكون إنسانا كما فضله الله على كل المخلوقات إلا إذا أصبح صاحب رسالة في الحياة، وصاحب مبادئ وخلق ودين يضبط بنفسه ويهذبها ويملك عليها شهواتها وأنانيتها لتعطي للآخرين، وتجد في هذا العطاء القيمة الحقيقية للحياة.

ولعل المصدر الأهم الذي بين أيدينا وفيه نجد وصفا لسلطان بن عبدالعزيز من داخل بيته هو كتاب (مقاتل من الصحراء) للأمير خالد بن سلطان الذي يتعرض فيه الابن لمواقف تربوية وإنسانية عاشها وتعلمها من والده، جديرة بأن نقف عندها، فتكون مثلا لتربية سلطان لكل الآخرين الذي لم يتح لهم فرصة الكتابة عن هذا الأب العظيم.

يقول الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز عن طفولته الأولى واضعا سلوك والده التربوي معهم وشخصية أمة:

(من الأمور التي علقت بذاكرتي منذ أيام الطفولة أن أبي كان يخصص وقتا يجلس فيه معنا، مهما عظمت مشاغله. وكانت وجبة الغداء مناسبة مهمة فنجتمع كل يوم في بيت جدتي، حصة بنت أحمد السديري أرملة الملك عبدالعزيز، وهي سيدة مرموقة تكنى بـ(أم فهد)، اسم ابنها الأكبر، الملك فهد. كنا نذهب جميعنا إلى بيتها، الملك ووالدي وأعمامي وعماتي وكل أبنائهم وبناتهم. كان اجتماعا يوميا حاشدا لا ينقطع. ومن بين أعمامي جميعهم، ربما أكون الأقرب إلى الأمير سلمان بن عبدالعزيز، أمير منطقة الرياض، فهو لي نعم الصديق والناصح الأمين. ساعدني على حل كثير من المشاكل بما في ذلك مشاكلي الشخصية. وللأمير سلمان جهوده العظيمة وبصماته الواضحة التي لا ينكرها أحد في التطوير الهائل لعاصمة المملكة.

كانت (أم فهد) شخصية قوية يحترمها الجميع، وتمتزج مشاعر القوة لديها بمشاعر الحب والحنان. لقد فاتني، للأسف، أن أستمع إليها جيدا أيام طفولتي لأتعلم منها دروس الماضي. ويخطئ الغربيون في اعتقادهم أن النساء لا يحظين بالاحترام في مجتمعنا. فهذا الاعتقاد مجاف تماما للحقيقة والواقع. فتأثير النساء في بيئة المنزل في بلادنا عظيم، وبلا حدود. وعندما توفيت (أم فهد) في عام 1969م، لم ينقطع والدي عن تناول الغداء مع عائلته في بيت أمي في الرياض أو في جدة، حيث يجتمع أبناؤه وبناته، إذا تصادف وجودهم مع أزواجهم وأبنائهم.

استطاع والدي بهذا التقليد أن يجمعنا ويؤلف بيننا ويشجعنا على الحديث ومناقشة كثير من الأمور والتعبير عن آرائنا، في حدود اللباقة والاحترام. كان تقليدا رائعا حقا، تقليد يسر المرء أن يشهده ويشارك فيه. كان فرصة يومية، إلا إذا حالت دونها ظروف قاهرة، أن أنعم برؤية أمي وأقبل يدها وأتشرف بالجلوس إليها وأفوز بدعواتها وأتجاذب معها ومع إخوتي وأخواتي أطراف الحديث).

ويتعمق خالد بن سلطان في وصف أساليب والده التربوية في التعامل معه، والدروس التي اكتشف أهميتها وفهمها بعد أن تقدمت به السن، فازداد تقديرا لعظمة والده، يقول:

كان ينتابني، في صغري، شعور بأن أبي لا يحبني قدر حبه لإخوتي، وأنه يفضلهم علي. ولكن عندما أصبحت رجلا تبين لي أنه يحبني حبا جما، وأن ما حسبته قسوة منه، لم يكن سوى محاولة منه لتربيتي وتهذيب شخصيتي. فلا غرو أن أحمل له حبا لا يماثله حب، واحتراما لا يدانيه احترام. ولا أملك إلا أن أخفض له جناح الذل اعترافا بفضله.

بدأ والدي يصطحبني معه في رحلات الصيد بالصقور ولما أتجاوز التاسعة أو العاشرة من عمري. وهي رحلات قد تستغرق أسبوعا كاملا. كما عهد بي إلى أحد أصدقائه وأتباعه، وهو رجل من أعيان قبيلته، اسمه الشيخ محمد بن خالد بن حثلين، عمره من عمر والدي أو يكبره قليلا. كان الشيخ محمد يحب الصيد، وكان يصطحبني وأخويّ فهد وبندر، ويعلمنا أصول الحياة في البادية.

ولما كان سلطان الأب على وعي تام بأهمية الشدة المعتدلة في التربية التي تجعل الابن يعتمد على نفسه لا على نسبه أو مكانة والده. يروي خالد بن سلطان أهم درس تعلمه في حياته عن العصامية والعدل والاعتماد على النفس، فيقول:

(كنت ألح على والدي ليرسلني إلى ساندهيرست قبل أن أنهي دراستي الثانوية. كنت أتعجل الذهاب، لأنني لم أكن أعرف ما ينتظرني هناك. لم أكن مقتنعا بتأجيل التحاقي بالأكاديمية، في حين التحق بها أربعة من أبناء عمومتي قبل أن ينهوا دراستهم الثانوية).

لكن الأمير سلطان كان حازما في قوله لي: (دعك من الآخرين ولتكمل دراستك الثانوية أولا. أريدك أن تنهج النهج الصحيح إذا كنت تريد الالتحاق بساندهيرست حقا. عليك أن تفعل كما يفعل الشاب الإنجليزي تماما. لابد من أن تحصل على مؤهلات زميلك الإنجليزي نفسها، فالدراسة العسكرية لا تقبل أقل من الشهادة الثانوية.

أنهيت دراستي الثانوية بعد ذلك بسنتين وعندها قال لي أبي: (جاء وقت الاختيار، في وسعك إن شئت أن تتخلى عن فكرة الدراسة في ساندهيرست وتلتحق بالجامعة. لن يملي أحد عليك اتجاها، فالاختيار لابد أن ينبع من داخلك. ولكن إذا قررت الالتحاق بساندهيرست فعليك أن تمضي حتى النهاية. وإذا فشلت فلا أريد أن أرى وجهك مرة أخرى. عليك أن تنظر إلى ساندهيرست كجواد جموح، إذا جفل منك فعليك أن تلحق به مهما كانت الصعاب). راودتني نفسي مرات عدة، في الأسابيع الأولى من الدراسة، أن أتخلى عن محاولة اللحاق بالجواد الجموح، ولكن كلمات والدي كانت تشحذ همتي وتشد أزري).

وبالفعل دخل خالد بن سلطان الكلية، وفي أثناء دراسته أصدر الأمير سلطان أوامره المشددة أن لا يرسل أحد إلى ابنه أي مال حتى ولو كانت أمه. يصف خالد بن سلطان هذا الدرس وما أفاده منه فيقول:

كان نادر، ابن مربيتي، في صحبتي في بيكونسفيلد وقد أرسله والدي معي، لأن نادر كان مثلي حريصا على الالتحاق بأكاديمية ساندهيرست.

أصدر والدي الأمير سلطان تعليمات مشددة بألا يرسل أحد إلي، بمن في ذلك أمي، أية نقود، وكان يفترض أن يكفيني المبلغ البسيط الذي كنت أتلقاه شهريا من اللواء مشهور الحارثي الملحق العسكري في لندن (كان اللواء الحارثي وزوجته في غاية النبل معي، ولا يزال ابنهما نائل الذي تخرج قبلي في ساندهيرست من أصدقائي المقربين). وفي يوم من الأيام وصلني خطابان من أمي، أحدهما موجه إلي والآخر إلى نادر. كان خطابي يفيض شوقا وحنانا ودعاء بالتوفيق، أما خطاب نادر فكان فقرة قصيرة مرفقا بها شيك بمبلغ مائة جنيه إسترليني. وقعت عيني على الشيك عندما فض نادر خطابه. فقلت له: (اسمع يا نادر أنت بمثابة أخ لي، ولا فرق بيننا. لم لا نضع نقودي ونقودك وننفق منها معا؟). وفكر نادر للحظات، ولعله قال في سره، إذا كانت أم خالد قد أرسلت إلي بمائة جنيه فلابد أنها أرسلت إليه ألفا).

ولم يكن نادر يدري أن أم خالد لم ترسل لابنها خالد شيئا قط تنفيذا لتعليمات والده. وكانت تعليمات الأمير سلطان واضحة ومشددة في أن تتم معاملة أولاده في مواقع التعليم والعمل مثل الآخرين دون مجاملة أو تساهل أو اعتبار لمكانة أبيهم.

ويصف خالد بن سلطان كيف تم تنفيذ هذه التعليمات أثناء التعامل معه عندما كان طالباً بالكلية العسكرية في بريطانيا، فقد تعرض للحبس في المعسكر لمدة ثلاثة أسابيع عندما وكز بمؤخرة بندقيته زميلا له أساء الأدب حيث قال له: (صه أيها العربي الغبي)، ومع أن تصرفه كان دفاعاً عن الإساءة لهويته القومية إلا أن الأوامر العسكرية صدرت بحبسه، ولم يشفع له مجيء أمه إلى لندن للعلاج بإطلاق سراحه إلا لفترة وجيزة.

(وحدث أن كانت أمي، في تلك الفترة، تعالج في لندن من أزمة ضيق في التنفس، ولم أتمكن من الخروج لرؤيتها؛ إذ كنت وقتها رهين الحبس في المعسكر. وكانت سعادتي لا توصف عندما جاءت هي في صحبة إحدى أخواتي لرؤيتي. لم تكن أمي تعرف أني كنت أنفذ عقوبة الحبس. ولم أتمكن من الجلوس معها أكثر من عشر دقائق. كانت في غاية التعب ولا تقوى على المشي، واكتفينا بالجلوس في سيارتها، بينما التهمت طبقا من (الكبسة) الشهية (أكلة من الأرز واللحم على الطريقة السعودية) أحضرته معها، فأتيت عليه. كانت، مثلها مثل كل الأمهات، تخشى أن تكون تغذية ابنها أقل مما يجب).

ويعترف خالد بن سلطان بأن ما تعلمه من تربية أبيه هو احتمال الأذى، والصبر على ما تأباه النفس وما لم تتعوده. فالدرس من معاملة الأمراء معاملة الناس الآخرين يشعرهم بمعاناة غيرهم عندما يتعرضون للمواقف والمعاناة نفسها، وفي هذا منتهى العدل والإنصاف. يصف الأمير خالد هذا الدرس بقوله:

(ولعل من الإنصاف أن أعترف هنا بأنني عندما التحقت بساند هيرست كان وزني زائداً ولياقتي البدنية ضعيفة وكنت مدللا بعض الشيء. ولما كنت أميراً شاباً في المملكة، فلم أكن مضطراً إلى خدمة نفسي. صحيح أن مربيتي بشرى كانت تقسو عليّ أحياناً، إلا أنني لم أتعود تنظيف دورات المياه، ولم أتعود أن أُنادى بأقذع ألفاظ السباب، مثل: (أيها التافه، الكسول، اللعين، الفاسد). كان الرقيب أول راي Ray يخاطب سريتنا مزمجراً: (أنا أناديك قائلاً: يا سيدي، وأنت تناديني بقولك: يا سيدي، والفرق الوحيد هو أنك تعني ما تقول، بينما لا أعني أنا شيئاً مما أقول).

ويُروى أن الملك حسيناً، عاهل الأردن، كان يلقى المعاملة نفسها عندما التحق بأكاديمية ساند هيرست، قبل أن ألتحق بها بعشرين سنة، كان رقيب أول السرية يصرخ في وجهه أثناء التفتيش: (أي ملك كسول أنت اليوم يا سيدي!).

وقد علمت أن كلمة (كسول) تستخدم في تدريبات الجيش البريطاني لوصف كل نشاط لا يستنفد الطاقة القصوى للعضلات والأعصاب للمتدرب. كان إخوتي وأبناء عمومتي يدرسون في جامعات مختلفة، يهنؤون برغد العيش وكل صنوف المتعة، بينما كنت أنا في ساند هيرست أعالج قدمي المتقرحتين، وأزحف على ركبتي، مستخدماً فرشة تلميع الأحذية لمسح البلاط! فهل أخطأت الاختيار؟) .

ونتيجة لهذه التربية العادلة، والعصامية في التعامل مع الذات، يصف خالد بن سلطان هذا الأثر في حياته العسكرية العملية بعد عودته إلى المملكة باستبعاده من باله أثناء عمله أنه ابن وزير الدفاع وأن عمه الملك، فيقول:

(بدأت أشعر بقدرتي على القيادة في تبوك وأنظر إلى عملي العسكري بقدر كبير من الجدية. فقد عاينت ثمار غرسي في مثل تلك القيادة الصغيرة بعد وقت وجيز، في حين لو كنت قائد لواء لاستغرق الأمر شهوراً عدة قبل أن تظهر ثمار التغير. تحولت بفعل 20 شهراً من العمل الشاق في تبوك إلى جندي محترف. كان من الممكن أن تسير الأمور خلافاً لذلك، فالملك عمي ووزير الدفاع والدي. وكان في وسعي الحصول على عمل مُرفَّه يروق لي، في الرياض أو في قلب مدينة جدة، لكنني آثرت العمل هناك في قلب الصحراء، في الوحدات الميدانية. كنت أريد أن أثبت وجودي. لم تكن نقطة التحول الحقيقية في حياتي هي تخرجي في أكاديمية ساند هيرست، ولا هي تعييني قائداً لقوات الدفاع الجوي السعودي، ولا قائداً للقوات المشتركة. كان تعييني قائداً لسرية الدفاع الجوي (سرية الخندق) في تبوك هو نقطة التحول الحقيقية في حياتي) .

 

رجوع

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة